الرواية مؤقتة أم خالدة

* نشر في صحيفة مكة

نستطيع أن نلحظ أن بعض الروايات تتصدر المراكز الأولى منذ فترة طويلة، وتمر على أجيال مختلفة يحملون لها ذات الشغف، أمثال روايات ديستوفسكي وتوليستوي.

لكن هناك بعض الروايات يخبو اسمها واسم كاتبها سريعا، أو لا تكاد تذكر بعد فترة من الزمن إلا فيما ندر، وكأن الروايات تنقسم لقسمين رواية موقتة ورواية خالدة، ما السر الحقيقي وراء ذلك؟ ولماذا تكتسب كل منها هذا الوصف؟
إن بعض الأعمال الروائية التي يهتم صاحبها للفكرة فقط وللحدث الذي تدور حوله الرواية هي بشكل أو بآخر تكتسب صفة الوقتية خلال تلك الحدود الزمنية والمجتمعية والتاريخية التي لا تكاد تخرج عن إطارها، بمعنى أكثر اتساعا، فإنها لا تتجاوز تلك الحالات والأحداث المحددة، قد تتطرق إلى جوهر المعاني الإنسانية الكلية التي نشترك فيها لكن تمركزها يظل داخل إطار زمني محدود، وحدث تاريخي مصاغ.
في الجانب الآخر أو المقابل لذلك، هناك روايات تتسع في مفهومها وأحداثها، أي تشعر بأن تفاصيلها خارج الزمن وخارج الحدود، وفي ذات الوقت هي تمر داخل أنسجتنا الروحية وتحتوينا، مهما بدا فيها أسلوب الكاتب بسيطا وسلسا، هي تجعل الإنسان وغايته وأبعاد نفسيته مركز أحداثها، وتتطرق إلى أحلامه وأمنياته وأوجاعه، كل ذلك يجعلها تكتسب صفة الخلود، فنلحظ بشكل أو بآخر أنها تكتب لنا جميعا ولا أحد مستثنى منها لأنها ببساطة تكتب للإنسان بشكل رئيسي.
إذن، فروايات كتلك في أسلوبها وموضوعها هي تتبنى عنا الوجع وتخفف وطأة الصمت، وأكثر ما تفعله أنها تحاول مرارا أن تضعنا في الطريق حين نظن أن كل الطرقات باتت مقفلة ولا مجال للمضي أكثر، تحاول أن تكون رفيقة ذلك الطريق فتعمق إنسانيتنا ورؤيتنا، وتدفعنا بقوة وجرأة للدخول في دوامة الحياة بشجاعة أكبر.
إن الرواية التي تتلخص في هذا المفهوم وهو الإنسان، تنتقل من الزمن إلى حدود أبعد منه حيث الخلود، أي تصبح نصا خالدا، فمعاناة الإنسان وضياعه تتكرر، والصيغة الروائية هي الجزء الذي يكفل لنا حق استعادة أحلامنا من جديد خلال استيعاب الكاتب لذلك القلق الذي يصيبنا جراء الحياة.
وسأضرب مثالا على ذلك، فمثلا نحن جميعنا نظن أننا قرأنا كل روايات ديستوفسكي الروائي العظيم الذي تحدث عن الإنسان، بينما نحن في الحقيقة لم نقرأ إلا الجزء الذي تحدث فيه عن خبايا الإنسان وأحواله النفسية كالإخوة كارامازوف والجريمة والعقاب، أما منزل الموتى مثلا فهي ليست بشهرة الأخريات مع أنها ملتزمة بالجمال الفني المعتاد لفيودور ديسوفسكي، هل أحد تساءل عن السبب؟ سأجيبكم بسبب بسيط، وهو أن الأخيرة «منزل الموتى» تتحدث عن التعذيب في سيبيريا، أي أنها تتحدث بتفاصيلها عن وقت وفكرة محددة تماما، بينما الأخريات تمحورن بطريقة بديعة حول النفس البشرية بإجمالها، ونستطيع أن نقيس ذلك على روايات وكتابات عديدة.
إذاً فخلود الكلمة يكون بخلود الإنسان، بمعنى أن الحرف الذي يكتبه الروائي والذي يتبنى الإنسان وحده، هو الذي يتجاوز الأفكار وحدود المجتمع
والزمن أيضا.

الحاجة وليدة الاختراع!

*نشر في صحيفة مكة 

بعد الإعلان عن الآي فون الجديد لربما أول رد فعل ظهر من الجمهور بشكل عام هو التعبير عن مدى احتياجاهم الفعلي لبعض أو كل التجديدات والخصائص المضافة له، ولا أعلم نسبة الطلب التي تمت خلال ليلة واحدة، إلا أن الكثيرين بعد المؤتمر مباشرة أعلنوا بشكل صريح عن مدى رغبتهم وحاجتهم لاقتنائه.

لكن لو نتأمل قليلاً فإننا سنستنتج بطريقة أو بأخرى أن الحقيقة مغايرة! لربما تكون تلك الحقيقة هي أننا نعيش حياتنا على الزيف وربما الوهم، وأقول ذلك لأن الغالبية ببساطة قبل الإعلان عن الآي فون لم تكن تأبه لتلك المستجدات ولم تكن تفتقدها أبداً لكن لمجرد الإعلان عنها توهموا تلك الحاجة.
وهنا يجب أن نقف قليلاً على عبارة «الحاجة أم الاختراع» فمؤخراً لم تعد الحاجة سبباً للاختراع بل الاختراع بحد ذاته يولد الحاجة! ومن هذا المنطلق لا يسعني إلا أن أتذكر أفكار عبدالوهاب المسيري وطرحه بخصوص الاستهلاك ورفع مستوى الحاجة الفردية للإنسان ليكون مستهلكاً بدرجة أولى، فيقول: إن الاستهلاك يعني التخلي عن مجموعة ضخمة من القيم الإنسانية المهمة، وهنا يقصد بالضرورة الاستهلاك حين يصبح هو المركز وهو القاعدة، أي حين يتحول العالم ليتمحور حول الأشياء المادية التي لا تتجاوز الحواس، وقد ذكر في هذا مثالاً لفكرة الوجبات السريعة كيف أنها مثال في إلغاء فكرة الجلوس مع العائلة في مائدة واحدة في ساعة واحدة لتناول وجبة الغداء التي تم إعدادها في المنزل، ويقصد هنا أن أحد أسباب عدم التقاء العائلة ما هو إلا نتيجة لمركزية الاستهلاك، أي إلغاء قيم إنسانية مهمة مقابل هذا الحل ذي الطابع المادي، لكن د. المسيري في المقابل لا يطالب بإلغاء تلك الوجبات ولا تحريمها لضرورتها.
ونلحظ هنا أن مجتمعاتنا أصبحت استهلاكية حتى أنها ما عادت تسأل نفسها عن المعنى من اقتناء المنتج الذي تستهلكه ولا أهميته الحقيقية.
ونستطيع هنا أيضاً إسقاط أطروحة المسيري مرة أخرى وهي التي يذكر فيها بإسهاب تحويل الإنسان إلى شيء عبر الثقافة المادية البحتة التي غزت العالم، وذلك خلال إزاحة الإنسان من المركزية لتحل محله السلعة، أي تصبح أكثر أهمية منه، حيث كان يذكر في أحد مقالاته بأن هذا الغزو لا يقتصر على الشرق، فهذا وهم، بل نلحظ أنها نتيجة طبيعية لمد الحضارة المادية، وذلك يعني إلغاء خصوصية المجتمعات جميعها حتى الأوروبية منها عبر فرض طابع واحد وتقاليد متشابهة.
ونستطيع ضرب مثال بسيط هنا وهو الموضة، فكيف أصبحنا لا نلبس فحسب بطريقة متشابهة بل ذلك يمتد ليشمل اللون بحسب فصول السنة، وشكل الحذاء وطول الكعب، ومن المناسب أن أذكر هنا أني قرأت ذات مرة في أحد الموضوعات المهتمة بالأزياء أن الحذاء الذي يبلغ طول كعبه كذا سنتمترا فيستحسن ارتداؤه في السوق والأعلى منه لليوميات، والأعلى للمناسبات وهكذا.
فها هو موضوع الاستهلاك يجرنا لنكون مستعبدين ويضيق من حرياتنا الحقيقية، فمن الذي يفرض على الحر ما يرتديه، وكيف يرتديه وكيف تصبح الأمور الشكلية أهم من ذوق المرء الخاص وراحته؟!
أخيرا وبعد هذا الطرح، فإن ما يجب علينا الوعي به حقاً هو أن العبودية لها أوجه عدة ومعان عدة، إلا أن أحد أوجهها يظهر بشكل مغر، حتى أن المرء ينخرط فيه دون وعيه التام لأبعاده، بينما أوجه الاستعباد الأخرى تحصل بشكل قهري.
نحن بحاجة حقاً لأن نفكر كثيراً ونتساءل دائماً قبل اقتناء وقبل اتباع أي شيء، أي في الفكرة وأبعادها، وفي السلعة وأهميتها، هل هذا ما أحبه حقاً، لماذا أقتنيه؟ أو لماذا أريده؟ وهكذا.
لأننا لا ندرك أن وهم حاجتنا لتلك السلع، وشعور السعادة الذي يصحبها شعور زائف يمنع المرء من استشعار ذلك الشقاء الجمعي الذي نعيشه، وكما قيل هو يمكن المرء من رؤية الرفاه في الشقاء، أي يضلل علينا الحقيقة، حقيقة حريتنا.

إلى صديقي في العالم الموازي

صديقي في العالم الموازي، وأعرف جيداً بأنك كذلك.
لا أعرف كيف يكون لنا أصدقاء خياليون لا نعرف إن كانوا يشبهوننا أم لا. لكن بما أننا نعيش في عالمين لا يتقاطعان سأحدثك عن عالمنا الذي لا يبدو بهيجاً حقاً إلا أننا نحاول خلق البهجة فيه بأنفسنا وعبر صداقاتنا مجتمعة.
بالنسبة لعالمنا  فلا أتمنى كثيراً أن تعرفه حتى لا تحسبني جزء منه فتتخلى عن رفقتي وصداقتي.
عالمنا عالم وحشي. لا يأبه فيه الإنسان بالإنسان.
عالم أشعر بأنه يحاول مراراً أن يسحق البسطاء أمثالي إلا أن قوة ما تحميني.
قوة لا يصح انتسابها للبشر الفاسدين. تلك القوة الرحيمة التي لا تشبههم أصلا. تلك التي تقع علينا وتُصنع فينا.
أحياناً أخشى أن أكون مسخاً يشببهم في ذلك الفساد. ربما أشببهم دون إرادة حقيقة مني. رغم أني أحاول بكل قوتي أن لا أكون كذلك لكن لا أعرف كيف يحدث أن تصيبنا عدوى الحمق والجشع دون وعينا الكامل.
لكني في ذات الوقت أتمنى لو أكف عن الشعور بكل هذا التعب المرافق لي جراء مشاهدتي مايحدث حولي وعجزي. أدرك عجزي تماما. فإصلاح العالم لن يحدث على يدي. لكن كيف أكون شخصا جيدا في مجتمع تسوده الأنانية؟! تسوده الحروب؟! يسوده القتل الجماعي؟
هل أوجاعي مترفة ياصديقي؟ حيث أنني في مأمن حتى الآن بفعل تلك القوة الآلهية من أوجاع الحرب والدمار والفقر والجوع والأمراض وشر العالم السفلي والعنف.
هل أوجاعي التي أظن بأنها تسحقني هي أوجاع مترفين؟!
أم أن الوجع هو الوجع ولايجوز لي فصله واعادة تسميته؟!
يحتار أمري ولا أفهم حقيقة ذلك. هل ستساعدني على الفهم؟
في الحقيقة لا أتمنى أن يكون عالمك يشبه عالمي أبدا. أتمنى لك عالما مثاليا.وأتمنى أن أتجاوز عالمي إليه. وأخلد إليه وأراك. هل يتنفس حولك الموتى الذين رحلوا عن عالمنا؟ هل هم أصحاء ويبتسمون؟ هل هم خالدون وفرحون؟ إن في عالمي يتحدثون عن حياة أخرى خالدة سنصير إليها إن نجحنا في تجاوز المرارة والعبث الذي يلاحقنا بالإيمان والعمل اللذين يتجددان بفعل القوة الإلهية التي أخبرتك عنها منذ البداية. تلك الحامية والمانعة والمعينة. وكل ذلك لن يحدث إلا بعد أن ننتهي من هذه الحياة المقدرة لنا بزمن معين ومحدود.
أخبرني.. هل أنتم مثلنا؟ هل أنتم تعيشون داخل اطار زمني يشبهنا؟! هل يبغاتكم الموت فجأة في زقاق الحي المجاور؟ هل تقلع الروح من جسد الذين تحبونهم جراء رصاصة همجية خرجت من فوهة متعصب مغرور ؟ هل ينتهى عمر الرضيع بخطأ من طبيب يفترض أنه يحاول حفظ روحه ابتداء؟

لاأعتقد أنك تعيش بشكل يشبهنا وإلا مافائدة أن يكون هناك عالم آخر؟

هل أصابك الحزن؟ هل تتألم لأجلنا؟ أرجوك، لا تفعل.  فليس عالمنا مكمن لذلك فقط وإن كانت المأساة غلابة في كل حين، لكن في عالمنا هناك مستودع للجمال في مصدرين أحدها روح الإنسان وعقله والآخر ذلك الجمال الذي يوجده الخالق في بدائع صنعه من حولنا، سماء وأرض ونجوم وجبال وأنهار. كيف أصف لك ذلك؟! لا أعرف. لكن أود لو أخبئ لك معي صورا وموسيقى ولوحات وأتيك بها لتستوعب ما أعنيه. ولو أن كل الصور ستكون ناقصة أمام الرائحة المستودعة في قلب الأزهار، والأمواج المتحركة في سطح البحار، والغيوم المتلونة في بطن سماء المغيب.
لكن يظل هناك سؤال يطرح نفسه ويلح على أن أسألك..
هل حقا ستشعر بالمشاعر المعقدة التي تصيب من يعيشون في عالمنا لو رأيت تلك اللوحات، وذلك الجمال الذي لا يصير هزيلاً أبداً؟!
هل أنت مثلنا تحمل بين جنبيك مشاعر ونفسية تشبه نفسياتنا سريعة التعقيد؟!
تلك التي ترى الجمال فتحزن حزن لذيذ؟ ترتوي من عطش لتصير في عطش آخر؟ يذهب عنها أرق الوحدة فتصير في أرق الباحث عن ذلك الجمال؟

لا أعرف. ولن أعرف الجواب ربما مالم آتي إليك أو تأتي أنت. وهذا كما يبدو محاط بإستحالة مطلقة للآن فأنت فيما وراء هذا الوجود الذي يصعب أن يدركه عقلي البسيط.
لا عليك. المهم الذي يجب أن تعرفه عن تلك اللوحات و الفنون والموسيقى وليست أي موسيقى بل تلك التي تعرف كيف تسترق أنفاسي وتهبط على كأنها الحل الأبدي لكل مأساة تحاط بالإنسان، أنها هي ما أجدني فيها وتخفف عني وطأة الوجع.
هي ما أودعه الخالق العظيم في الإنسان ليخلق خلالها الحياة في الأرض. هل تفهم ما أقوله؟ أظن ذلك.
سأكتفي بهذا القدر الآن علي أحاول مراسلتك في وقت لاحق.

ف. س