الموهبة عصية لكنها تأتي بالممارسة

*نشر في صحيفة مكة

الكل يعرف تقريباً استناداً إلى ما يقوله مطورو الذات بأن أي فعل يريد المرء تحويله إلى عادة يلزمه الاستمرار عليه مدة 30 يوماً فيتحول من فعل نادر الحدوث إلى عادة يومية. لكن فكرة «العادة» هنا بالنسبة للمقال مجرد المدخل للخوض في الحديث عن الموهبة التي يفتقر كثير من الناس متعة حضورها فيهم، وهذا ليس لأنهم غير موهوبين بل ربما لأنهم لا يحسنون استخدام موهبتهم بالطريقة الصحيحة أو ربما فقط لخوفهم من الإخفاق والفشل. ما علاقة العادة إذن بالموهبة؟
كنت قبل فترة قد واجهت تساؤلا حول السر الذي يجعل الموهوبين متمكنين من موهبتهم سواء كان ذلك في الرسم أو الكتابة أو غيرها، فوجدت أن الأمر يطلق عليه السهل الممتنع حيث إن تمكين الموهبة يتطلب أمراً مهماً جداً وهو «الالتزام»، وهنا يأتي حس المسؤولية الفردية فيما يخص هذا الالتزام، فالموهبة تكون عصية أحياناً لكنها تأتي بالممارسة، حيث إني قرأت ذات مرة بأن الكاتب عبدالرحمن منيف كان يخصص لنفسه يومياً ساعة أو أكثر من ساعات الصباح الأولى ليكتب، لكن لك أن تتخيل أن عبدالرحمن منيف كان قد مارسها ليس لعام واحد بل لأعوام وأعوام حتى أصبح كاتباً.
فالطريقة العملية لتفعيل الموهبة إذن هي ممارستها بشكل يومي. ومن حديثنا البسيط عن الكاتب عبدالرحمن منيف واقتران الموهبة بالممارسة والالتزام نستطيع استلهام فكرة ما تمكن الفرد من موهبته، كأن يقوم كل شخص يجد في نفسه موهبة ما بمشروع فردي بسيط وهو أن يحدد عدد أيام معين سواء كان 100 يوم أو 365 يوماً لممارسة موهبته أياً كانت – كتابة، رسم، تصوير وغيرها- خلال تلك الفترة دون الاستسلام لأي عذر. ونستطيع القول بأن ثمار هذا العمل وهذا المشروع لن تتحقق دون معاهدة النفس على «الالتزام»، ويجب أن يكون هذا الالتزام مفعلاً دائما وحاضراً مهما كان صوت مزاجه ومهما كان ضيق وقته، ومهما شعر بالملل وأراد التوقف عنه، وإن اختلط الشعور بمعنى الجدوى حيث يحدث دائماً أن صوتاً داخلياً يحرضنا على التوقف ويسائلنا في جدوى ما نفعل فليس من الجيد الخضوع له بل إن قهر النفس في هذه اللحظة سيكون مطلوباً لاستمرار الهدف الذي تحدد مسبقاً، إذن دعونا نتفق أن هذا المشروع ربما لن يكون أكبر من عمر السنة الواحدة وقد لا يحدث التطوير المرجو على المستوى العام للشخص الموهوب بطريقة واضحة، حيث إن سنة واحدة بالتأكيد لن تصنع منه عباس محمود العقاد ولا فان جوخ، لكن بلا شك سيتخرج الموهوب من ذلك المشروع منجزا ومكتسبا ثقة أكبر في ذاته، وفي النهاية سيكون قد حقق مشروعاً واحداً على الأقل انعكس عليه بعدة جوانب إيجابية كتطوير موهبته وغرس قيمة مهمة تتطلبها الحياة في جميع مناحيها ك»الالتزام».
صحيح أن هذا المشروع لن يكسبه مالاً أو شهرة وتركه أيضاً لن يكون بمثابة خسارة وظيفة مهمة يعتمد عليها لكنه حتماً سيكون فخوراً بما حقق خلال السنة لأنها حتماً ستكون سنة غير عادية وقد يتغير بعدها صاحب المشروع إلى الأبد. وسيشعر لحظتها أنه اكتسب الكثير الذي لم يحسب له حساب، كشرف المحاولة أمام نفسه، وطعم الإنجاز الذي أصبح حاضراً فيه، بالإضافة لمشروع جديد يضفي لمشواره العظيم ويرفعه درجة أو النصف، إضافة إلى أن هذا المشروع البسيط جداً والذي قد يراه غيره غير مهم إطلاقاً، سيكون جزءا لا يتجزأ من مشوار حياته الطويل الذي كان قد خطط للوصول إليه في خارطة ذهنه وربما على ورقة حياته المكتوبة التي آن لها أن تكون تطبيقاً عملياً مثمراً.

الرواية لغة يتفرد الشخص في خوضها

نشر في صحيفة مكة

يقول علي عزت بيجوفيتش «الشعر هو معرفة الإنسان، والعلم هو معرفة الطبيعة». إن الفنون معرفة لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال، مهما حاولت عقولنا الاستخفاف بأهميتها فإن شيئا ما داخلنا يتوق إليها باستمرار. هذا الشعور ليس سخيفاً أبداً، بل هي خاصية متعلقة بالإنسان في خلق الحياة خلال روحه، وهذا لا يتم إلا عبر الفن وأحد أشكاله.
أتذكر مقولة قالها أحد المثقفين وهي أن «الرواية لا تبني عقلية المثقف، بل هي شيء جانبي ليست له قيمة علمية، لا تضيعوا أوقاتكم في قراءتها». نستطيع الاتفاق معه في حين تعاملنا مع الرواية كأي كتاب آخر، أي إذا أردنا قيمة علمية معينة أو الخروج منها بحصيلة معلوماتية رهيبة، وأظنه أخطأ حين نصح بتجنبها، ونحن نخطئ كثيراً في حق أنفسنا قبل الخطأ في حق الرواية إن استمعنا لنصيحته دون أن نرى الجانب الآخر في الرواية، فالرواية ليست إلا عملاً فنياً. والفن يستوجب علينا أن نعطيه حيزاً لا يستهان في أوقاتنا لأنه الجمال الذي نتعب دونه، بالإضافة إلى أن بعض الباحثين وجدوا أن أدب الرواية تحديداً له تأثير على المهارات الاجتماعية كالتعاطف والقبول الاجتماعي والذكاء العاطفي وغيرها من القيم الإنسانية وبنائها. كما أن بعض الدراسات أشارت إلى أن الروايات تعزز من عمل «نظرية العقل»، وذلك يعني أنها تقوي قدرة الإنسان، حيث يستطيع تخيل وفهم الحالات الذهنية للآخرين، وربما نستطيع أن نلحظ أن قراء الروايات تحديداً هم الأكثر تعاطفاً وفهماً لإنسانية الآخرين، وذلك لكونهم يرتبطون عاطفياً بأحداث الروايات. وأنا أركز هنا على أن الروايات حتى وإن كانت لا تحتوي على كم معرفي كبير لكنها لا تتجرد كلياً من كونها سجلا تاريخيا أو وثيقة كما يسميها البعض حين يعيد الروائي كتابة أحداث معينة وتاريخ محدد بطريقته النقدية، وأحياناً قد تحمل الرواية معنى موسوعة، لأنها تتسع فعلياً لعلوم إنسانية مختلفة خلال صياغة الكاتب لها بطريقة فنية تعبيرية مختلفة.
الرواية يستحيل علينا أن نعتبرها هامشا، بل هي تجربة يتفرد الشخص في خوضها، فلنتصور أن أحداً يقف أمام لوحة تشكيلية نستطيع ملاحظة أن مدة الوقوف أمام اللوحة تختلف من شخص لآخر، وهذا ليس فقط لأجل الخلفية التي يعرفها عن اللوحة فقط ولا بسبب المعلومات المكتوبة بجانب اللوحة، بل هذا يدخل فيه تجربة الإنسان الفردية حيث إنها قد تثير فيه عواطف تختلف منه لشخص آخر، تماماً فهذا ما تفعله الرواية، فهي لا تستخدم عقلك بقدر أنها تقبض على عواطفك وتحاول أن تربطها بذكرياتك ومشاعرك وتجاربك وتصل لأبعد من ذلك، حيث إنها قد تترك فيك عمقاً وأثراً لا يزول أثره سريعاً، فهي تستفيض فيك وتحتل الروح، وهذه من أعظم القيم. اعتبروا الرواية كأنها الطين الذي مزجته مشاعر الكاتب بماء روحه فأخرجها متسعة ليستطيع القارئ خلالها وبين فواصلها أن يندس بمشاعره وأفكاره ويقيس تجاربه فيها حتى إننا غالباً كقراء لا ننتهي من قراءة رواية ما دون أن نترك أجزاء منا مدسوسة فيها، وما إن نعود إليها بعد زمن حتى نلتقي بشيء منا كنا قد نسيناه أو طويناه مع الأيام في صفحاتها. وهذا ينطبق على الفنون بشكل عام. العلاقة بيننا وبين الفن علاقة تبادلية، تقرؤنا ونقرؤها ونتبادل أطراف الحديث معا، الفن في النهاية هو السؤال والجواب، الحقيقة والخيال. والرواية بصورة خاصة تستطيع أن تصنع فوهة معينة في عقولنا ثم تتسرب لتغربل طريقة تفكيرنا فينعكس ذلك في رؤيتنا العامة للحياة، فبعض الفنون تحكي دون تعبير لكن الرواية والقصة والسينما هي التعبير عن فصول معينة مرت أو لم تمر بعد في حياتنا حتى لو أنا لا نريد أن تكون كذلك.
إذاً فالفن لا يقل أهمية عن العلم، لأنه يفسر الحياة الجوانية والعلاقة الإنسانية، والتعقيدات النفسية. بل هو يستطيع ببراعة إظهار الجمال، وتصوير الغموض في مستوى جمالي حتى وإن صعب على العقل تفسيره لحظتها. يقول هويزر في تعريفه للعمل الفني «إن العمل الفني شكل ومضمون، اعتراف ووهم، لعب ورسالة، هو قريب من الطبيعة وبعيد عنها، هادف ولا هدف له، تاريخي ولا تاريخي، شخصي وفوق شخصي في الوقت نفسه».