انتباه (قصة قصيرة جدًا)

اقتنيت شجيرة صغيرة، وضعتها في زواية الغرفة، كنت اسقيها متى احتاجت لذلك .. مع الوقت، نبتت لها أعين، فصارت تلتفت إلي كلما مررت ماشية أمامها ، أو حولها. تلاحقني بنظراتها كتعويذة يومية لا أفعلها لنفسي. لم ألحظ ذلك في البداية، لكن حين أدركتها، صارت تغمض عينيها كلما جاورتها. أظنها لا تريدني أن أكشف سر العينين، ولا سر الصلوات. بعد فترة، أطلت في عدم ريها، فصارت تحدق فيّ بكاملها، وكأنها تعاتبني على النسيان والرعاية، تساقطت أوراقها، لاحظت ذلك، لكن شيء في داخلي دفعني لتركها دون اكتراث، أمر عندها فأكنس أوراقها وأمضي. ذات يوم، رأيتها تكفلت بسقاية نفسها، رأيت دموعها، لقد بكت حتى ارتوت، وعادت نضارتها .. عند ذلك المنظر، بقيت مذهولة، مع حزن غريب، لكنها لحظة مهمة في تاريخنا، لحظة أعادت اهتمامنا ببعضنا.

عبث بسيط

مصابة منذ مدة طويلة بصعوبة في الكتابة، حتى لو كان نصا قصيراً، أو قصاصة صغيرة، أو عبث بسيط، ليس لأني لم أعد أكتب، أو لأن الكتابة تتعسر بين يدي، بل ربما لأن صوتي ضاع يومًأ في حضرة أصوات كثيرة وصاخبة، فهرب مني فزِعًا وانزوى في مكان أجهله، ولم أستطع حتى اللحظة اكتشاف الممر الذي اختبأ فيه .. ومع ذلك، فمن يكتب، لا يستطيع أن يتوقف عن الكتابة بشكل قاطع، حتى لو اختنق صوته، أو احترقت أصابعه، فسيحاول أن يجمع الحروف ، ويكتب ..
لطالما أعرت الجمادات مشاعر البشر وتحدثت بلسانها، فعلت ذلك دائمًا مع أغراضي التي أتركها وحيدة خلال سفري، وكذلك مع أماكني المفضلة حين أغيب عنها طويلاً .. ربما ألبسها مشاعر أريدها وأحسها أو أتخيلها، فتكون لائقة بها .. وقد فعلت ذلك أيضًا في هذا العزل بطبيعة الحال، فقد فكرت كثيرًا في الأماكن التي هجرناها ونحن نحبها..
كالمقاهي التي أعتدنا زيارتها كيف انطفأت خلال هذه الأيام من الداخل بشكل كامل، وتساءلت بشكل عابث عن الأكواب فيها، فكيف تقضي وقتها في هذا الظلام؟ كيف تمرر وحدتها؟ هل أقامت احتفالاً على الرفوف دون علمنا؟ أم أنها تعانقت شوقًا لنا ولأكفنا التي كانت تلمسها بإستمرار؟
ماذا عن حبيبات القهوة التي تحبس أنفاسها طويلاً، خشية أن يتغير طعمها، فتخذلنا بعد وقت؟!
ماذا عن الكراسي، هل تعبت من الوقوف فمالت ونامت؟
ألم تفكر كل هذه الأشياء في الغموض الحاصل؟ ألم يخترعوا قصصًا تحكي اختفاء البشر؟ ألم تطلق علينا نكاتًا وتسخر؟ فلا أحد يأتي، لا أحد يمر، لا أحد يطلبها في ورق أو خزف، بقهوة محمصة أكثر، أو مخففة! بالحليب أو دونه !
هل يجرون أبحاثًا خلف أسباب اختفائنا؟ وماحقيقة تخلينا عنهم دفعة واحدة؟ أم أنهم لا يبالون ولا يكترثون بنا ؟!
ماذا عن عواميد الإنارة التي كانت تشهد السباقات السريعة في الشوارع؟ والجنون في الحوادث؟ هل غفت الآن بعد أن كانت تنام بجفن مفتوح ؟
ماذا عن البحر؟ هل ماج فرحاً بأن لا أحد عاد إليه يرمي مخلفاته في بطنه بلا اكتراث ؟ هل غنا مع الشمس الشارقة ومن ثم الغاربة وتبادلا القبلات علنًا؟
ماذا عن كل تلك الأماكن التي أعتادت أن يكتظها الناس، واليوم لا أحد يمر بها، غير قط يختال وحده فيها، أو ورقة سقطت من جيب أحد ، وظل يجرفها الهواء حتى ساقها إلى آخر المدينة !
ماذا عن كل الأشياء التي أعتدناها ، والآن نتخلى عنها قسرًا .. هل سنعود إليها ونحن نحمل فينا ذات الحنين ؟ لا أعرف، ولا أجرؤ على تخيل الأمر ..

على شكل وشم

النص الثامن من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

تميل دائمًا للصمت دون أن تعرف بأن صمتها يعني ترك مساحة حرة وكاملة للآخرين بكتابة نصوصهم الخاصة عليها، كأن تتحول لدفتر مذكرات، وكتاب رسائل ..
تجلس اللحظة على أريكتها متحلزنة، ترفع صوت الموسيقى، وتترك لتلك النصوص أن تنطبع كالوشم في دماءها السائلة، إنها المعجزة التي تدركها ولا يدركها سواها، أن تكون مسرحًا لوشم الأحرف والكلمات ..
تغمض عينيها، وتترك لمشاعرها أن تعيد كتابة الحياة في أروقة روحها، سطر وراء سطر، حرف يعاند الآخر، فكل الراحلين والعابرين لا يتبقى لها منهم سوى اللغة والحرف، إنها الأفكار التي تسطو عليها دون رغبة كاملة منها حين تودّع أشخاصًا باستمرار.. إنها النصوص التي تنحفر في عظامها لتصير بينها وبينها متحف فني لأعداد المارين.. لا تتذكر مرة أنها نست الحكايا أو الدموع أو الضحكات.. لكنها تصحو أحيانًا وحيدة دون أحد .. تتحسس جلدها لتقرأ صوت حبيبها، وتسمعه كخيال كان أوحقيقة، كالكفيف الذي يتحسس لوحة القراءة، ويرى كافة الكلمات تستنجد به ليلمسها، وهي تفعل، تتلمس كلماته كلمة كلمة، وتعيش في تفاصيلها الصغيرة رغمًا عن المسافة والصمت .. ربما، هو الحي الوحيد في روحها، ذلك الذي ينمو كلغة كاملة متفردة لا تشبه أي اللغات .. هو غابة الحكايا، والنصوص، والقصائد ..

لا تعبث بما تركه الآخرون فيها، حتى تلك التي يقال لها في السائد ندبًا أو جرحًا، فقط تحاول إعادة قراءة الأشياء باتساع، تقرأها كلغة جديدة، كفكرة، كنصوص ركيكة أحيانًا وبليغة أحيان أخرى، إنها تتمعن الحياة من خلال حدقاتها، ثم تستعير من لغة الأصدقاء المنسية فيها رؤية أخرى، وتأخذ مراراً برأي النصوص المتروكة لأشخاص مرّوا بشكل حقيقي أو أولئك الذين مرّت بهم عبر نصوصهم وكتاباتهم فطَفَت لغتهم على جداران عقلها وقلبها دون عناء محاولة التذكر؛ من قال ذلك أو من حاول إقناعها بعكس ماقيل ..

لطالما قالت، أنه مهما حاولنا التجرد أو حاولنا التظاهر بأن كل مالدينا هو نحن الخاصة، فربما الأمر معقدّ بلمحة جميلة أحيانًا، وهو أن كل الأشخاص المارين والعابرين وأصدقاؤنا، خصوصًا الذين نحبهم، يكتبون داخلنا نصوصهم الطويلة، تلك التي نظل نقرأها عمراً كاملاً دون أن نتفادى نقطة، أو فاصلة، أو علامة استفهام! تلك التي نقرأها من البداية إلى النهاية، ومن النهاية إلى البداية، أو نقرأها من خلال سطر وترك سطر، وكلها تؤدي لمعانٍ لا نهائية.
نحن نتكوّن من نصوص كثيرة، ونترك نصوصنا الخاصة في أرواح الآخرين .. نتركها أحيانًا لتعيد لنا الوجود في الدم والروح التي نحب على شكل وشم ..

وجه للوحدة

النص السابع من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

وقفت في مقدمة طابور الانتظار، كان الهدف أن تحظى بالمقعد الاول عند النافذة باعتبار أن المحطة التي تصعد منها هي الأولى أي أن الأمر ليس في غاية الصعوبة. كانت امرأة جميلة جدا، بعينين زرقاوين، وجهها يحمل ملامح متناسقة ، هادئة، وصغيرة، تلبس فستانًا أسود قصير مرقط بلون أصفر، شعرها الذهبي منسدل على كتفيها، جلست على المقعد الذي أرادته بعد صعودها الباص فورًا، وضعت حقيبتها على حجرها، مدت يدها على شعرها ثم رفعت نصفه، أخرجت نظارتها الشمسية من علبتها ووضعتها على عينيها، ثم أخيرًا أغلقت أذنيها عن العالم وضجيجه بسماعتها .. ربما كان المشهد متكررا حتى اللحظة، إلا أنه لم يكن كذلك بالنسبة لي، حيث أني رأيت فيها نموذجا استثنائيًا من الراكبين، وكأنها لم تصعد هذا الباص وفي هذا الوقت المزدحم جدًا لأنها تريد العودة للمنزل، أو مقابلة حبيب، أو للذهاب في نزهة، بل لأجل غرض آخر ..
كان الباص مكتظًا بالكادحين الذين انصرفوا للتو من أشغالهم،غير أنها الوحيدة منهم أدركها شعوري، والتفت إليها إحساسي، ففي اللحظة التي كنت أشعر بنفسي اختنق في هذا التكدس، توقفت عيني عندها طويلًا، فقد كان فيها ما يُلفت النظر، إذ رأيتها تميل برأسها على النافذة، ثم تحاول أن تدس وجهها بأكمله على الزجاج، ظننتها في بادئ الأمر أنها تحاول أخذ غفوة لطي المسافة والتعب، لكن الحقيقة أنها لم تفعل، استمر رأسها مائلًا، وجسدها بأكمله مدفوعاً إلى جهة النافذة. بدأتُ ألمح حركة على وجهها، كعضها لشفتها بانكسار، وتحول وجهها الصامت جدًا إلى وجه حزين، كانت ترفع يدها بشكل متكرر لمسح شيء ما على خدّها.. عندها عرفت، وتبين لي أنها دموع، فما أن تخرج تلك المُلُوحة عن إطار النظارة حتى تعاود تمرير أصبعها بسرعة لتكفكف وتمسح وتخفي. إنها تحاول إخفاء حزن يخلع قلبها من مكانه. كانت قد اختارت الوقت والمكان الذي لن ينتبه إليها فيه أحد، فكل القاعدين والواقفين لاهم لهم -في تلك الساعة-  غير الوصول إلى منازلهم بعد تعب نهار كامل، عداها، لم تكن تأبه لأي محطة، ولا تلتفت لتلك الكثرة، بل كانت غارقة تماما في بكاءها ودموعها التي تظن بأنها لا تُرى، كان من الملاحظ أنها قد حسمت أمرها بممارسة تعاستها ووحدتها في هذه الظروف، ربما لأجل أن لا تبكي وحيدة في سريرها، فصخب المكان قد يخفف عن نفسها وطأة الوجع، أو ربما هاربة! هاربة مع دموعها وبصحبة غصتها من محيط معروف لمجهول، باحثة عن خصوصيتها -التي لا تستطيع ممارستها في بيتها الخاص- في أكثر الأماكن عمومية، أرادت البكاء دون أن تكون مجبرة لتبرر لأحد سبب ذلك، فغالبًا في الباص لن يسألها أحد لمَ تبكي، ولن يمد أحد يده للمساعدة، ولن يكون الأمر بذاك الاغراء للتطفل أو الفضول، عدا أن يكون شخص نبيل جدًا وإنساني جدًا، حد أنه لن يهتم بشيء في تلك اللحظة، سوى بفتاة تجلس على مقعد غير آبهة بأحد، وتبكي!

رتابة

nicola

النص السادس من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

ولا أظن أنها كانت نائمة، إلاّ أن بزوغ الشمس هو دليل يفصل بين يوم وآخر. تحسست فضاء سريرها البارد، انزلت أحد أقدامها لتلامس الارض، ثم ألحقت رجلها الأخرى بأختها .”بدء روتين يومي آخر” هذا مارددته في نفسها، جلست على السرير عدة دقائق. ثم مشت بخطى غير مستعجلة إلى المطبخ، سخنت القليل من الماء، سكبت قهوتها في فنجانها المعتاد.. أخذت تقرأ أول كتاب سقط نظرها عليه. رشفت رشفتين من القهوة ونسيتها حتى بردت. صنعت كوبا اخر، حاولت الكتابة، كتبت أشياء مبعثرة على قصاصات ممزقة كما هي العادة، بردت القهوة للمرة الثالثة، صنعت كوباً آخر و جلست على مكتبها هذه المرة. مدت يدها لحزمة الأوراق المبعثرة أمامها و سحبت أحدها وأخذت تنظر ثم أطالت النظر في النص المكتوب كان النص يحاول مخاطبة أبطالها المغمورين الأحياء بقوة داخل قصصها! كانت السمة التي تطبع أجواء يومها وحياتها، البرود، الصمت، الوحدة. لا تتظاهر بالسعادة ولا تتظاهر بالحزن، لا تتحدث إلى أحد سوى افتعالها المحادثات التي تبدأها مع شخصيات قصصها الناقصة، كأن تقول لبطل قصتها: أنت أحمق، الحياة ليست من هذا الاتجاه!
أحياناً تتبادل الحديث أو الشتائم عبر تعليقاتها في هوامش كتّاب قد ناموا تحت الارض منذ زمن بعيد. هي تعيش بهذه الطريقة دون أن تشعر بالضجر. قد سئم الضجر ملاحقتها بعد أن أعارته اهتماماً في وقت مضى في عدة فصول من حياتها، أما الآن لم تعد تراه أو تحسه. تعيش دون إحساس تقريباً. لاتشعر بأية آلام سوى تلك الأوجاع التي تطولها من عدم نومها على وسادتها بشكل صحيح.. وآلام ظهرها التي تزورها بعد أن تعيد ترتيب البيت.. وتنظيف النوافذ والجدران.. تلك الأوجاع التي تأتي من الجسد.. لكأن أوجاع الحياة قد انطبعت على قلبها حتى أنها ماعادت وجعا.. صارت الوجه الأحادي لقلبها.. باختصار لم تعد تشعر بشيء يرتبط بإحساسها الداخلي!

كان يمضي اليوم والاخر وهي تعاود تكرار الأشياء ذاتها.. لا تتداخل عليها الأيام بل تأتي منسابة، لا تحاول أن تعيش بعكس الاتجاه، لاترفع صوتها على أحد، لا تشتم الأخبار، لا تعترض على السياسية. لم تعد تعرف ولا تكترث لرغباتها، تعيش كما تدعي وفقاً للضروريات.
يحدث أن تتجرأ على الخروج من حصنها، منزلها، أو قصرها المذكور في شعر نزار والذي لطالما رددته “حبيبة قلبك ياولدي نائمة في قصر مرصود” كما أنها ذكرته في أحد القصص التي كتبتها. كانت تجبر نفسها على المشي في الشارع الذي يرفض خطواتها لتزور البقالة كريح مسرعة مرة كل أسبوع، وتعود.. كان يعرف السيد صاحب البقالة مالذي ستشتريه وكم ستنفق خلال هذا اليوم بل حتى خلال الشهر! حاول أكثر من مرة أن يحدثها كأحد الجيران لكنها لم تكن لتهتم بحديثه ولا سؤاله: مرحبا ياسيدة.. كيف حالك؟
عقلها قد تبرمج على أن هذا الحديث العابر يخرج من لسانه بشكل عفوي دون تميز أو تخصيص، حديث غير مهم، سؤال تافه لا جواب له، ولهذا لا تجد الرد يخرج منها ولاتكترث لعادته في السؤال!
لا يغريها شيء.. لا تنتظر أحداً.. لا تعتبر أي النهايات كما يتضح من قصصها الناقصة والمتروكة هي نهايات حقيقية.

كانت قبل أعوام تكتب نهاية قصة وجودها على زاوية الجدار وذيلته بتاريخ، ثم كتبت ، الساعة “الموت”. نعم كان أملها أن تموت في تاريخ ووقت ترتبه هي وأملت في تحقيق أمنيتها الوحيدة لتقف على النهاية اخيرا، وصلت لليوم المحدد.. لكنها الحياة أصرت إلا أن تعاندها، فبدل أن يقترب منها الموت الأعمى كان قد قادها في نفس الوقت الذي كانت قد خططت فيه تشييع جنازتها، حضور مراسم العزاء لجارتها في الشقة المجاورة. عدم موتها ضمن الخطة التي رسمتها كانت خيبتها الأخيرة.

عاشت، بلاحياة! ثم عاشت أكثر تحاول الحياة..

أغنية أبدية

gramophone-katia-kimieck

النص الخامس من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

كانت تمشي في أزقة تلك المدينة، توقفت عند محل صغير يقع في زاوية الشارع، لا اسم واضح عليه. في واجهة المحل فتاة تشبه دمية صندوق الموسيقى إلا أن لها ملامح مألوفة، ورجل محني رأسه ممسكاً بعود عتيق، اقتربت من الزجاج، اسندت يديها وكاد أن يخترق وجهها تلك الواجهة لقربها منها، أمعنت النظر وأطالت حتى قررت الدخول. بوابته أصغر حجماً منها بقليل، انحنت ووضعت رجلها فأصابتها قشعريرة لا تعرف سببًا واضحاً لها، أغفلت مشاعرها على الفور ودخلت..
لم يكن هناك أحد، كان المحل ضيقاً لدرجة أن لا أحد باستطاعته الوقوف داخله أكثر من أربعة أشخاص مما يعني ثمانية أقدام بالتمام. كان فارغا إلا من رفوف تراكم فيها عدد كبير من اسطوانات موسيقية ضخمة، رُتبت بعشوائية، ارتكزت أربع أرجل إضافية لطاولة صغيرة بجانب الجدار ليصير إجمالي الأقدام الممكن تواجدها في تلك المساحة اثنا عشر قدماً..
كان المنتصف مرتفعا قليلاً، مُشكّلاً دائرة صنعت من الفسيفساء وألتصقت على الأرض. كأنها منصة للرقص، وإن كانت كذلك فهذا يعني أن هذا المكان لايتسع في الحقيقة إلا ل4 أقدام راقصة. كان الجدار معتقاً، والرفوف خشبية ومزخرفة، توجد في الزاوية مخطوطات اكتست أوراقها لوناً بنياً.. على تلك الطاولة المركونة في الزاوية مشغل اسطوانات عمره لا يقل عن التسعين. لم تستطع أن تتعرف على شكله بدايةً.كان مذهبا رأسه، ومنفرجاً، يشبه الفم في طريقة غنائه موالاً لا ينتهى مداه.. أو كوجه دائري بعنق صغير يحاول أن يكون حكّاءً.
كان يخرج من ذلك البوق -لو حاولنا انصافه وصفاً- لحناً لم تسمعه هي من قبل.. وكلما اقتربت منه كانت تسمع غناء خافتاً يتخلل تلك الموسيقى، بلغتها الأم.. تلك التي نسيت أنها عرفتها يوماً، كانت تحاول أن تفهم تلك اللغة بصعوبة؛ لم تعرف.

رفعت ابرة القراءة عن الاسطوانة لأن ذاكرتها دخلت في عاصفة من  الأفكار بعد التلامس الذي حصل بين الماضي والآن.. أخذت تقلب عينيها في المكان بإمعان، لأن حميميته استدعت ذلك، هل المكان موجود في ذاكرتها المنسية؟ أخذت تتأمل في الأرفف طويلاً إلى أن وقعت عينيها على أسطوانة من الواضح أنها موضوعة بطريقة أكثر عناية من غيرها؛ في صندوق خشبي محكم إغلاقه. أخذت الصندوق دون حذر، وفتحته.. وضعت الاسطوانة بسرعة وكأن الوقت يساومها على تلك اللحظات إن لم تستغلها بشكل سريع ستنتهي إلى اللاشيء. غنت على وقع تلك الموسيقى غير المعروفة وبدأت الرقص في تلك المساحة المكللة بالألوان والمزخرفة بدقة وجمال يفوق الوصف.. حكم شعورها عن تلك اللحظات بالأبدية..
رفعت أحد قدميها ووقفت على أطراف اصابعها و أثنت قدمها الثانية ثم رفعت يدها نحو البعيد ودارت حول ذاتها.. ناصبة رأسها إلى الأمام متتبعة اللحن.. مبتدئة تلك الرقصة بدندة مع التغني بشعر تفجر معناه في لحظتها، لم تكن تعرف هل كان محفوظاً مسبقاً في الذاكرة أم أنها اخترعته حينها.. لم تكن تعي أنها كانت تصنع في تلك اللحظات أغنية أبدية، وأبديتها في كون أن ذلك الغناء يسجل على الاسطوانة دون أن تعرف.. فكم من أحد سيعبر هذا المكان لاحقاً وسيسمعها؟ كانت الاسطوانة الضخمة قد سجلت صوتها.. همساتها، شعرها وأغنياتها.. كانت تتدرج النوتات تباعا بتناغم فريد بين شعرها والسلالم الموسيقية.. صولو الكمان يتداخل مع القانون ويقاطعهم الناي أحيانا لتتشكل المعزوفة الكاملة.. أما البيانو فلم يكن موجوداً في تلك اللوحة.
كانت تتراقص كدمية أحيانا.. ترتجل حركاتها بعينين مغمضتين.. مستعيرة تلك الخفة من ذاكرتها القديمة.. تلك المتطبعة بالعادات التي اكتسبتها في رحلتها الطويلة بعيداً عن مسقط رأسها.. فتحت عينيها.. رأت صورتها منعكسة على مرآة لم تلحظها منذ البدء.. كانت صدمتها قوية حين رأت ملامحها في سن تجاوز الخمسين وقد امتلكت تلك الروح الشابة التي من شبابها كانت قادرة أن تصوغ الأبدية في كل لحظة.. كانت قد شكت في أنها تسكن ذلك المكان أبداً ولم تغادره منذ شبابها.. لكنها مخطئة.

حديث بحر، ضجيج قوارب

apr2012a-014-550

النص الرابع من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

كانت تسير محاذاة البحر بعفوية، دون تحديد وجهتها، إلى أن وصلت قبيل الغروب لمساحة خاوية تماماً من البشر. كل القوارب الصغيرة تصطف هناك، عارية من الأشرعة.. رمت بجسدها على كرسي قد تلبس سطحه البرد، فارتجفت حال ماتلامس جسدها بذلك السطح المتجمد.. التزمت الصمت والهدوء، ففضاء المكان لم يكن يتسع لأصوات البشر، كلماتهم، لغتهم، حماقاتهم، شتائمهم وسبابهم. شعرت نفسها في تلك اللحظة بأنها تقف من خلف الباب وتنظر من الفتحتة الصغيرة كطفل فضولي يحاول معرفة مايجري خلف الجدار.. إنها تحاول فك رموز الصوت الآتي من احتكاك الجماد بالطبيعة!
في حركة الأمواج تربيتة للقوارب العارية، هكذا كانت تسير الأفكار داخل عقلها، فكلما زادت الحركة كلما استفاضت القوارب في اعترافاتها، كانت تستمع بصمت و تصر في نفسها بأن أزيز القوارب هو حديث مهم منها للبحر. تلك القوارب تحاول في كل مرة أن تفشي للبحر كل الأسرار البشرية، وماعلق فيها من آثام تخصهم، كذلك أحاديثهم السافرة المتروكة وراءهم. كان حديث البحر أحياناً يزيد من ضجيج القوارب، ذلك حين يكونان أكثر وفاقاً ربما، أو أكثر تعارضاً. ففي النهاية يجب أن لا ننسى بأن القوارب كآلآت مصنعة ليست إلا نتاج عقلية ذلك البشري، ولابد أن تكون ممتنةً أحياناً لذلك الخلق..
أما عن التفسير الوحيد لهبوط النوارس من السماء لتقف على وجه البحر ثم بسرعة خاطفة تعود لبطن السماء، هي أنها تريد القول بأنها ممتنة لأجنحة مكنتها من الهرب. الهرب من معتقل الإنسان الذي يعشق السيطرة على العالم والآخرين.. إن هذا الكائن البشري لا يقترف الآثام تجاه من يشبهه فحسب، بل شره يطول من لا يشبهه أيضاً.. ربما النقيض والضد هم الأكثر عرضة من أن يكونوا تحت الإغتيال وأقرب للكراهية.

تنهدت تلك الفتاة الجالسة على كرسيها،وهزت رأسها بقوة محاولة تشتيت أفكارها المزعجة، لأنها عرفت بعمق أكثر أنها مصابة بداء الواقع، فعقلها لم يسعفها لتأمل الكون بصورة متسعة، تأملت الحياة من منظورها الواقعي لتسقطه على عالم آخر لا علاقة مباشرة له فيه.. اقتربت وصعدت على أحد القوارب.. لم يشاهدها أحد.. أخذت فيه جولة سريعة وفي أثناء ماكانت تنزل من القارب، سمعت صوتاً يأتي من الخارج، كان صوتاً حميمياً أقعدها مدة أطول.. كان لحناً دافئاً يخرج عن أوتار البزق.. أسندت ظهرها وتركت نفسها تغيب عن الواقع لساعتين متواصلة بل أكثر.. كانت خلال تلك الساعات تغسل دواخلها سبعاً ليزول البأس راجية أن يكون جمال ذلك الصوت تمهيداً لسعادة أبدية.

حدث متخيل ..

who-am-i

النص الثالث من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

جلست على أريكتها المفضلة أمام شاشة التلفاز. وقبل أن تضغط جهاز التحكم لتتابع مسلسلها الذي سيبدأ بعد 3 دقائق، رأت نفسها على الشاشة، شغلها الأمر كما لم يشغلها من قبل.. انعكاس مألوف، عادي، وطبيعي. فهي تجلس كل يوم في مثل هذا الوقت، في نفس هذه الأريكة وبنفس هذه الطريقة ولا تأخذ هذا الانعكاس الظاهر لنفسها على الشاشة كمرأة على محمل الجد. قد مضت أيامها ضمن هذه المعرفة البديهية دون أي ارتباك، أي أنها لم تستوقفها تلك المعرفة للمحاسبة والسؤال من قبل.. فلماذا اليوم؟ وهذه الساعة تحديداً؟

أخذت تراقب نفسها، تحرك يديها، ترفع قدميها، تبتسم، وتبكي، وحولت تلك المراقبة لبضع مشاهد هزلية وجادة في الوقت نفسه. كانت قد تخيلت أنها تستطيع أن تؤدي الأدوار ببراعة وإتقان ضمن سلسلة طويلة من الانفعالات. وبعد تأمل نفسها لنصف ساعة قررت أن تؤدي مشهداً عابراً، علّ الشاشة الذكية تلتقطه دون علمها. فبدأت تمثل دور توأمين هي على أرض الواقع، وتوأمها الظاهر في الشاشة.
كان التوأمان قد انفصالا لسنين طويلة، ولم يلتقيان لعدة سنوات، وحال ما رأى كل منهما الآخر، بدأت بتقمص الشخصية، وحاولت أن تظهر تفاصيل الصدمة من رؤية توأمها الجاثم أمامها بشكل ملفت ومتقن جداً، كانت تحاول فعلياً أن تمثل الدور على أكمل وجه. كانت تقف وقد اتسعت عيناها من هول المفاجأة، وانفرجت شفتاها عن بعضهما في ذهول بعد أن كانتا مطبقتين. أخذت تقترب إلى انعكاسها ونفسها، وتوأمها كما يبدو، ببطئ، بل ببطئ شديد.. كما أن الآخر بدوره -الانعكاس- كان يقترب إليها في ذات الوقت، كانت طريقة الاقتراب المتبادلة لطي المسافات تثير اهتمامها في تلك اللحظة. فعَبر سؤال على ذهنها يقول: ماذا سيحصل لو أننا والآخرين اللذين نحبهم نطوي المسافات إلى بعضنا بذات الطريقة على الواقع أيضاً؟! لم تجعل السؤال يشغلها، فقد كان اللعب على هذا الدور أهم في نظرها من أي شيء آخر الان.. رؤية نفسها تؤدي دوراً درامياً مختلفاً بشكل جدي ويحمل أطناناً من المشاعر المختلفة أمر لا يتكرر، وربما لن يحدث مرة أخرى!
كانت تقوم بتفعيل تلك المشاعر المتراكمة داخلها من وحي السنين داخل ذلك المشهد، تلك المشاعر التي لا تعرف كيف تظهرها على نحو طبيعي أمام من تحبهم من الأصدقاء، بل وحتى أمام أخوتها في الواقع! كانت تفعل ذلك أمام نفسها بجرأة كبيرة بل برصانة وعمق.. حتى أنها كانت تعيشه بحواسها كاملة كما لو أنه حدث حقيقي .. كان لقاءً كما يبدو عن قرب -أي من داخلها- حميماً وصادقاً و لكنه من زاوية الواقع ليس كذلك. فهي تعرف جيداً أنهما شخص واحد على أي حال، أي ليس هناك لقاء على وجه الحقيقة. ورغم ذلك فعند وصولها نقطة الإلتقاء بتوأمها، أخذت تبكي بعمق شديد، بشكل هستيري لم تفعله من قبل! خصوصاً وأنها كانت لا تستطيع الانتقال إلى نفسها فعلياً ولا احتضانها بعد هذا الفقد الطويل، ذلك الفقد غير الواضح أو المبرر. لكنها عاشت تلك اللحظة من جذورها، ثم أكملت التمثيل من بعد كل ذلك السيل الجارف من المشاعر الحقيقية، بمشاعر من أستطاع أخيراً أن يصل إلى توأمه، دون وصول.
أدت المشهد بشكل يفوق الوصف، متقن لدرجة أن يوماً ما بعد عدة سنوات، عاشته مرة أخرى وقد تقمصت فيه ملامح حُفرت فيها كثير من المشاعر المختلطة. دفعتها لتمسح للآخر دموعه بمدها يدها إلى وجهه، كانت تمثل ذلك بصمت يحمل الكثير من التعابير إلا من رجفة بكاء تحاول عدم التعري، وعند اللحظة التي اقتربت فيها لتخترق بيدها الشاشة على أمل الوصول إلى نفسها وتوأمها المقابل بشكل حقيقي.. في تلك اللحظة بالذات صفق الجمهور، صفق بشكل متواصل! كان جمهوراً حقيقياً، على مسرح حقيقي. كان يصفق بحماسة وبإعجاب شديد لأنها أدت دورها بشكل مدهش ومتقن.. كانت تؤدي الدور على المسرح بشكل استثنائي، فستحقت تلك التحايا، واستحقت ذلك الجمهور.

يوم خارج الزمن!

النص الثاني من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

أتذكره جيداً ذلك الصباح الذي أتى قبل موعده ب 5 ساعات على أقل تقدير.. وكأن موازين الكون اختلت تماماً فكيف يجيء الصباح قبل موعده؟ وكيف يكون ساطعاً منذ بدايته لهذا الحد.. إنه عنوان ليوم خارج عن المألوف..
كنت مستيقظة وبحكم أن الصباح قد جاء بغتة فابتدأت اليوم دون رغبة في إغلاق الستائر و دون الإصرار على جسدي ليأخذ قسطاً من الراحة.. كنت قبل وطوال الليل القصير الذي لم يتجاوز الساعتين مستغرقة في أعمالي الكتابية حيث أني لم أرفع رأسي عن حاسوبي إلا بضع دقائق مقابل الساعات المتواصلة.. لم أكن أعلم ماذا أكتب بالضبط.. لكني على يقين بأني أكتب و مسترسلة ولا شيء كان بإمكانه قطع أفكاري السائلة، تلك القادرة على الاستمرار بالتدفق من عقلي لتصير نهراً بين يدي.. لست متحمسة لعرض أفكاري على العالم.. لكن كان مهماً أن أقول أني أعيش نهاراً استثنائياً ويقظاً لأبعد حد.. حتى أني خشيت أن أكون تجاوزت طبيعتي لغير طبيعتي فهل أصبحت ملاكاً مثلاً أو شبحاً حقيقياً وأنا التي لا تؤمن بوجود الأشباح إلا في قصص الفانتازيا! أجبرت نفسي على النهوض، صنعت لنفسي كوباً من القهوة، وقفت على النافذة بعضاً من الوقت أتأمل ما يحدث في العالم الخارجي.. كان الهدوء قد ترك الساحات واستسلم للاختباء في الأزقة، وترك الضجيج ليحاصر الأماكن جميعها، أنه ضجيج الحياة.. و الامتلاء.. تنبهت للوقت مرة أخرى فوجدته لا يتحرك! لكن لماذا كل الكون يتحرك بشكل طبيعي؟ لماذا أنا فقط وعالمي تحديداً هو من يتوقف! ويتعثر ويعود للوراء أو يتقدم ببطء شديد بل أشعر به كطفل لتوه تعلم المشي فلا يستطيع أن يتجاوز ال 10 خطوات حتى يتوقف ويجلس منتظراً فرصة أخرى للمحاولة! شعرت بأن علة ما أصابت الوقت عندي.. لم يكن التخمين صعباً لأكتشف المشكلة، لكني وبحكم أن كثيراً من الحياة التي أعيشها لها من الخيال نصيباً، ومن الفانتازيا الشيء الكبير، فقد تخيلت أن الخلل في العالم بأكمله، تخيلت بأنها سيريالية الوقت. كانت المشكلة الوحيدة في الحقيقة هي عطل بسيط في ساعة الحائط التي على جدار غرفتي.. من يستطيع تصديق ذلك؟ من يقدر أن يتخيل مثلي أن كل الذي سبق هو عالم افتراضي بنيته في عقلي وحسب؟
الطبيعي أن يأتي هذا الاحتمال -عطل الساعة وليس توقيت العالم- كاحتمال أول إلى ذهني، لكن ربما ذهني لا يريد العمل وفق طبيعته! لهذا لم انتبه لطبيعة الخلل إلا بعد ساعات طويلة.. كان بإمكاني أن أطالع الساعة في جوالي أو في جدار الغرفة المجاورة على سبيل المثال.. لكنها قدرتي في رؤية العالم كما أريد أن أراه وكما يبدو من الممكن له أن يكون وفقاً لطبيعة ذهني المتخيلة، حتى لو لم يتطابق ذلك مع المنطق ودورة الحياة وشكلها الذي يبدو عليه! لست قارئة نهمة للفانتازيا على أي حال، لكنها استطاعت أن تتشكل في حياتي بشكل ما.. أي على طريقتها التي جعلتني كثيراً ما أتجاوز أموراً جدية بمعادلتها الحرة والخارقة وأبقى في النهاية خارج المفترض والواقع! وأظن السبب الرئيسي في تخيلاتي تلك ببساطة، هي محاولات مستمرة مني في خلق عالم يتكيف مع طبيعتي الحالمة..
في النهاية، أخذت ساعة الحائط المعطلة و أصلحتها وأعدتها لمكانها فعادت الحياة تسير على ما يرام وبشكلها الطبيعي والممل!!

انفعال مستهتر!

انفعال مستهتر …

النص الأول من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

وقفت فتاة حسناء على كرسي أحد المطاعم الفاخرة ذات مرة، لم تكن مهتمة لأناقتها المتكاملة، ولم تكترث لذلك التباهي الذي يسكن أركان ذلك المطعم، فالكل يحاول الظهور، الظهور المادي الذي يسلبهم تماماً حقيقتهم! أما هي فأصرت على ذلك الوقوف المستهتر ليس محاولة في تصغير أو انتقاص نفسها، لكنها الجدية في التصرف وفقاً لسلوكيات طبيعية تتوافق مع بشريتها في مكان يكاد لايكون طبيعيا من وجهة نظرها بأي حال لأنه يضعها ضمن بروتوكولات محددة ويقمع كل انفعالاتها العفوية.. نظر إليها الجميع نظرة استنكار، محاولين بعضهم الشكوى على تصرفها بوصفه أحمقاً، وطفولياً وغير ناضج وأقرب مايكون إلى الجنون! فهل يعقل أن تقف فتاة ثلاثينية إلا 3 أعوام على كرسي، مقهقهة بصوت عالٍ، قائلة أخيراً فعلتها في مطعم من أفخر المطاعم في المدينة؟ هي لم تختر ذلك المطعم بمحض إرادتها، أخذتها صديقتها إليه دون أدنى معرفة بتفاصيل المكان، لكنه توافق مع أمنية حقيقية كانت تلح عليها. لم يصلها خبر استثنائي بفوزها بنوبل مثلاً حتى تبرر لنفسها و لأحد هذا الفعل والتصرف.. لكنها فعلته متعمدة وسط هذا الحشد من الاتيكيت والمكابرة والطرق التي تحوّل الأشخاص الى ارستقراطيين جبراً. بل تقلب أفعالهم  وكأنهم روبوتات لشدة التزامهم بالمراسم المقننة والتي ربما لها إصدارات كثيرة وكتيبات عنونت ب “كيف تصبح راقياً في 50 خطوة”!
هي تمنت أن تدخل بوابة أحد أماكن هؤلاء النخبة بشكل خاطئ لترتكب حماقتها تلك كأحد أكثر 10 أشياء جنوناً تود فعلها في حياتها، وقد تحقق لها ذلك.. لكن سرعان ماوجدت نفسها واقفة على ذلك الكرسي وحيدة متخلية عنها صديقتها لفعلها غير المدروس والذي أقحمها في موقف سخيف أمام معارف كثر! عدا أن أحد الرجال تطفل عليها وعلى هذا الموقف وأخذ يصفق لها بحرارة كأنه يشاهد مسرحية انتصر فيها بطلها على الشر المحض، ليحقق هوالآخر أمنيته في رؤية وتقدير من يتجرأ على كسر نمطية المكان وقوانينه!