من أحجار داوود إلى دبابات جليات

* نشر في ساقية

خوزيه ساراماغو (1922-2010) روائي برتغالي حائز على جائزة نوبل للأدب (عام 1995) وكاتب أدبي و مسرحي وصحفي. مؤلفاته التي يمكن اعتبار بعضها أمثولات، تستعرض عادة أحداثا تاريخية من وجهة نظر مختلفة تتمركز حول العنصر الإنساني. من أبرز رواياته وأشهرها رواية (العمى) التي نُشرت في عام 1995.

في مجلة الكرمل، العدد ٧٢/٧٣ عام ٢٠٠٢، ترجم الأستاذ (سهير عصفور) مقالة للروائي البرتغالي، بعنوان “من أحجار داوود إلى دبابات جليات”، تحدث فيها عن القضية الفلسطينية، يقول فيها:

تؤكد بعض السلطات الدينية المعنية بالشؤون الإنجيلية أن سفر صموئيل الأول كتب في عهد سليمان أو بعده مباشرة، أي قبل السبي البابلي الشهير، بينما يؤكد فريق آخر من الباريسيين الذين ليسوا أقل كفاية أن سفر صموئيل الأول والثاني أيضاً كتبا بعد النفي إلى بابل، وإن البناء التاريخي والسياسي والديني للنصين يخضع لطريقة تقسيم الأحداث نفسها في سفر التثنية، من حيث التتابع والتسلسل: تحالف الله مع شعبه، خيانة هذا الشعب، عقاب الله، توسلاتهم ثم أخيراً عفو الله عنهم.

إذا كان النص المبجل ينتمي إلى عهد سليمان فيمكننا القول إنه مر عليه قرابة ثلاثة آلاف عام. وإذا كان من قاموا بتحرير هذا النص فرغوا منه بعد عودة اليهود من المنفى، فعلينا أن ننقص خمسمائة عام تقريباً من الثلاثة آلاف عام. إن هذا الاهتمام الشديد بتحري الدقة في تحديد التاريخ والزمن هدفه الأوحد هو لفت نظر القارئ إلي أن الحكاية الدينية الشهيرة التي تحكى عن المعركة بين الراعي داوود والعملاق الفلسطيني جليات-والتي انتهت قبل أن تبدأ- تروى للأطفال في شكل خاطئ من خمس وعشرين أو ثلاثين قرناً على الأقل. فعلى مر العصور أخذت الأجزاء المهمة في القصة، تتطور بما يتوافق مع الرؤية غير التحليلية لأكثر من مئة جيل من المؤمنين / المستعمرين من اليهود والمسيحين، وياللتزييف المضلل عن التباين القاسي بين حجم العملاق جليات الذي يصل طوله إلى أربعة أمتار والتركيبة الجسدية الهزيلة لداوود الأشقر الضعيف. لكن هذا التباين المفزع يتم تعويضه، بل الإفادة منه لمصلحة داوود الإسرائيلي، وذلك لأنه فتى ذكي، بينما جليات مجرد كتلة غبية من اللحم.

كان الفتى ذكياً فعلاً حين أخذ معه، قبل ذهابه لمواجهة الفلسطيني، خمس قطع من الحجارة الملساء، وجدها على ضفة نهر صغير قريب، فوضعها في الخرج الذي يحمله، أما الآخر فكان شديد الغباء إلى درجة أنه لم يدرك أن داوود أتى مسلحاً بمسدس. بالطبع سيستاء عشاق الحقائق العظيمة، ويجيبون مستنكرين بأنه لم يكن مسدساً، وإنما مقلاعاً بسيطاً متواضعاً كالمقاليع التي كان يستخدمها خدام ابراهام لرعي القطيع في الزمن المنصرم.

فعلاً… هذا صحيح فلم يكن مظهر سلاح داوود يشير إلى حقيقته كمسدس، فلم يكن فيه ماسورة، ولم يكن له مقبض، ولم يكنله زناد ولا ذخيرة. كان له فقط حبلان رفيعان شديدا المتانة، مربوطان من الأطراف بقطعة صغيرة ومرنة من الجلد. وقامت يد داوود الخبيرة في تجويف قطعة الجلد هذه بوضع الحجر الذي انطلق بدوره سريعاً وقوياً كالرصاصة قاصداً رأس جليات، فأصابه وأطاح به أرضاً فأصبح تحت رحمة حد السيف الذي أمسك به الرامي الماهر وقتله به.
إذا كان الإسرائيلي تمكن من قتل الفلسطيني وصنع النصر لجيش “الله الحي” وجيش صموئيل فإن هذا لم يتم لأنه أكثر فطنة وذكاء وإنما لأنه كان يحمل معه سلاحاً بعيد المدى، وكان يعلم كيف يستخدمه.

إن الحقيقة التاريخية البسيطة البعيدة من الخيال تخبرنا أن جليات لم يكن لديه الفرصة حتى ليضع يديه على داوود، أما الحقيقة الأسطورية الشهيرة، صانعة الأوهام، فتخدعنا منذ ثلاثين قرناً بهذه الرواية المبهرة التي تحكي انتصار الراعي الصغير على وحشية المحارب العملاق الذي لم يحمه في النهاية البرونز الثقيل المصنوعة منه درعه وخوذته. وأياً كانت العبرة التي نستطيع أن نخلص إليها من هذه القصة المسلسلة، فإن داوود في معاركه الكثيرة التالية التي جعلت منه ملكاً على يهود أورشليم، بل جعلت قوته تمتد إلى الضفة اليمنى من الفرات، لم يعد أبداً لاستخدام الخرج أو الحجارة. ففي السنوات الخمسين الأخرى نمت قوات داوود إلى درجة أنه أصبح من الصعب التمييز بينه وبين العملاق الشامخ جليات، بل نستطيع أن نجزم، من دون أن نسيء للوضوح المدهش للأحداث أن داوود تحول إلى جليات جديد ولكن جليات لا يسير محملاً بأسلحة مصنوعة من البروتز الثقيل ولا نفع له.

إن داوود الزمان القديم ذلك يحلق الآن في طائرات الهليكوبتر فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويطلق الصواريخ على الأبرياء العزل وداوود العصر المنصرم ذاك يقود أحدث دبابات العالم وأقواها، ويسحق ويفجر كل مايعترض طريقه. داوود الملحمي ذاك، أعيد تجسيده الآن، في صورة مجرم حرب يدعى  آرييل شارون يطلق في وجوهنا بكل تبجح رسالة شعرية دقيقة، مفادها أنه يجب القضاء على الفلسطينين أولاً، ثم التفاوضمع من يبقى منهم ثانياً.
إن هذه الفكرة تلخص تماماً الاسترتيجية السياسية لإسرائيل من ١٠٤٨ مع بعض التغييرات التكتيكية في بعض الأحيان.

لقد تسممت عقولهم بتلك الفكرة التبشيرية عن إسرائيل العظمى فتحول حلم التوسع في نشر الصهيونية النتطرفة إلى حقيقة. وهم ملوثون بهذا اليقين المفزع المتأصل فيهم، والذي يجعلهم يرون أنه في هذا العالم المفجع العبثي يوجد شعب مختار من الله، ولذا بالتالي فإن كل أفعال هذا الشعب مبررة ومسموح بها أوتوماتيكياً باسم أهوال المضي ومخاوف اليوم. تلك الأفعال يحكمها في المقام الأول هاجس العنصرية والتعصب. فقد تربى هذا الشعب وتشكل على فكرة أن أي معاناة سببها أبناؤه أو يسببونها للآخرين وتحديداً الفلسطينين فإنها ستكون دائماً أقل كثيراً مما عانوه هم أنفسهم في الهولوكوست.

واليهود لايكفون عن نبش جرحهم بأنفسهم كي لايتوقف عن النزيف، وكي يجعلوه غير قابل للشفاء أبداً، ويظلون يطلعون العالم عليه كما لو كان علماً لدولتهم.

نصب الإسرائيليون أنفسهم ملاكاً لكلمات الرب القاسية في سفر التثنية: “لي النتقام والعقاب”. إسرائيل تريد أن تشعر جميعاً بالذنب تجاه الأهوال التي رآها اليهود في الهولوكوست. إسرائيل تريدنا أن نرفض الاحتكام إلى أدنى مستوى من المنطق والعقل إزاء أفعالها. وأن نتحول كلنا لتابع مطيع، سلس القيادة يخضع تماماً إلى إرادتها. إسرائيل تريدنا أن نصدق بالقبول على كل جرائمها التي أصبحت بالنسبة لها أمراً واقعاً واجب النفاذ. إنها تريد الحصانة المطلقة.

ولايمكن أبداً من وجهة نظر اليهود أن تخضع أفعال إسرائيل للعقل، وذلك بسبب أبناءها عذبوا ووضعوا في غرف الغاز وحدقوا في معسكر اعتقال أوشفتز.

وإنني أتساءل لو أن اليهود الذين فقدوا حياتهم في مراكز التعذيب النازية تلك هولاء الذين ظلوا مطارين على مر عصور التاريخ، والذين انغلقوا على أنفسهم في إحياد “الغيتو” الفقيرة، ترى لو هذه الجموع الهائلة من البائسيين رأت الأفعال الدامية التي يأتي بها أحفادها الآن، ألن يشعروا بالخزي والعار؟ أوليسن المعاناة الشديدة هي دائماً أقوى دافع كي لا تتسبب في معاناة الآخرين؟

انتقلت حجارة داوود إلى أياد أخرى. فالفلسطينيون هم الذين يلقونها الآن. وأصبح جليات في الجانب الآخر. كما أصبح مسلحاً مجهزاً أفضل من أفضل الجنود في تاريخ الحروب أجمع. هذا بالطبع إلى جانب مساندة الصديق الأمريكي الوفي. ثم يتحدثون عن جرائم القتل الرهيبة للمدنيين اليهود! الجرائم التي يقوم بها من يسمونهم ” الإرهابين الانتحارين” وهي جرائم رهيبة من دون شك، ومدانة من دون شك، لكن من الموكد أن إسرائيل مازال لديها الكثير لتتعلمه إذا كانت غير قادرة على فهم الأسباب التي تحمل كائناً بشرياً على أن يحول نفسه إلى قنبلة.

الأشجار ومعنى الإنتماء والحياة (مترجمة)

* نشر في ساقية

هرمان هيسه (1877-1962) هو كاتب وشاعر وروائي سويسري، حاز على جائزة نوبل للآداب عام 1946.

في ترجمة حصرية لمقالة المدونة الشهيرة (ماريا بوبوفا)، حملت عنوان “هرمان هيسه وماذا تعلمنا الأشجار في معنى الإنتماء والحياة“، تقول (ماريا):

أستيقظت هذا الصباح لأكتشف أن أحد الشجيرات قد نبتت في وسط المدينة التي أسكنها، اخترقت الصعوبات لتمتد وتكبر وتتفرع وسط طوب المدينة وخرساناتها، صارت أشبه بحديقة، وكل مقومات نموها هي تربة صغيرة لا تصلح لتكون أساساً لهذا العيش. اندهشت لهذا الحدث الاستثنائي وقلت: يالهذه المعجزة، هي رسالة فحواها تقول أننا لا يجب أن ننتظر أذناً من الحياة لنعيشها.

هذا الحدث غير المعهود ذكرني بنص للعظيم هرمان هيسه كنت قد قرأته في كتابه : (الأشجار: تأملات وقصائد).

يقول هيسه: “بالنسبة لي، الأشجار عادة ماتكون المبشر أو الواعظ صاحب النظرة المخترقة للمألوف والنظرة البعيدة.

أقدس الأشجار حين تعيش وسط القبائل وفي الغابات والبساتين، وأقدسها أكثر حين تقف وحدها صامدة، وتعيش بمفردها، تشبه في ذلك الإنسان الوحيد. ليس في طبعها أن تكون كناسك خسر ذاته ونفسه وبقي وحيداً بضعف، بل تقف وحيدة كأولئك العظماء، والجنود الأقوياء، أمثال نيتشه و بيتهوفن.

في عالمها تحدث حفيفاً وخشخشة في أعلى مستويات أغصانها ارتفاعاً، كما أن في جذورها تلقى راحتها حيث عمقها اللانهائي. هي لا تخسر نفسها حيث تكون فتلك الأغصان والجذور تصارع وتناضل في حياتها لأجل شيء واحد فقط وهو أن تعيش ضمن قوانينها الخاصة، وأن تبني ذاتها على شكلها الذي تريد، لتكون مثالا لنفسها.

لاشيء أكثر قداسة ولا شيء أكثر مثالية من شجرة جميلة قوية. في اللحظة التي تقطع فيها تلك الشجرة فإن جرحها يتكشف عارياً لأشعة الشمس، حيث يقرأ تاريخها المرسوم في جذعها كحلقات مستديرة بضوء نوراني، جروحها، نضالها، معاناتها، وأسقامها، وسعادتها وكل حقائقها محفورة على هذا الجذع بكل السنوات الضيقة والفاخرة، وبصمودها أمام الهجمات والعواصف والكوارث.

إن المزارعين الشباب يعرفون جيداً أن أجود أنواع الخشب الذي تكون حلقاته ضيقة والذي ينمو ويكبر في أعالي الجبال حيث أنه كلما  وجدت تلك الأشجار وحيدة في مناطق نائية وخطيرة فإنها تكون أقوى وأكثر مثالية.

إن الأشجار معابد للذين يجيدون الحديث معها، ويجيدون الإصغاء إليها، هي تعلمهم الحقيقة. فالأشجار لاتدعي أنها ابنة الدين أو التعاليم، هي تعظ وتبشر خلال قانون الحياة القديمة دون أن تعترض للتفاصيل.

قالت شجرة: في داخلي يختبئ جوهر الحياة، البريق، الفكرة، أنا حياة ممتدة للحياة الأبدية. إن كثرة المحاولة والمخاطر الفريدة والمختلفة أخذتني للأبدية كأم. هي فريدة من نوعها كأنها أوردة ممتدة في داخلي، هي فريدة لحد أن تكون موجودة في ندبات أصغر الأوراق في أغصاني، هذا ما شكل الأبدية في تفاصيلي الخاصة الصغيرة.

قالت شجرة: أثق بقوتي، لا أعرف أي شيء عن أبائي، لا أعرف أي شيء عن ألف طفل أنجبته للربيع، أعيش بأسراري حتى النهاية، أثق بأن الخالق في داخلي. أثق بأن عملي مقدس، ولهذا أثق بأني أعيش.

في تلك الأوقات التي نصاب فيها بالمحن، حين نكون عاجزين للدرجة التي نشعر فيها أننا لن نصمد في وجه الحياة أكثر يجب أن نقف أمام شجرة، لأنها دائماً تحاول أن تقول لنا شيئا مثل : حاول البقاء، اصمد أكثر، بل أنظر إلي واصغي جيداً، الحياة ليست بتلك السهولة ولكنها أيضاً ليست بالصعوبة التي نظن، ماتمر به مجرد أفكار متطفلة، فالوطن ربما ليس حيث أنت وربما لن يكون في مكان آخر، لأن الوطن يجب أن يكون في داخلك وإلا لن يكون أبداً.

في الليل وحين أسمع الصوت الهارب من أوراق الشجر الناتجة عن حركة الرياح أصاب بشعور في قلبي كبكاء المشتاق. إذا استمع أحد ما لذلك الصمت فترة طويلة فإنه سيكشف عن معناه، هو ليس سبيلاً للهرب من المعاناة عالرغم من أنه يبدو كذلك، هو حنين إلى الوطن الأم، للحياة القديمة حيث أنه ليس دليلاً على استعارات جديدة للحياة. هو الطريق المؤدي للوطن، هو الخطوة لولادة جديدة، وربما خطوة للموت، وكل أرض وإن كانت أشبه بقبر فإنها في النهاية ستكون الأم التي تلدنا من جديد.

الأشجار لا تصدر صوتاً في المساءات التي نقف فيها قبالتها محملين بأفكارنا الطفلة كأن صمتها إنصات: للأشجار أفكار ممتدة بعمق جذورها وبطول أغصانها، لهذا فإن لديها نفس طويل لسبب أن حياتها تتعدى طول حياتنا، فالأشجار أكثر حكمة منا ونحن لا نستجيب لحكمتها لأننا نصم أذاننا عنها. لكن من يأخذ فرصة الإستماع إلى الأشجار فإن الإيجاز والتسرع الطفولي للأفكار سيحقق بهجة لاتشبه شيء آخر.

الذي يستمع للأشجار بتفكر وفهم لن يتمنى أن يصبح شجرة، بل سيبلغ مرحلة التقبل لنفسه كما هو، لأن نفسه هي الوطن وهي السعادة.

مقام الأذان

سأحدثكم هنا عن وثائقي جميل وعميق جداً شاهدته اليوم على الجزيرة الوثائقية.. الوثائقي الذي أثار في نفسي للمرة الأولى رغبة أن أرفع الآذان بصوتي في أحدى المآذن على مقام الصبا.

اسم الوثائقي: مقام الآذان

Screen Shot 1436-09-14 at 9.46.03 PMيحدثنا هذا الوثائقي عن طريقة العثمانين وتركيا الحديثة في تعاملها مع الأذان والمؤذنين كعنصر مهم يجب أن يعتنى به و كميراث عزيز كان قد ورّثه الرسول الكريم للبشريه. ولهذا كانت الدولة العثمانية قد أبتدعت طريقة منظمة لاختيار المؤذنين الذين ينادون نداء الله في المساجد. وكان لهذا التنظيم المبتكر آلية خاصة تعكس بطريقة أو بأخرى وجه من أوجه حضارتها. وحين تضآءلت شمس العثمانية وانحسرت وسطع عهد آتاتورك في الثلاثينيات أمر بتغييرات كثيرة كما نعرف و كان منها تغيير لغة الآذان. فبعد أن كان يصدح الآذان في مآذن تركيا العظيمة كلها بالعربية أصبح بعد أوامر آتاتورك يرفع باللغة التركية، ولم يكتفي بالأمر فقط بل قام بفرض عقوبات على من يخالف هذا القرار، وهذه ربما إحدى مظاهر القومية التي تمتع بها أتاتورك. واستمر هذا الوضع حتى١٩٥٠. على الرغم من أن هناك عرف تركي يقول: أن من يؤذن بغير لغة القرآن “العربية” فهو آثم، إلا أنه لا شيء تغير حتى مع وجود مقاومة كبيرة من مؤذني مساجد تركيا. تلك المقاومة استمرت إلى أن انتُخب “عدنان مندريس” كأول رئيس منتخب في عام ١٩٥٠. بعدها عاد الأذان إلى اللغة العربية ليصدح من جديد في سماء تركيا حتى أنه قيل: من شدة فرحة مؤذني اسطنبول صعد كل مؤذن إلى شرفة من شرفات المآذن وصار يؤذن، فلكم أن تتخيلوا مثلاً كم مؤذناً قد صعد في كل شرفة من شرفات مآذن جامع السلطان أحمد وبدأ الآذان؟! قد يتجاوزعددهم ١٦ مؤذناً.. وياللمبالغة!

كما نعرف فإن الدولة العثمانية اهتمت  بالمساجد اهتماماً كبيراً كواجهة للحضارة الإسلامية، ونرى أن هذا الاهتمام امتد باسمها حتى اليوم بشكل أو بآخر. فتركيا الحديثة مهتمة بشكل خاص بجمال صوت الأذان، و من المهم أن نعرف أن الأذان في تركيا اليوم لا يرفع بشكل اعتباطي أو بصوت عادي بل أنه لا يرفع إلا بصوت جميل مدرب على أحد المقامات. ولهذا السبب يوجد  مدرسة هي المسؤولة عن تنظيم الأئمة والخطباء والمؤذنين تدعى مدرسة “الأئمة والخطباء”. فعلى كل من يريد أن يصبح مؤذناً كان لزاماً عليه أن يلتحق بهذه المدرسة ويتعلم القرآن ويحفظه كاملاً، إضافة إلى ذلك يجب عليه تعلم التجويد ومخارج الحروف وليس هذا فحسب بل يتم اختياره بعد إخضاعه لفحص الصوت، حيث يجب أن يكون في طابعه الجهر والوضوح والصفاء، وبذلك يكون متناسباً مع إعتقادهم بأن الأذان لا يجب رفعه إلا بصوت جميل وطريقة جميلة وآداء كامل ومثالي. ولهذا فإنه يجب على كل مؤذن من مؤذني تركيا أن يتأهل في مدرسة موسيقية، يتعلم فيها المقامات الموسيقية على آلة الكمان والقانون والناي. ثم يتم تطبيق كل تلك المقامات على الآذان، ومالم يكن بالاتقان والجمال الذي يتناسب مع النداء إلى الله، فإنه يبقى تلميذاً حتى يتقن. فنداء الأذان بالنسبة لهم له قدسيته التي لا تسمح بأن يخرج ركيكاً أو ضعيفاً لأن الجمال لا يكون إلا قوياً ومبهراً وبذلك يكون الأذان أي “نداء الله” برداً و سلاماً على الأنفس بتنوع اعتقاداتها ومذاهبها.

Screen Shot 1436-09-14 at 10.21.17 PM

فيقول أحد المؤذنين : عندما أرفع الأذان أفكر في كلماته، ويتدفق الأذان كالماء فينفتح كل شيء أمامي حتى أن الكلمات تلامس وجدان الناس. ويقول آخر كناية عن أهمية الالتحاق بمعهد الموسيقى وتعلم المقامات وتحسين الآداء الصوتي والوجداني عبر الموسيقى: يجب أن تنطلق هذه الرسالة بصوت جميل ومقام جميل وموسيقى جميلة.

Screen Shot 1436-09-14 at 10.21.49 PMتعلم المقامات ليس أمراً عابراً بل ملحاً في تركيا، يتعلم كل مؤذن المقام والهدف الرئيس من هذا المقام وأي الأوقات هي الأنسب  ليشق طريقه إلى الآذان والوجدان فهم معتقدين تماماً أن الأذان لا يجذب من يذهبون إلى المساجد فقط بل يجذب حتى الذين لا يهتمون بالمسجد و الصلاة، أي أنه الصوت الذي يستعيد به كل إنسان روحه ويهديها كرسياً تتكأ عليه.
فقد خُصص في تركيا لكل أذآن مقام يتناسب معه فيقال: أن المقام الذي ينطلق منه أذآن الفجر يكون على مقام الصبا، والأذآن الذي يقام في منتصف النهار  أي في الظهر يكون على مقام العشاق واختير العشاق تحديداً للنهار تأصيلاً للجمال ودافعاً للعمل. أما أذآن العصر فيقوم على مقام الرست وحزمه. ولقصر الوقت بين المغرب والعشاء فإن أذآن المغرب يكون خفيفاً سريعاً متناسباً مع هذا القصر ولذلك اختير له مقام السيكاه. ولأن من طبيعة الأتراك سابقاً أنهم يغنون للأطفال الأغاني قبل النوم على نغمة الحجاز فإن أذآن العشاء يقام في تركيا على مقام الحجاز تناسباً مع عرفهم الجميل.
قد يرجع هذا الاهتمام باقتران الأذآن بالموسيقى لإهتمامهم العميق بالموسيقى الدينية بالعموم والصوفية بالخصوص، ويبدو أنهم يعتبرون الأذآن جزء لا يتجزأ من الموسيقى في معناها العلمي الذي يحتاج كل مؤذن لإتقانها وذلك بالخضوع للتعلم والتدريب ومن ثم الممارسة.

يؤسفني أخيراً أن أقول بأن أحرفي لا تستطيع أن تتحول إلى أصوات لتسمعكم تلك المقامات كما يتغنى بها أولئك المؤذنون، بل إن الأذآن على المقامات التي ذكرتها يجب أن تسمع خلال روح متمعنة وهذا ما سيحصل بمتابعتكم الوثائقي الجميل “مقام الأذآن”. اترككم الآن.