بين المعلومة المجردة والسلوك الذي تطلبه.. مسافة فاصلة

نشر في صحيفة مكة

نلاحظ مؤخراً أن هناك تدفقا كبيرا للمعرفة ولسيولة المعلومات عبر الشبكات الاجتماعية بحيث أصبحت عقولنا تدخر تلك المعرفة بطريقة سريعة وبشكل واضح، فنجد أن الغالبية منا أصبح يأخذ تلك المعلومات بمحمل الجد ويعطي لها في حياته ومن منبره وفي تغريداته صوتاً ويتبناها كرأي وفكرة.
لكن الجدير بالذكر هو أننا على الرغم من وفرة المعلومات فإننا نجد أن هناك فجوة هائلة بين القول والفعل، فنلاحظ أن أحدهم يتحدث في أمر وما إن ينتهي من حديثه حتى يقوم بما يخالفه، كما أنه في نفس الثانية يقوم بالنقيض تماماً. وقتها يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل البسيط، كيف يقوم الناس بعكس ما يؤمنون؟
دعونا نتفق بداية أن هذا يحدث وبطريقة متكررة وبشكل كبير جداً، أي أن الغالبية العظمى من المجتمع يخزن المعلومات والمعرفة في وعاء عقله أكثر من أن يطبق ما يعرفه أو ما يدعي أنه جزء من يقينياته. في الحقيقة أن المسألة لا تكمن في المعرفة فقط ولا حتى مجرد ادعاء الإيمان بها يساعد في نقلها من كونها فكرة لسلوك، فيجب على الشخص أن يفعّل هذه المعرفة في ذاته، حيث إن الفكرة أو المعلومة يستحيل لها أن تتفعل بطريقة تلقائية في الشخص دون أن يفعل حيالها أي شيء، فالمعرفة وحدها لا تستطيع إدخالها في دائرة الوعي بشكل مباشر، ونستطيع لمس هذا الأمر كثيراً فيمن حولنا، لكن السؤال الأهم: هل جميعنا يلحظ تلك الفجوة في نفسه؟ هل يتحسسها داخله؟ هل يعي حجمها واتساعها فيه أم أنه يتجرد منها ويراها في غيره دونه؟ غالباً قد يحدث هذا الانفصال أو كما قلت سابقاً تتسع تلك الفجوة بين المعلومة المجردة والسلوك الذي تطلبه المعلومة. وكل ما يحصل نتيجة لذلك هو أن الشخص غالباً يتبنى المعلومة أو الفكرة بحيث يميل فقط للاستدلال والإشارة لها وحتى الدفاع عنها مع غالب الظن أنها أصبحت جزءا منه، وفي الحقيقة أن كل ما يصير إليه هذا الشخص هو أنه يصبح كثير الانتقاد وكثير الشكوى من أفعال الآخرين، دون إحداث تغيير فعلي في ذاته وفي سلوكياته من خلال معرفته المعلومة. نلاحظ أن معظم الأشخاص في هذه الحالة يكونون قد أحدثوا حاجزا وهميا بين الأمرين -المعلومة والسلوك- حيث إن الشخص لا يدرك حقيقة أن كل ما يمتلكه في تلك اللحظة؛ ونقصد لحظة سرد المعلومة التي في عقله بأنها لم تتجاوز وعاء العقل، أي أنها لم تنتقل إلى جسده وسلوكياته بعد. فجسده ما زال يمارس السلوك التلقائي القديم المترسب فيه. ولإصلاح هذه المشكلة يجب على المرء استحضار تركيزه ووعيه إلى حيث يصبح قادراً على تطبيق تلك المعرفة ونقلها من الموقت إلى الدائم، ومن الفكرة إلى السلوك. ولا يعتبر هذا الأمر أمراً يسيراً أو أن إحداثه يكمن لمجرد هذا الاستجلاب وهذا التركيز. بل تشير بعض الدراسات إلى أن بعض السلوكيات لسنا نملك فيها إرادتنا الحرية، لكن تظل المحاولة والتركيز عليها واستحضارها من الأمور التي تساعد على التخفيف من حدة ما لا نملك إرادة فيه وتمكننا من تغيير ما نملك الإرادة فيه. فيقول برتراند راسل «إنه من الممكن زرع الفكرة الواعية في اللاواعي إذا تم ذلك بقدر مناسب من القوة والشدة». ويقصد هنا بأن اللاواعي غالباً ما تكمن فيه الأفكار العاطفية جداً وهذا يدلنا على أن باستطاعتنا دفن أفكارنا عمداً فنجعل اللاواعي يقوم بعمل مفيد أي بالاستغراق في تمكين الفكرة فيه إلى أن تنتقل إلى السلوك التلقائي. فقد قال راسل أيضاً: إن أفضل خطة هو أن أفكر في الموضوع بتركيز شديد لساعات، وعند نهاية هذه الفترة أعطي الأوامر، مجازاً، بأن يتقدم العمل في اللاشعور، وبعد عدة شهور أعود واعياً إلى نفس الموضوع وأجد أن العمل قد تم إنجازه فعلاً.

لاتجعلوا النسيان الحل الأول بل الأخير

نشر في صحيفة مكة

يختلف تأثير الأحداث الحياتية على الأشخاص بحجمها وعمقها، وغالباً ما يراد لتلك الأحداث النسيان لنستطيع بعد ذلك استعادة ذواتنا لنتمكن من المضي قدما.
أول ما يتمناه المرء خلال الأحداث المؤلمة هو نسيانها، وفي الحقيقة أن فكرة النسيان بحد ذاتها فكرة جيدة، لكن النسيان هو ليس فعلا ولا مجرد إرادة كما نظن، فالنسيان يتطلب منك أن تنسى أنك تريد أن تنسى.
بمعنى آخر، حين يمر المرء بتجربة فَقْدٍ مثلاً فهو لا يريد أن ينسى المفقود بحد ذاته لكن جل ما يريده هو ألا يتوجع لأجل هذا الفقد وألا يتوجع حين تصيبه الذكرى، والحقيقة أن هذا الأمر ليس سهلاً لأنه لا يوجد بأي حال من الأحوال أي ممحاة تمحو الألم أو تلغي الحقيقة التي حدثت وهذا قد يكون محبطاً، لكن لنبن لذواتنا قاعدة جديدة تسهل علينا وتجعلنا بدل أن نستمر مستغرقين في محاولات نسيان فاشلة أن نحتسبها نقطة لصالحنا، وهي أن بعض الخسائر في حقيقتها ليست خسائر محضة بل هي أمور نكسب خلالها ماهو عظيم لنستمر، لكنه مختلف كل الاختلاف عن توقعاتنا. أليست هذه الفكرة أكثر جدوى؟
لأكون أكثر وضوحاً، أحياناً نحن نختار بعد تفكير وإمعان في المضي واتخاذ قرارات مصيرية تكون معاكسة تماماً لإرادة الله ونحن نفعل ذلك عن جهل، أي دون أن نعلم أننا نمشي في طريق عكسي، كأمور فصلت وانقضت نتائجها وهذا قد لا يكون سيئاً على المطلق لأن الإنسان دائما ما يظن أنه يختار الأصلح لنفسه، لكن ما يجب أن نتذكره هو أن الاختيار هنا ليس إلا احتمالا قابلا للخطأ والإخفاق. وأنه مهما بلغت حكمتنا وبلغ ذكاؤنا فهو أقل محدودية من أن يخرق القدر. فالقبول هنا هو أقوى الإيمان وليس أضعفه، إلا أننا نخلط أحياناً بين ضعفنا وقوتنا، فلطالما كانت القوة في المحاولة وليست في التسليم، بينما مع الوقت يتجلى لنا عكس ذلك وهو أن غالباً في الأحداث والمصائب الكبيرة لا تجدي المحاولة، وأنه لا جدوى سوى بالقبول والتسليم.
إذا فمحاولة النسيان تتطلب منا أن نقبل بالأمر أولاً لكن القبول لا يأتي دفعة واحدة على الأرجح بل يمر بمرحلة انكسار قبلها ومشاعر متداخلة تحمل الكثير من اللوم بلو أو لماذا، فمثلاً: لو يعيدني الزمن لتلك اللحظة لفعلت كذا بدلا من كذا!! إن اعتبر الشخص مرحلة كهذه من الضعف هي المرحلة الأولى من القبول بشرط ألا يركز على أمر النسيان، فإنه يبلى بلاء حسناً.
لكن.. كيف نجعل التسليم قوة لنا لا ضعفا ونخالف الفكرة اللصيقة به؟ بصورة سريعة، علينا أن نبذل مجهوداً على مستويات ثلاثة وهي (العقل، الجسد، الروح)، فالعقل بعدم إجهاده فيما حصل وكيف حصل، أي بعدم الاستغراق في التفكير. أما الجسد فلا حل له سوى استثمار طاقاته، أي بذل جهد أكبر خلال الأعمال اليومية أو ممارسة الرياضة. والروح فنغذيها بالإيمان، بمعنى أن نؤمن بأن ما حدث هو أمر الله المقدر لنا، إضافة إلى ذلك تغذية الروح بالجمال، وذلك عبر الفنون سواء بصرية أو سمعية أو غيرها. فالعمل على هذه المستويات الثلاثة والتركيز عليها بما يشتت عنا قلق الذكرى وآلامها، لربما سيكون سبيلاً للنسيان، لكنه يقيناً سيخفف عنا وطأة الألم.
لا أظن أن النسيان بحد ذاته مطلب، فكل أمر يحدث في حياتنا هو جزء منا، وإلغاؤه يعني إلغاء شيء منا، ولا أظن أيضاً أن النسيان قرار صائب بل ربما هو قرار انفعالي، فلنفكر قليلاً فيما لو أن استجابة النسيان حدثت، كيف سيكون شكل الحياة ونحن نعيش بذكرى ناقصة؟ نحن كل ما نريده هو أن يزول الألم، والألم سيزول عاجلاً أم آجلاً، وبزواله ستغدو كل الأحداث ذكرى وتجربة أضفت لحياتنا الشيء الكثير مهما كانت قاسية ومؤلمة. إذاً لا تجعلوا النسيان الحل الأول، بل الأخير.

تنبيه: يجب على الأطفال مشاهدة فروزن Frozen

*نشر في صحيفة مكة

اخر حكاية أنتجتها ديزني هي حكاية «فروزن» التي لم تكن على طابع ديزني المعتاد، ولا على شاكلة أفلامها السابقة، لا أقصد من ناحية الإخراج البصري والفني، أي ليس من ناحية جمالية الجرافيكس والرسومات المذهلة أو الموسيقى، وهذا مما لا شك فيه شيء أصيل في إنتاجات ديزني منذ أن وُلِدَتْ، بل أتحدث هنا على مستوى آخر، مستوى تربوي أكثر وعيا بحكم أنها من أهم الشركات العالمية لصناعة الأفلام وصياغة الحكاية، فعلى ما يبدو أن شركة ديزني أخيراً أدركت أن قصص الحب لا تتمركز ولا تتمحور فقط على الحب الذي ينشأ بين الجنسين، أو دعونا نقول أنها أدركت بأنها يجب أن تغرس مفهوما جديداً لدى الأطفال عن الحب، ولو من باب التعزيز.

سأتحدث عن فيلم «فروزن» وأعرج على ناحيتين تربويتين مهمتين، وخلالها سيظهر جواب لسؤالكم الذي نتج عن عنوان المقال: لماذا يجب على الأطفال مشاهدة فيلم «فروزن»؟
خلال مشاهدة فيلم فروزن سنلاحظ بعداً مهماً تمحورت فيه القصة وهي أنها صورت بداية حياة فتاة خلقت بموهبة عظيمة إلا أنها أقحمت في طفولتها على قمعها حتى تحولت إلى هاجس مخيف يؤذيها ويؤذي كل من يقترب منها، ومن هذه النقطة نستطيع إسقاطها على الواقع ونقول بأن العديد العديد في واقعنا يعيش معاناة هذه الفتاة، فكم من أطفال يمتلكون مواهب لكنهم يخشون إظهارها أو يتم تجاهلها حتى تندثر مع الوقت فلا يعود لها بريق، إنها قصة تحكي واقع الموهوبين على الأرجح وخصوصاً أولئك الذين لديهم مواهب مختلفة كلياً وغالباً لا يستطيع إدراكها بعض المربيين فيقتلوها داخل الأطفال مبكراً، لكن موهبة أميرتنا في الفيلم لم تقمع فقط بل جعلتها تخشى المواجهة، وأودتها لتقيم وحيدة في قصر ثلجي، وهذا يشبه كثيراً الأطفال الموهوبين الذين يعيشون متوحدين ومتقوقعين مع ذواتهم في حيرة وقلق إلى جانب أنهم محرومين من استخدام مواهبهم لسبب بسيط هو عدم إدراك المربين سواء والدين أو معلمين لهذه المواهب وتفعيلها. لكن الأميرة في النهاية استطاعت التغلب على الخوف واستثمار موهبتها بمساعدتها لنفسها بدافع الحب وهنا إشارة بسيطة قد يدركها الأطفال عاجلاً أم آجلاً بأنهم في وقت ما سيكونوا هم المسؤولين عن مواهبهم واكتشافها وتفعيلها.
إضافة إلى فكرة أخرى مهمة، ومحورية تستطيع أن توسع إدراك الطفل لمفهوم الحب، بل وإدراك قيمة الحب تجاه الآخرين الذين يعيشون على مقربة، نسكن معهم ويسكنون معنا، دون أن يفكر بعضنا من يقول لهم كلمة حب واحدة، ففيلم «فروزن» لا يحكي قصة تشبه سنووايت وقبلة الحياة من فارس وسيم أحياها من بعد غيبوبة،
ولا سندريلا وفارسها الذي جاب المدينة باحثاً عنها ليجدها ومن ثم ينقذها من عذابات زوجة والدها، ولا تشبه أي من قصص الفيري تيلز، قصة فروزن حكاية جميلة جداً، تحكي علاقة حب أكثر اتساعاً وأكثر صلابة، ذلك الحب الذي لا يصدأ ولا ينهار أمام كل الخلافات. الأميرة في هذه القصة تختلف عن سنووايت وسندريلا حيث لم تشف من لعنتها بفعل ساحرة، الأميرة التي لم تنته على يد رجل ولم تبتدأ بقبلة منه، بل هي ببساطة شفيت بواسطة حب أخوي صادق، كان حضناً أخوياً كما صوره الفيلم. وهذا تحديداً ما يجعلني أقول إن ديزني انتقلت نقلة نوعية في فيلمها الأخير، حيث أنها أخيراً اتخذت منحنى آخر، وحطمت أسطورة قبلة الحب الحقيقي واستبدلتها بفكرة أكثر نضجاً، هي أن الحب الحقيقي لا يرتبط دائماً برجل، مع مراعاة الغريزة الطبيعية للأنثى، حيث إنه لم يكن مستتراً بل واضحاً خلال الأحداث. الفيلم صور معنى الحب في أسمى حالته وأروعها على الأرجح، كان حباً ناعما براقاً بين أختين.
تشكر ديزني لتبديدها خرافات الفيري تيلز المعتادة، نرفع لها ولهذا العمل العظيم قبعة الاحترام، نستطيع القول بأن فيلم «فروزن» حاول علاج أمرين مهمين، الأول: على الموهبة، هو وإن حُرم الطفل في طفولته من يقوده لتفعيل موهبته، فإنه سيدركها مع الوقت ويحررها من مخاوفها ويطلق لها العنان، إلى جانب رسالة للمربيين، لا تقمعوا مواهب أطفالكم بل انعشوها. والثاني: على القلب، حين وسعت مفهوم الحب والعلاقة الحقيقة فيه واستبدلتها بقاعدة حب جديدة يغفل عنها الناشئة غالباً وهي أن الحب الحقيقي غالباً ينشأ في العلاقات بين الأصدقاء والأخوة ومع الوالدين وليس محصوراً في اتجاه واحد؛ تجاه فارس الأحلام، كما أنه لا يلغي ولا يطغى أي من أشكال الحب على الآخر.