مخاطر العقلانية من وجهة نظر إدوارد سعيد

Edward_Said

*نشر في ساقية

إدوارد وديع سعيد (1935 – 2003) مُنظر أدبي فلسطيني وحامل للجنسية الأمريكية. كان أستاذا جامعيا للغة الإنكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية ومن الشخصيات المؤسسة لدراسات ما بعد الكولونيالية. كما كان مدافعا عن حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني، وقد وصفه (روبرت فيسك) بأنه أكثر صوت فعال في الدفاع عن القضية الفلسطينية.

20152809212815

تحدث كتاب (إدوارد سعيد من تفكيك المركزية الغربية إلى فضاء الهجنة والاختلاف) عن دراسة تحدثت عن أحد أمثلة مخاطر العقلانية التي تحدث عنها (إدوارد سعيد) وكان “الاستشراق” موضوعها بأنها:

يتميز تمثيل الشرق الذي نقله مجمل الإنتاج العلمي للمستشرقين في القرن التاسع عشر بتماسكه وعقلانيته كما يقول (سعيد). بفضل الوضعية العلمية، أصبح العالم الشرقي الغريب والفوضوي مفهوماً للقارئ الغربي، ووفر لرجال السياسة لغة جعلت خطابهم ممكناً وذا مصداقية. هذا الترابط المنطقي، يقول (سعيد)، بأنه وهمي واستيهامي. ليس هذا الترابط المنطقي سوى نتيجة لتأثير أنتجه أسلوب التصنيف، هذا النظام المغلق الذي يُعطي الشعور بالاكتمال والموضوعية العلمية، لكنه يخفي المحتوى الأيدلوجي للخطاي الاستشراقي والثغرات والتحيز الذي يستند إليه. إن كتاب (المكتبة الشرقية) للمستشرق (هيرلبوت) الذي نشر في 1697، والذي سيكون بمثابة نموذج لكتاب وصف مصر يقدم، حسب (سعيد)، مثالاً على هذه المعرفة التي تخفي عقلانيتها وتنظيمها الأبجدي “أساطير إيديولوجية“.

في كتاب علمي مثل (المكتبة الشرقية) الذي هو نتيجة لدراسات وبحوث منهجية، يفرض المؤلف نظاماً على المادة التي اشتغل عليها، بالإضافة إلى ذلك، يريد أن يفهم القارئ جيداً بأن هذا الكتاب عند طباعته يمثل حكما منظماً ومنضبطاً عن هذه المادة “الشرق“. ماينقله كتاب (المكتبة الشرقية) هو الفكرة القائلة بأن قوة الاستشراق وفعاليته تذكر القارئ في أي مكان أنه من الآن فصاعداً لكي يفهم كنه الشرق، يجب عليه أن يمر عبرالخطابات والرموز الثقافية التي قدّمها المستشرق الأوروبي.

هكذا، خلق الاستشراق ، حسب منظور (سعيد)، تحت ستار التبحر العلمي الممنهج، نظاماً ممن التمثيلات الوهمية عن واقع قائم أساساً على وحدة جغرافية وثقافية ولغوية وإثنوغرافية، في حين أن هذا التقليد الأوروبي “الاستشراق” يستند إلى تشظي وتقسيم تعسفي لهذه الوحدات. بسبب وهم الترابط المنطقي لظاهرة الاستشراق والسعي إلى فهم فوضى الشرق، سيطر الغرب على الشرق، لكن هذا الشرق لم يكن في غالب الأحيان سوى تسلية واستجمام للمستشرقين لأن محتوى الدراسات الاستشراقية يستند حسب منظور (إدوارد سعيد) إلى “أساطير إيديولوجية“. لدعم وجهة نظره، يستند (سعيد) إلى أمثلة التعامل مع اللغة العربية وتمثيل (النبي محمد) الذي اعتاد كتاب (المكتبة الشرقية) إنتاج صورته كدجال على شاكلة الصورة التي كانت موجودة من قبل العصور الوسطى أو العمل الشهير (الكوميديا الإلهية) للكاتب الإيطالي (دانتي).

في هذا المستوى من التحليل أيضاً، من الواجب التلويح بعدد من التحفظات. يخص التحفظ الأول مرة أخرى الطابع المنهجي لتحليلات (سعيد) الذي لاتميل إلى المتون العلمية الغزيرة التي اشتغل عليها فيه إلى إبراز الاختلافات والفروق الدقيقة لفكر الكتّاب، بل تسعى إلى إثبات تواطؤ لغتهم والنفاق الواعي أو المستتر لنواياهم. على شاكلة العلماء الذين كان إنتاجهم موسوعياً وغزيراً، تبنى علماء اللغة مثل (إرنست رينان)، وعلماء النحو مثل (سيلفستر دو ساسي)، نظام تصنيف، يؤكد (سعيد) أنه فتّت المعرفة وأصابها بالتشظي، وخلق بالتالي فجوات ملائمة لتطوير الأساطير الايديولوجية.

إذا كانت أعمال المؤلفين الذين تم الاستشهاد بهم تنقل صورة سلبية عن الإسلام والشرق -وهو المناسبة ليس الشيء نفسه، لكنه يتطابق عن قصد في منظور (سعيد)- فإن هذه الصور لا تنشأ بالضرورة من هذا الوعي بالتفوق الغربي واحتقار الآخر والايدولوجيا الاستعمارية. إن أراء (دانتي) و(سلفستر دو ساسي) و(إرنست رينان)، إذا كانت تطلق أحكاماً سيئة عن الدين الإسلامي أو الثقافة الشرقية، فهذا لا يعني بالضرورة أن تفكيرهم تهيمن عليه إيديولوجية قديمة تحصرهم في اجترار الخطاب نفسه والأحكام نفسها واستنساخهما.

إن التصور الذي نملك،على سبيل المثال، العبودية والعنصرية والاستعما، لم يعد يخضع للمعايير نفسها. إذا فشل المستشرقون في التخلص من الايديولوجيا الاستعمارية التي تبقى موضع تساؤل، فإن العمل الهائل الذي قاموا به، وبعيداً عن خلق صورة وهمية خيالية عن الإنسان الشرقي، قدّم لهذا الأخير مجموعة هائلة من المعلومات تسمح له بتشكيل تاريخه وثقافته. هل في وسع المرء اليوم أن يُنكر إسهام (شارل أندري جوليان) و(جاك بير) في البحث التاريخي في المنطقة المغاربية؟ ماهي المواد العلمية التي  استخدمها (ادوارد سعيد) عن الشرق، إن لم تكن كما يبين ذلك جيداً كتابه سوى أعمال المستشرقين؟

ومع ذلك، إذا كان كتاب (ادوار سعيد) كان قد خلق ضجة في أوساط المستشرقين وأتاح للأوروبين تغيير نظرتهم للشرق، فإنه عزز لدى المثقفين العرب رفض الآخر، ورسخ بشكل عميق الكولونيالي، ومنح قاعدة فكرية للأفكار الأصولية؛ باعتماد لغة جدلية في حدتها، وتقييد حقل الدراسة في غايات إيديولوجية.

حدث متخيل ..

who-am-i

النص الثالث من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

جلست على أريكتها المفضلة أمام شاشة التلفاز. وقبل أن تضغط جهاز التحكم لتتابع مسلسلها الذي سيبدأ بعد 3 دقائق، رأت نفسها على الشاشة، شغلها الأمر كما لم يشغلها من قبل.. انعكاس مألوف، عادي، وطبيعي. فهي تجلس كل يوم في مثل هذا الوقت، في نفس هذه الأريكة وبنفس هذه الطريقة ولا تأخذ هذا الانعكاس الظاهر لنفسها على الشاشة كمرأة على محمل الجد. قد مضت أيامها ضمن هذه المعرفة البديهية دون أي ارتباك، أي أنها لم تستوقفها تلك المعرفة للمحاسبة والسؤال من قبل.. فلماذا اليوم؟ وهذه الساعة تحديداً؟

أخذت تراقب نفسها، تحرك يديها، ترفع قدميها، تبتسم، وتبكي، وحولت تلك المراقبة لبضع مشاهد هزلية وجادة في الوقت نفسه. كانت قد تخيلت أنها تستطيع أن تؤدي الأدوار ببراعة وإتقان ضمن سلسلة طويلة من الانفعالات. وبعد تأمل نفسها لنصف ساعة قررت أن تؤدي مشهداً عابراً، علّ الشاشة الذكية تلتقطه دون علمها. فبدأت تمثل دور توأمين هي على أرض الواقع، وتوأمها الظاهر في الشاشة.
كان التوأمان قد انفصالا لسنين طويلة، ولم يلتقيان لعدة سنوات، وحال ما رأى كل منهما الآخر، بدأت بتقمص الشخصية، وحاولت أن تظهر تفاصيل الصدمة من رؤية توأمها الجاثم أمامها بشكل ملفت ومتقن جداً، كانت تحاول فعلياً أن تمثل الدور على أكمل وجه. كانت تقف وقد اتسعت عيناها من هول المفاجأة، وانفرجت شفتاها عن بعضهما في ذهول بعد أن كانتا مطبقتين. أخذت تقترب إلى انعكاسها ونفسها، وتوأمها كما يبدو، ببطئ، بل ببطئ شديد.. كما أن الآخر بدوره -الانعكاس- كان يقترب إليها في ذات الوقت، كانت طريقة الاقتراب المتبادلة لطي المسافات تثير اهتمامها في تلك اللحظة. فعَبر سؤال على ذهنها يقول: ماذا سيحصل لو أننا والآخرين اللذين نحبهم نطوي المسافات إلى بعضنا بذات الطريقة على الواقع أيضاً؟! لم تجعل السؤال يشغلها، فقد كان اللعب على هذا الدور أهم في نظرها من أي شيء آخر الان.. رؤية نفسها تؤدي دوراً درامياً مختلفاً بشكل جدي ويحمل أطناناً من المشاعر المختلفة أمر لا يتكرر، وربما لن يحدث مرة أخرى!
كانت تقوم بتفعيل تلك المشاعر المتراكمة داخلها من وحي السنين داخل ذلك المشهد، تلك المشاعر التي لا تعرف كيف تظهرها على نحو طبيعي أمام من تحبهم من الأصدقاء، بل وحتى أمام أخوتها في الواقع! كانت تفعل ذلك أمام نفسها بجرأة كبيرة بل برصانة وعمق.. حتى أنها كانت تعيشه بحواسها كاملة كما لو أنه حدث حقيقي .. كان لقاءً كما يبدو عن قرب -أي من داخلها- حميماً وصادقاً و لكنه من زاوية الواقع ليس كذلك. فهي تعرف جيداً أنهما شخص واحد على أي حال، أي ليس هناك لقاء على وجه الحقيقة. ورغم ذلك فعند وصولها نقطة الإلتقاء بتوأمها، أخذت تبكي بعمق شديد، بشكل هستيري لم تفعله من قبل! خصوصاً وأنها كانت لا تستطيع الانتقال إلى نفسها فعلياً ولا احتضانها بعد هذا الفقد الطويل، ذلك الفقد غير الواضح أو المبرر. لكنها عاشت تلك اللحظة من جذورها، ثم أكملت التمثيل من بعد كل ذلك السيل الجارف من المشاعر الحقيقية، بمشاعر من أستطاع أخيراً أن يصل إلى توأمه، دون وصول.
أدت المشهد بشكل يفوق الوصف، متقن لدرجة أن يوماً ما بعد عدة سنوات، عاشته مرة أخرى وقد تقمصت فيه ملامح حُفرت فيها كثير من المشاعر المختلطة. دفعتها لتمسح للآخر دموعه بمدها يدها إلى وجهه، كانت تمثل ذلك بصمت يحمل الكثير من التعابير إلا من رجفة بكاء تحاول عدم التعري، وعند اللحظة التي اقتربت فيها لتخترق بيدها الشاشة على أمل الوصول إلى نفسها وتوأمها المقابل بشكل حقيقي.. في تلك اللحظة بالذات صفق الجمهور، صفق بشكل متواصل! كان جمهوراً حقيقياً، على مسرح حقيقي. كان يصفق بحماسة وبإعجاب شديد لأنها أدت دورها بشكل مدهش ومتقن.. كانت تؤدي الدور على المسرح بشكل استثنائي، فستحقت تلك التحايا، واستحقت ذلك الجمهور.

رسائل بين تولستوي و الإمام محمد عبده

%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d9%87-2

*نشر في ساقية

كان الأديب الروسي (تولستوي) والإمام (محمد عبده) يعيشان في نفس العصر، فـ(تولستوي) عاش بين الفترتين (1828م-1910م) وكان الإمام أيضاً قد عاش بين الفترتين نفسهما (1828م-1910م).
وقد كان الاثنان كل منهما “كاتباً” يقر مكانة الكلمة ويعتبرها وثيقة آدميتنا حتى لو كان (تولستوي) نبيلاً إقطاعياً.. والإمام داعية إسلامياً.

هناك رسالة كان قد كتبها (محمد عبده) إلى (تولستوي) وهي موجودة حالياً كمخطوطة عربية في متحف (توليستوي) قال فيها:

أيها الحكيم الجليل مسيو (تولستوي)، لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكننا لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس العقلاء ونفسك، هداك الله إلى معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها، ووفقك إلى الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعبأ ترتاح به نفسه، وسعيا يبقى ويرقى بها جنسه.
شعرت بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة، استعملوا قواهم التي لم يمنحوها ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم، وزعزع طمأنينتهم، نظرت نظرة في الدين، فرقت حجب التقاليد، وصلت بها إلى حقيقة التوحيد ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ماهداك الله إليه، وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه.
فكما كنت يقومك هادياً للعقول، كنت بعلمك حاثاً للعزائم والهمم. وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي به الضالون، كان مثالك في العمل إماماً اهتدى به المسترشدون. وكما كان وجود توبيخاً من الله للأغنياء، كان مداداً من عنايته للفقراء.
هذا وأن نفوسنا لشيقة إلى مايتجدد من آثار قلمك، فيما تستقبل من أيام عمرك والسلام.

(محمد عبده، مفتي الديار المصرية 2 أبريل 1904).

854

كان لـ(تولستوي) رداً على تلك الرسالة.. فقد تجاوب مع الإمام بشكل لائق كما ترجمت في كتاب (ورثة تولستوي)، مبتدئاً رسالته بـ”صديقي العزيز“:

لقد تلقيت رسالتكم الطيبة الحافلة بالمديح وها أنذا أسارع بالرد عليها مؤكدا لكم أولا السعادة الكبرى التى أعطتنى إياها إذ جعلتنى على اتصال برجل متنور.. حتى ولو كان ينتمى إلى إيمان يختلف عن إيمانى الذى ولدت فيه وترعرعت عليه.. ومع هذا فإنى أشعر بأن ديننا واحد ـ لأنى أعتقد أن ضروب الإيمان مختلفة ومتعددة. وإنى لآمل ألا أكون مخطئا إذ أفترض ـ عبر ما يأتى فى رسالتكم ـ بأننى أدعو إلى الدين نفسه الذى هو دينكم.. الدين الذى يقوم على الاعتراف بالله وبشريعة الله التى هى حب القريب ومبادرة الآخر بما نريد من الآخر أن يبادرنا به.. إننى مؤمن بأن كل المبادئ الدينية الحقيقية تنبع من هذا المصدر والأمر ينطبق على كل الديانات.. وإننى لأرى أنه بمقدار ما تمتلئ الأديان بضروب الجمود الفكرى والأفكار المتبعة والأعاجيب والخرافات.. بمقدار ما تفرق بين الناس بل تؤدى إلى توليد العداوات فيما بينهم.. وفى المقابل بمقدار ما تخلد الأديان إلى البساطة وبمقدار ما يصيبها النقاء تصبح أكثر قدرة على بلوغ الهدف الأسمى للإنسانية ووحدة الجميع. وهذا هو السبب الذى جعل رسالتكم تبدو لى ممتعة وفى النهاية ارجو أن تتقبلوا يا جناب المفتى تعاطف صديقكم .. تولستوي.


[المصدر]

يوم خارج الزمن!

النص الثاني من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

أتذكره جيداً ذلك الصباح الذي أتى قبل موعده ب 5 ساعات على أقل تقدير.. وكأن موازين الكون اختلت تماماً فكيف يجيء الصباح قبل موعده؟ وكيف يكون ساطعاً منذ بدايته لهذا الحد.. إنه عنوان ليوم خارج عن المألوف..
كنت مستيقظة وبحكم أن الصباح قد جاء بغتة فابتدأت اليوم دون رغبة في إغلاق الستائر و دون الإصرار على جسدي ليأخذ قسطاً من الراحة.. كنت قبل وطوال الليل القصير الذي لم يتجاوز الساعتين مستغرقة في أعمالي الكتابية حيث أني لم أرفع رأسي عن حاسوبي إلا بضع دقائق مقابل الساعات المتواصلة.. لم أكن أعلم ماذا أكتب بالضبط.. لكني على يقين بأني أكتب و مسترسلة ولا شيء كان بإمكانه قطع أفكاري السائلة، تلك القادرة على الاستمرار بالتدفق من عقلي لتصير نهراً بين يدي.. لست متحمسة لعرض أفكاري على العالم.. لكن كان مهماً أن أقول أني أعيش نهاراً استثنائياً ويقظاً لأبعد حد.. حتى أني خشيت أن أكون تجاوزت طبيعتي لغير طبيعتي فهل أصبحت ملاكاً مثلاً أو شبحاً حقيقياً وأنا التي لا تؤمن بوجود الأشباح إلا في قصص الفانتازيا! أجبرت نفسي على النهوض، صنعت لنفسي كوباً من القهوة، وقفت على النافذة بعضاً من الوقت أتأمل ما يحدث في العالم الخارجي.. كان الهدوء قد ترك الساحات واستسلم للاختباء في الأزقة، وترك الضجيج ليحاصر الأماكن جميعها، أنه ضجيج الحياة.. و الامتلاء.. تنبهت للوقت مرة أخرى فوجدته لا يتحرك! لكن لماذا كل الكون يتحرك بشكل طبيعي؟ لماذا أنا فقط وعالمي تحديداً هو من يتوقف! ويتعثر ويعود للوراء أو يتقدم ببطء شديد بل أشعر به كطفل لتوه تعلم المشي فلا يستطيع أن يتجاوز ال 10 خطوات حتى يتوقف ويجلس منتظراً فرصة أخرى للمحاولة! شعرت بأن علة ما أصابت الوقت عندي.. لم يكن التخمين صعباً لأكتشف المشكلة، لكني وبحكم أن كثيراً من الحياة التي أعيشها لها من الخيال نصيباً، ومن الفانتازيا الشيء الكبير، فقد تخيلت أن الخلل في العالم بأكمله، تخيلت بأنها سيريالية الوقت. كانت المشكلة الوحيدة في الحقيقة هي عطل بسيط في ساعة الحائط التي على جدار غرفتي.. من يستطيع تصديق ذلك؟ من يقدر أن يتخيل مثلي أن كل الذي سبق هو عالم افتراضي بنيته في عقلي وحسب؟
الطبيعي أن يأتي هذا الاحتمال -عطل الساعة وليس توقيت العالم- كاحتمال أول إلى ذهني، لكن ربما ذهني لا يريد العمل وفق طبيعته! لهذا لم انتبه لطبيعة الخلل إلا بعد ساعات طويلة.. كان بإمكاني أن أطالع الساعة في جوالي أو في جدار الغرفة المجاورة على سبيل المثال.. لكنها قدرتي في رؤية العالم كما أريد أن أراه وكما يبدو من الممكن له أن يكون وفقاً لطبيعة ذهني المتخيلة، حتى لو لم يتطابق ذلك مع المنطق ودورة الحياة وشكلها الذي يبدو عليه! لست قارئة نهمة للفانتازيا على أي حال، لكنها استطاعت أن تتشكل في حياتي بشكل ما.. أي على طريقتها التي جعلتني كثيراً ما أتجاوز أموراً جدية بمعادلتها الحرة والخارقة وأبقى في النهاية خارج المفترض والواقع! وأظن السبب الرئيسي في تخيلاتي تلك ببساطة، هي محاولات مستمرة مني في خلق عالم يتكيف مع طبيعتي الحالمة..
في النهاية، أخذت ساعة الحائط المعطلة و أصلحتها وأعدتها لمكانها فعادت الحياة تسير على ما يرام وبشكلها الطبيعي والممل!!

انفعال مستهتر!

انفعال مستهتر …

النص الأول من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

وقفت فتاة حسناء على كرسي أحد المطاعم الفاخرة ذات مرة، لم تكن مهتمة لأناقتها المتكاملة، ولم تكترث لذلك التباهي الذي يسكن أركان ذلك المطعم، فالكل يحاول الظهور، الظهور المادي الذي يسلبهم تماماً حقيقتهم! أما هي فأصرت على ذلك الوقوف المستهتر ليس محاولة في تصغير أو انتقاص نفسها، لكنها الجدية في التصرف وفقاً لسلوكيات طبيعية تتوافق مع بشريتها في مكان يكاد لايكون طبيعيا من وجهة نظرها بأي حال لأنه يضعها ضمن بروتوكولات محددة ويقمع كل انفعالاتها العفوية.. نظر إليها الجميع نظرة استنكار، محاولين بعضهم الشكوى على تصرفها بوصفه أحمقاً، وطفولياً وغير ناضج وأقرب مايكون إلى الجنون! فهل يعقل أن تقف فتاة ثلاثينية إلا 3 أعوام على كرسي، مقهقهة بصوت عالٍ، قائلة أخيراً فعلتها في مطعم من أفخر المطاعم في المدينة؟ هي لم تختر ذلك المطعم بمحض إرادتها، أخذتها صديقتها إليه دون أدنى معرفة بتفاصيل المكان، لكنه توافق مع أمنية حقيقية كانت تلح عليها. لم يصلها خبر استثنائي بفوزها بنوبل مثلاً حتى تبرر لنفسها و لأحد هذا الفعل والتصرف.. لكنها فعلته متعمدة وسط هذا الحشد من الاتيكيت والمكابرة والطرق التي تحوّل الأشخاص الى ارستقراطيين جبراً. بل تقلب أفعالهم  وكأنهم روبوتات لشدة التزامهم بالمراسم المقننة والتي ربما لها إصدارات كثيرة وكتيبات عنونت ب “كيف تصبح راقياً في 50 خطوة”!
هي تمنت أن تدخل بوابة أحد أماكن هؤلاء النخبة بشكل خاطئ لترتكب حماقتها تلك كأحد أكثر 10 أشياء جنوناً تود فعلها في حياتها، وقد تحقق لها ذلك.. لكن سرعان ماوجدت نفسها واقفة على ذلك الكرسي وحيدة متخلية عنها صديقتها لفعلها غير المدروس والذي أقحمها في موقف سخيف أمام معارف كثر! عدا أن أحد الرجال تطفل عليها وعلى هذا الموقف وأخذ يصفق لها بحرارة كأنه يشاهد مسرحية انتصر فيها بطلها على الشر المحض، ليحقق هوالآخر أمنيته في رؤية وتقدير من يتجرأ على كسر نمطية المكان وقوانينه!