وجه للوحدة

النص السابع من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

وقفت في مقدمة طابور الانتظار، كان الهدف أن تحظى بالمقعد الاول عند النافذة باعتبار أن المحطة التي تصعد منها هي الأولى أي أن الأمر ليس في غاية الصعوبة. كانت امرأة جميلة جدا، بعينين زرقاوين، وجهها يحمل ملامح متناسقة ، هادئة، وصغيرة، تلبس فستانًا أسود قصير مرقط بلون أصفر، شعرها الذهبي منسدل على كتفيها، جلست على المقعد الذي أرادته بعد صعودها الباص فورًا، وضعت حقيبتها على حجرها، مدت يدها على شعرها ثم رفعت نصفه، أخرجت نظارتها الشمسية من علبتها ووضعتها على عينيها، ثم أخيرًا أغلقت أذنيها عن العالم وضجيجه بسماعتها .. ربما كان المشهد متكررا حتى اللحظة، إلا أنه لم يكن كذلك بالنسبة لي، حيث أني رأيت فيها نموذجا استثنائيًا من الراكبين، وكأنها لم تصعد هذا الباص وفي هذا الوقت المزدحم جدًا لأنها تريد العودة للمنزل، أو مقابلة حبيب، أو للذهاب في نزهة، بل لأجل غرض آخر ..
كان الباص مكتظًا بالكادحين الذين انصرفوا للتو من أشغالهم،غير أنها الوحيدة منهم أدركها شعوري، والتفت إليها إحساسي، ففي اللحظة التي كنت أشعر بنفسي اختنق في هذا التكدس، توقفت عيني عندها طويلًا، فقد كان فيها ما يُلفت النظر، إذ رأيتها تميل برأسها على النافذة، ثم تحاول أن تدس وجهها بأكمله على الزجاج، ظننتها في بادئ الأمر أنها تحاول أخذ غفوة لطي المسافة والتعب، لكن الحقيقة أنها لم تفعل، استمر رأسها مائلًا، وجسدها بأكمله مدفوعاً إلى جهة النافذة. بدأتُ ألمح حركة على وجهها، كعضها لشفتها بانكسار، وتحول وجهها الصامت جدًا إلى وجه حزين، كانت ترفع يدها بشكل متكرر لمسح شيء ما على خدّها.. عندها عرفت، وتبين لي أنها دموع، فما أن تخرج تلك المُلُوحة عن إطار النظارة حتى تعاود تمرير أصبعها بسرعة لتكفكف وتمسح وتخفي. إنها تحاول إخفاء حزن يخلع قلبها من مكانه. كانت قد اختارت الوقت والمكان الذي لن ينتبه إليها فيه أحد، فكل القاعدين والواقفين لاهم لهم -في تلك الساعة-  غير الوصول إلى منازلهم بعد تعب نهار كامل، عداها، لم تكن تأبه لأي محطة، ولا تلتفت لتلك الكثرة، بل كانت غارقة تماما في بكاءها ودموعها التي تظن بأنها لا تُرى، كان من الملاحظ أنها قد حسمت أمرها بممارسة تعاستها ووحدتها في هذه الظروف، ربما لأجل أن لا تبكي وحيدة في سريرها، فصخب المكان قد يخفف عن نفسها وطأة الوجع، أو ربما هاربة! هاربة مع دموعها وبصحبة غصتها من محيط معروف لمجهول، باحثة عن خصوصيتها -التي لا تستطيع ممارستها في بيتها الخاص- في أكثر الأماكن عمومية، أرادت البكاء دون أن تكون مجبرة لتبرر لأحد سبب ذلك، فغالبًا في الباص لن يسألها أحد لمَ تبكي، ولن يمد أحد يده للمساعدة، ولن يكون الأمر بذاك الاغراء للتطفل أو الفضول، عدا أن يكون شخص نبيل جدًا وإنساني جدًا، حد أنه لن يهتم بشيء في تلك اللحظة، سوى بفتاة تجلس على مقعد غير آبهة بأحد، وتبكي!