في أغسطس قبل ١٠ سنوات، بدأت التدوين في مدونتي هذه .. غالبا لو أطلعت على أول سطر هنا، سأغوص في ضحك طويل، لكن أعرف جيدا أنها حملت معي مزاجيتي، وأيامي ..
الكلمات في رأسي تلبس أدورا متعددة، تشبه أحيانا صديقا يأخذني إلى الشاطى لنجلس على الرمل ونسمع صوت البحر ونغني للطيور .. وأحيانا تشبه سكينا حاد ينغرس داخلي ويخرج فتسيل معها دموعي وآلامي وأوجاعي التي لا أعرف مقرها في نفسي .. تشبه في وجودها شجاعتي وخوفي في الوقت نفسه ..
مدونتي باختصار تعبر عني جزئيا، هي ليست كل شيء عني .. لأني وبيقين تام، أحمل داخلي عالم آخر لا أدري كيف أكشفه كاملا، وأدعوا الآخرين إليه بلا مدارة .. هذا العالم هو ما أعود إليه كل مرة لأتعرف إلى نفسي محاولة السكنى إليها ..
كل عام ونحن نكبر معا مدونتي العزيزة ..
وأنت، كيف حالك؟
من يقنع العود إذا فقد أحد أوتاره، بأنه لايزال قادر على صياغة اللحن دون أن يكون نشازًا ؟ هذا السؤال هو الجواب على سؤالك لي، كيف حالكِ؟ فأنا العود فاقد الوتر، وأنا النشاز أيضًا .. لكن لا بأس، سأحاول تجاوز الحال، وأحكي لك عن المحاولات المستميتة لصياغة يوم متماسك مستبصرة أحداث العالم ..
أقرأ عدة كتب هذه الأيام في نفس الوقت، ومن الكتب التي أثارت فضولي واهتمامي بشكل خاص، كانت عن (الانتحار) من قبل عالم النفس Jesse Bering فهو يطرح عدد مختلف من الموضوعات، وتطرق للانتحار في كتابين، الأول A very human ending والثاني هو Suicidal (why we kill ourselves)، قد بدأت الكتاب الأول مصادفة قبل انتحار سارة حجازي بعدة أيام. الكتب بحسب بحثي لم تترجم حتى الآن لللغة العربية مع الأسف، لكن لغة الكتاب ليست صعبة لذلك الحد، فهو يكتب بأسلوب القصة الصحفية وهي الطريقة الأسهل ربما للتلقي والمتابعة خصوصًا في موضوعات علمية. صحيح، أحب أن أنوه، لست هنا لأكتب عن الانتحار، ولا عن قضية سارة فلا أود أن تنتظر ولا أن ينتظر رأيي أحد.
في هذه المرحلة منذ مايقارب أكثر من عام، انفر بشكل متكرر من جو السوشل ميديا، أتابع -أحيانا- بصمت، وغالبًا لا أكون متواجدة، ولا أعرف مايدورفي ذلك العالم أكثر من كمية مستفزة من الكراهية، والعنصرية والقرف، تنعكس على نفسيتي بطريقة سلبية ومؤذية جدًا، ولا أعرف إن كنت سأتجاوز تلك المشاعر قريبًا لذا قررت بشكل لا إرادي الإبتعاد عنها قدر المستطاع، وتركها بقدر مايمكن، فمن يقرأني معك الآن ويود التواصل، يمكنه مراسلتي مباشرة عبر بريدي الالكتروني، وهذا أفضل بكثير. دعني أحكي لك هذه القصة، قبل أكثر من عام على ما أظن، قد حصل معي موقف طريف، ومخجل في الوقت نفسه، كنت قد تواعدت مع مجموعة من الفتيات في اسطنبول عن طريق تويتر بأن نلتقي ولم أحدد في محاثتي معهم أي وقت أو يوم أو ساعة، وألغيت حسابي في تويتر ونسيت الأمر، بعدها بأيام، بعثت لي أحدهن ايميل، تخبرني فيه بالموعد واليوم والساعة، وفي اللقاء، ضحكنا على طريقة الاتفاق تلك، فهل سبق لك في عام 2018 أن تواعدت لموعد لقاء عبر الايميل، كأنه اجتماع عمل؟ نعم، أنا وصديقات اسطنبول فعلنا واعترف أن السبب وراء ذلك و سوء مزاجي وتواصلي بكل أسف.
لنعود للحديث المفيد – لحد ما- فقد تابعت مؤخراً :
– وثائقي I am not your negro
– وأقرأ حاليًا كتاب: تمثيلات الآخر، صورة السود في المتخيل العربي الوسيط لد. نادر كاظم. بدأته في فترة ما، وتوقفت، والآن أعود له مرة أخرى.
وقبل النهاية، يرد ساراماغو على كل من يتهمه بأنه انسان متشائم قائلاً: “بل عالمنا هو المشؤوم”. وأظني أصدق جملته تمامًا. ويكمل فكرة التشاؤم مؤكدًا، بأنه “علينا مواجهة قسوة العالم بقسوة تعادلها”. وله حديث مطول ومقنع حول هذا الأمر. هذه ليست دعوة للتشاؤم، ولا للتفاؤل، ولا اقناعك بشي لاتريد رؤيته وإبصاره،كل مافي الأمر، أنه علينا أنا وأنت والجميع، أن نكون يقظين بما يكفي لأجل وعينا الخاص، رغم أن المعرفة مؤلمة لكن الوهم مرض عضال.
بعد كل هذه الثرثرة، غالبًا وبدون أي وعد مسبق، ستكون تدوينتي القادمة عن الموسيقى، فلدي الكثير الذي أود الحديث فيه .. ولا أعرف لماذا كلما بدأت توقفت … وأنت، كيف حالك؟
ليلى الذئب!
النظر إلى المرآة يفزعها،
لاترى شخصًا سائلاً،
ولا ترى عينًا تائهةً،
ولا تلمح ثقوبًا في رأسها أو في جسدها
ولا ترى بطبيعة الحال، وجهًا وديعًا، مبتسمًا، جميلاً، كما هو في حقيقته.
إن كل ماتراه هو شخص لاتكاد تعرفه، لكنه يخرج من جلدها ويتلبسها، فترى منه، مخالبه، وأنيابه ..
ياترى، متى كبر ذلك الذئب الصغير وتمرد عليها، وقتل فيها كل مايشير إليها؟
هي لاتعلم مطلقا، ولا تعرف، كل ماتعرفه أنها كلما مدت له يدها اشتاط غيضًا، وعوى في وجهها، وانقض عليها يهاجمها، هي تعرف أنه ذئب كسير، مخذول، متألم، وحانق، ممتلئ غضبًا،
مجروح، لكنها لا ترى جراحه ظاهرة عليه ..
من هو ذلك الذئب “الإنسان” فيها؟
نحن لانعلم، ولاهي تعلم. كل ماتعرفه، أنه يصيبها بالخجل أمام الآخرين..
ويصيبها برغبة في التقيء حين تختلي بنفسها..
كسّرت كل المرايا، أغلقت عدسات الهاتف، تجنبت كل انعكاساتها، محاولة بذلك قتله من ذاكرتها على الأقل .. لكنه أخذ يعوي ويعوي في رأسها، ويشتد صوته ويرتفع، وهي ظلت تنهار وتتداعى للأبد.
طقس سري
– لديها طقس سنوي لاتقوله لأحد، إنها تشاهد قضية فلسطين من ثقبها المجروح، لازالت في كل مرة تستعيد تفاصيل جرحها القديم لهذه القضية من خلال وجه محمد الدرة .. إنها صرخة قلبها الذي لم يعرف من بعد تلك الصرخة قضية تعادلها، فإن كانت القضية التي لم نكن لنختلف على حقيقة عدالتها أصبحت مشوهة بصورة مرعبة اليوم .. فهي تصر أكثر على المقاومة بأقل مايمكن ..
طقسها السنوي، أنها تعيد مشاهدة التحفة الدرامية التاريخية العربية، التغريبة الفلسطينية. ثم تؤكد على أطفال العائلة ممن أصبحوا في سن مناسبة لفهم التاريخ والقضية بتفاصيلها أن يشاهدوه .. إنها لاتعرف كيف تطفئ ذلك الحزن الغريق ولا أن تعلن عنه، إنها تحاول فقط أن تبقي على الغضب كي لاتنسى إنسانيتها .. إنها تربي الصغار على ذلك منذ زمن بعيد .. إنها تتعلم من هناك كيف يطغى الإنسان فيسلب وينهب ويطغى، كيف يباع الضمير، وكيف يصبح البعض بلا أوطان وكيف ينتهي الإنسان .. يفزعها أن تنسى، يفزعها أن يخمد ذاك الغضب ..
فياعدالة الأرض .. وياكل القضايا .. لا لن نصالح !
فيارب كل الضعفاء، والبسطاء، وقليلي الحيلة .. كن عونا ..
– كتبت قصة قصيرة، كانت إلهام لعبارة سيمون دي بوفوار: كانت تلتمس في السماء، ماترفض الأرض أن تمنحها.
إنذار عام في المدينة؛ رياح قوية ستحل. بعد معرفتها الأخبار، لم تجهز مؤنة، ولم تخشى أي دمار، مافعلته اغرب من ذلك، أخرجت من خزانتها بندقية، ربما؟ لا أراها بوضوح من هذه الزاوية، لكنها أشياء ضخمة، ربما حاملتين اثنتين مفصولتين عن بعضهما البعض.
خرجت إلى الشارع في اللحظات التي عاد الجميع إلى بيوتهم. في كل ذراع، ريش كثيف، يبدو أنها أجنحة لطائر عملاق، ارتدتها بإحكام، وانتظرت قليلا، إلى أن هبت العاصفة، رفعت تلك الأجنحة، وطارت بعيدا بعيدا .. دون عودة. حيث “تلتمس في السماء، ماترفض الأرض أن تمنحها إياه”.
انتباه (قصة قصيرة جدًا)
اقتنيت شجيرة صغيرة، وضعتها في زواية الغرفة، كنت اسقيها متى احتاجت لذلك .. مع الوقت، نبتت لها أعين، فصارت تلتفت إلي كلما مررت ماشية أمامها ، أو حولها. تلاحقني بنظراتها كتعويذة يومية لا أفعلها لنفسي. لم ألحظ ذلك في البداية، لكن حين أدركتها، صارت تغمض عينيها كلما جاورتها. أظنها لا تريدني أن أكشف سر العينين، ولا سر الصلوات. بعد فترة، أطلت في عدم ريها، فصارت تحدق فيّ بكاملها، وكأنها تعاتبني على النسيان والرعاية، تساقطت أوراقها، لاحظت ذلك، لكن شيء في داخلي دفعني لتركها دون اكتراث، أمر عندها فأكنس أوراقها وأمضي. ذات يوم، رأيتها تكفلت بسقاية نفسها، رأيت دموعها، لقد بكت حتى ارتوت، وعادت نضارتها .. عند ذلك المنظر، بقيت مذهولة، مع حزن غريب، لكنها لحظة مهمة في تاريخنا، لحظة أعادت اهتمامنا ببعضنا.
هل الكتابة، تجعلك موجود؟
أكتب كثيرا، لكن لاشيء مما أكتبه يشعرني بالرضا، كثيرا ما قررت داخل نفسي بأنه علي التخلي عن الكتابة .. وفي كل مرة أقرر ذلك، أكون على دراية كافية بأني أكذب، وبأن ما أمر به ما هو إلا اكتئاب بصفة أو بآخرى .. ربيت داخلي -مكرهة- عدو صغير، يحاربني فيما أحب .. لايراني لائقة بما أقوم به .. يسخّف كل ما أظنه جميلا ويشع حياة وبهجة.. مايفعله بي، يشبه ماتفعله حشرة جائعة على ورقة شجر خضراء جميلة، يقطم أطرافها ثم ينتقل إلى داخلها ويزداد نهشا لها .. عدوي الصغير، ينسل إلى أعماقي ويبدأ بالتخريب، فلا أجد مجالا للتراجع عن الشعور بأن جماليات ما أفعله ماهو إلا دمار .. كحقيقة أعرفها تماما، وأجهل مصدر يقيني بها؛ لن أكون كاتبة مشهورة في يوم ما، لن أكون تلك الكاتبة التي لها جمهور عريض يترقب ماتكتب، حقيقة لاتزعجني الفكرة، ما يزعجني هو كراهيتي لنشر ما أكتبه، لأن “النشر” يعطي انطباع لا إرادي بأن على تلك الكلمات أن تجد من يقرأها، لكن في الحقيقة نحن لانعرف إن كان هناك من يقرأ ..
لماذا نكتب؟ هذا السؤال حاد للغاية بالنسبة لكاتب .. هل تعتقدون أن من يكتب يحاول أن يجد سببا أو مبررا لفعله؟ لا أظن.. حتى أني أعتقد بأن الأجوبة على سؤال كهذا في أغلب الأحيان ليست سوى “محاولة” لإيجاد ما يقنع السائل لا الكاتب نفسه .. كنت أظن شخصيا بأني من خلال الكتابة سأصبح قادرة على التواصل مع نفسي، والتعبير عن الآخرين، وأنسج خيوطا كخيوط العنكبوت يتعرف الآخرون علي من خلالها، لكن ما انكشفت عليه من تعقيدات داخلية، يجعل حتى هذه الفكرة محض هراء، فنحن نكتب مانشعر به بل ماتنطوي عليه الدراما، أو الإدعاء، والخيال وليس نحن كلية.. نحن نحن لكننا لسنا نحن في الوقت نفسه، لا أعرف كيف أشرح الفكرة تحديدا، لكن أعرفها جيدا، فأنا أشبه ما أكتبه ولا أشبهه في نفس الوقت .. الكتابة صراع مستمر، لتعرف مغارات نفسك وروحك، وأن تحدد من أنت فأنه ليس عليك أن تكتب فقط، لأن الكتابة صوتك الداخلي، بينما من الممكن جدا أن لايخرج بصوت مرتفع في يومياتك العملية .. هناك أنت المحبوس في الكتابة ويظن بأنه ينوجد من خلالها، وآخر الذي يصارع ليكون موجودا في حياته وحياة الآخرين حقا .. قد تصيرك كتابتك لتكون موجودا في حيواتهم، لكن وجودك الفعلي لايكون بنفس الجودة التي تكون عليها وأنت كاتب .. الكاتب هو النسخة الأصعب في التشكل والظهور .. والحكم عليه أسهل، أسهل من الحكم على موسيقي أو فنان .. حيث كما يظنه العقل الجمعي -وقد يكون صحيح لحد ما- أن الكاتب يكتب حقائقه، ونفسه، وأفكاره .. ربما، وربما تكون الحقيقة مختلفة عن النفس، ومختلفة عن الأفكار .. الكاتب يصيغ الحياة للآخرين، ويمنحهم حيوات متعددة، بينما هو لايعرف إن كان عاش في تلك الحيوات أو من خلالها، حساس و يقظ لكثير من التفاصيل، يموت ويعيش كثيرا ليستطيع أن يصل إلى النقطة الأعمق عند القارئ .. الكتابة ليست مجرد إلهام يأتيه، هي حصيلة كبيرة من الخبرات والقراءات والخيال .. وأظن – العزلة- فالعزلة بمعناها الحقيقي تستطيع خلق الاختلاف .. الاختلاف الذي يجعلك رغم الجميع فريد لحد ما .. وهذا بحسب ماقرأت في مكان لا أتذكره هو ذكاء اجتماعي يخص فئة (الانطوائيين). لكن الإنسان وليس الكاتب تحديدا لديه نزعة كبيرة لأن يكون معروفا، أن يكون موجودا، أن يبعث من موته في صورة الخلود .. وعند هذه النقطة قد أميل إلى أن عبث الآخرين عند موتنا قد يجعلهم يعيدوننا للحياة من جديد في حال كان ميراثنا (كلمات) أو فن تركناه مجهولا مع قيمته .. وهنا تحديدا أتذكر فيفيان ماير التي ذُهلت كثيرا بسيرتها ومجموعة (الصور) التي كادت أن تبتلعها الأرض أو الحاويات .. وكذلك يمر ببالي هنري دارجر، راجعوا سيرته .. أو لعلي أحدثكم عنه في مرة قادمة .. حيث ستعرفون أن هناك من يجد نفسه وفنه ويصنع مجده في العزلة حيث يبدو للآخرين (عاديا).
وبعد كل هذه الثرثرة، ماذا أريد أن أقول باختصار؟ حقيقة أحب أني لا أهتم كثيرا بأن يقرأني عدد كبير من الناس .. فأنا لا أطمح بأي شكل أن أكون معروفة .. يكفيني أن أصل للمقدرة المطلوبة لأن أعرّف من أحبهم عن نفسي، وقلبي، فبذلك أكون موجودة، وخالدة.
شهري المفضل / مايو
لم تكن الأشهر تشكل لي فارقًا، فالأجواء طيلة العام في جدة متشابهة، كان الفارق الوحيد هو الجو اللطيف، والنسمة الباردة التي تأتي في يناير، هي التي تخبرنا بأن الشتاء قد حل في العالم.. إلى أن تعرفت على شهري المفضل (مايو) في اسطنبول، يبدأ الجو فيه بالاعتدال بين الممطر والمشمس، وتبدأ الأزهار بالتفتح والأخضر يزداد إخضرارًا، عندها فقط صار لهذا الشهر مكانة فريدة. إضافة إلى أنه شهر مولدي 21 مايو، فهو الشهر الذي يقول لي بأني في عالم موازي ربما أكون زهرة لوز ، أو ليلكة، أو ربما شجرة ..
ها نحن الآن نُمضي هذا الشهر دون أن نستطيع الاستمتاع حقًا بجماله، وجلاله، الذي عرفته ل 5 أعوام سابقة في اسطنبول .. ها نحن الآن كل منّا في بيته يحاول أن يكون متماسكًا بشكل أو بآخر ..
ليست لدي طقوس محددة أمارسها هذه الفترة، على العكس، فأنا أمارس ما أمارسه طوال العام، أكتب، اقرأ، أخربش في دفاتري الصغيرة، أو في جوالي، وأجمع روابط موسيقاي المفضلة دون مشاركة، وأقرأ الكثير من المقالات حتى أنسى بشكل عفوي ما قرأت تحديدًا، وأفكر في عدد لا متناهي من الأسئلة، وأتحدث لعدد قليل جدًا من الناس.. لا أفضل التواجد في مواقع التواصل الاجتماعي، أعرف سبب ذلك جيدًا، لكن لن أحاول المرور عليه .. فبين مشاهدة أفلام أو وثائقيات، أوتعلم شيء جديد، أو قراءة كتب أقضي أيامي ..
كتبت خلال أيامي الماضية قصاصات لا أعرف تصنيفًا واضحًا لها في عالم الكتابة، لكنها شيء أحب أن أضعه هنا، حتى لا يضيع مع الأيام، فأعرف أن كتاباتي فوضوية، فليس لدي مكان محدد أكتب فيه، حين تخطر الفكرة، أمس بأقرب ورقة وقلم، أو أفتح أي نافذة في جوالي للكتابة وأكتب ..
(١)
غرفة لا خصوصية لها، نوافذها دون ستائر، هكذا تدخل الشمس داخل عينه كل صباح دون أن تطرق النواذف لتستأذنه، أو تستسمحه بالإشراق عليه، حتى وهو كاره لهذا الأمر لم يفكر يوما بوضع ستائر .. كانت الشمس الشيء الوحيد الذي يزوره كل يوم، دون نسيان، ستقولون لكن السماء تصاب بالغيم أحيانا فتحجب الشمس بكاملها، صحيح هي من يتعمد فعل ذلك، إنها تمثل دور المحب الذي يختفي، وينزوي بشكل مفاجئ ليسأل عنه أحبابه ويبحثون عن أخباره، هي تتقصد أن تفعل به ذلك، تريده أن يعرف بأن الضجر سمة قبيحة فيه، فكلما تسللت أشعتها داخل عينيه رفع غطاؤه بلا اكتراث على وجهه، وتجاهلها كلية ..
في الشتاء تمارس معه نفس الدور، تتثاقل ، وتتمنع في حضورها .. تترك للمطر والرعد والبرق والغيم أن يتولوا مهمة ازعاجه .. يحدث في تلك الأيام أن ينسى الاستيقاظ، ويحدث أن يخطئ الأوقات في غيابها .. فيكون ذلك تأكيدًا على كسله ولامبالاته ..تظهر صفاته بوضوح، عابث، وحياته فوضى، أيامه تتداخل فلا يدري كم شعرة سوداء تنازلت عن سوادها واستسلمت لمضي العمر .. تمر أيامه دائمًا بهذه الطريقة، فلايدري عن سيلان شبابه شيء، ربما كان منذ البداية شخصًا شائب الروح ، ومتعفن المزاج .. كان يحتفي بعدم الاكتراث هذا .. لكن الصداقة الوحيدة المتينة في حياته كانت مع الشمس و استفزازه منها .. هي التي ما إذا غابت تفقد النشرة الجوية ليترقب قدومها .. إنها الحياة المثالية له، حيث يأتيه الضوء ليغزوه يوميا دون أن يبحث عنه ليتفقده !
(٢)
حساسة، تعاند الأيام في محاولات كسرها.. تستيقظ باكرا مقتنعة بأنها هي من تأذن للشمس بأن تشرق .. ثم تتولى رعاية كل شيء حولها ليكون على مايرام، فتسلّم على جدران غرفتها، ثم تقبل الزرعات الموضوعة في أركان البيت، لكن شيء وحيدا لا أعرف سبب فعلها له، وضعها قماشة على اللوحة الوحيدة في غرفتها كلما دخلتها .. في اللوحة صورة محبين، ربما تفعل ذلك لتترك لهما خصوصيتهما في حضورها، وتزيل القماش كلما خرجت، لتترك لهما حريتهما في استكشاف الحياة بعيدا عن اللوحة .. لقد قلت في البداية، إنها حساسة .. بل مفرطة في الحساسية ..
(٣)
يعاني من أنه قبل الخطوة الأخيرة بقليل يتعثر، فتتلاشى الخطوة، وتتبخر النهاية .. ثم يعود إلى البداية من جديد. حالته هذه هي حالة تشبه فكرة الضوء في آخر النفق، فأنت إذْ تظن معتقدا أنه موجود، تلاقي هاويتك فيه، فتعود أدراجك، وتسير .. ربما الفرق هذه المرة أنك ستمضي معاكسا كل تيار يصادفك.
(٤)
إنها تركض من الظل الذي يلاحقها كلما انحازت إلى النور، وكأنه شبح. إفراطها في الركض منه مزّقها، محاولات التجاهل أفزعها، إلى أن وجدت سكينتها في العتمة .. في الظلام لاترى من نفسها غير واحد، لاتتعد النسخ ولا تتكرر !
عبث بسيط
مصابة منذ مدة طويلة بصعوبة في الكتابة، حتى لو كان نصا قصيراً، أو قصاصة صغيرة، أو عبث بسيط، ليس لأني لم أعد أكتب، أو لأن الكتابة تتعسر بين يدي، بل ربما لأن صوتي ضاع يومًأ في حضرة أصوات كثيرة وصاخبة، فهرب مني فزِعًا وانزوى في مكان أجهله، ولم أستطع حتى اللحظة اكتشاف الممر الذي اختبأ فيه .. ومع ذلك، فمن يكتب، لا يستطيع أن يتوقف عن الكتابة بشكل قاطع، حتى لو اختنق صوته، أو احترقت أصابعه، فسيحاول أن يجمع الحروف ، ويكتب ..
لطالما أعرت الجمادات مشاعر البشر وتحدثت بلسانها، فعلت ذلك دائمًا مع أغراضي التي أتركها وحيدة خلال سفري، وكذلك مع أماكني المفضلة حين أغيب عنها طويلاً .. ربما ألبسها مشاعر أريدها وأحسها أو أتخيلها، فتكون لائقة بها .. وقد فعلت ذلك أيضًا في هذا العزل بطبيعة الحال، فقد فكرت كثيرًا في الأماكن التي هجرناها ونحن نحبها..
كالمقاهي التي أعتدنا زيارتها كيف انطفأت خلال هذه الأيام من الداخل بشكل كامل، وتساءلت بشكل عابث عن الأكواب فيها، فكيف تقضي وقتها في هذا الظلام؟ كيف تمرر وحدتها؟ هل أقامت احتفالاً على الرفوف دون علمنا؟ أم أنها تعانقت شوقًا لنا ولأكفنا التي كانت تلمسها بإستمرار؟
ماذا عن حبيبات القهوة التي تحبس أنفاسها طويلاً، خشية أن يتغير طعمها، فتخذلنا بعد وقت؟!
ماذا عن الكراسي، هل تعبت من الوقوف فمالت ونامت؟
ألم تفكر كل هذه الأشياء في الغموض الحاصل؟ ألم يخترعوا قصصًا تحكي اختفاء البشر؟ ألم تطلق علينا نكاتًا وتسخر؟ فلا أحد يأتي، لا أحد يمر، لا أحد يطلبها في ورق أو خزف، بقهوة محمصة أكثر، أو مخففة! بالحليب أو دونه !
هل يجرون أبحاثًا خلف أسباب اختفائنا؟ وماحقيقة تخلينا عنهم دفعة واحدة؟ أم أنهم لا يبالون ولا يكترثون بنا ؟!
ماذا عن عواميد الإنارة التي كانت تشهد السباقات السريعة في الشوارع؟ والجنون في الحوادث؟ هل غفت الآن بعد أن كانت تنام بجفن مفتوح ؟
ماذا عن البحر؟ هل ماج فرحاً بأن لا أحد عاد إليه يرمي مخلفاته في بطنه بلا اكتراث ؟ هل غنا مع الشمس الشارقة ومن ثم الغاربة وتبادلا القبلات علنًا؟
ماذا عن كل تلك الأماكن التي أعتادت أن يكتظها الناس، واليوم لا أحد يمر بها، غير قط يختال وحده فيها، أو ورقة سقطت من جيب أحد ، وظل يجرفها الهواء حتى ساقها إلى آخر المدينة !
ماذا عن كل الأشياء التي أعتدناها ، والآن نتخلى عنها قسرًا .. هل سنعود إليها ونحن نحمل فينا ذات الحنين ؟ لا أعرف، ولا أجرؤ على تخيل الأمر ..
مزيج : 2019
تجربة في موقف !
لا أحب تصنيف التجارب، ولا الحكم عليها، لأن كل ما أعرفه خلال نفسي هو أن التجربة ماهي إلا حكاية خاصة جداً، تخصك وحدك، بمعنى أني لا أصدق بيقين تام أن التجارب هي تلك فقط التي تنحاز للمخاطرة بتسلق جبل ما، أو النوم في الصحراء .. التجربة بالنسبة لي، هي تلك التي تحرك فيّ شيئًا، تثريني وتنمي تحت جلدي شيئًا يخصني، فأتحول في هذا الجزء والتفصيل الصغير من كائن تنظيري لكائن تجريبي وأفهم المسألة ليس بعقلي المجرد، إنما بروحي وكياني كاملاً، وهنا أنا لا أبالغ، ربما أكون حساسة تجاه الكثير من الأشياء بشكل مبالغ، لكن هذا أمر حقيقي فعلاً، حتى في أتفه الأمور، فمثلاً لطالما كان المشي، المشي الطويل جدًا والإصغاء لكل شيء أمر به من خلال عيني، وقلبي، وروحي، وأذنيّ، ويدي، وأفكاري التي تتكاثر وتتبلور، هي تجربة. ربما ستسخر مني وأنا أتحدث بهذه اللهجة التي تبسط المعنى. لكن هذا شيء تلمسته خلال هذه الفترة من حياتي .. أمشي مسافات شاسعة باستمرار، ولا أعتبر هذا المشي، هو الانتقال من نقطة لأخرى، بل هو عملية للتأمل، وللمراقبة، والانتباه، وربما حسب ماشعرت فقد تلمست شيئًا شبيهًا لما أتحدث عنه. ذات مرة قطعت أكثر من 20 كيلو متر في نواحي اسطنبول خلال نهار واحد، صافح قلبي خلالها أزقتها الصغيرة، تلفّتُ لما كتب على جدرانها القديمة، تركت لعيني بأن تعبر عيون المارة وتلحظ أرواحهم. وأنا أمشي، قررت بشكل مفاجئ الدخول ل أحد المحلات للبحث عن أسوارة لابنة أختي، قلبت كل القطع قطعة قطعة، كنت أحاول أن أجد شيئًا يشبهها تمامًا، شيء يبهجها عميقًا، خلال انشغالي بالبحث عن هذه القطعة الفريدة ، حدثني صاحب المحل قائلاً: تبدين من اندونيسيا ، فلك ملامح تشبههم. التفت إليه وقد ظهرت على وجهي علامة تعجب كبيرة وصمت غريب، ربما لأني لم أظن يومًا بأن أحد غريب، في شوارع مدينة غريبة، يلمح هذا الدم القديم في وجهي، أظن بأني تلفتُ حولي لأتأكد أن الحديث موجه لي، بحثت في أرجاء محله الصغير عن مرآة لأنظر لنفسي، وكأني أريد أن أتأكد بأن ملامحي تلك قد انحفرت أكثر مع الزمن، لكني اختصرت الأمر وهززت رأسي موافقة على كلامه، لكن عيناي ظلتا تتسع من المفاجأة، نظرت فيه، ابتسمت، وشكرته وخرجت، فأنا لا أطيل الأحاديث مع أحد أبدًا، أطويها واختصرها قدر الإمكان، وهذا دعونا نقول بأنه ليس بالأمر الجيد، لكن اعتدته مع الوقت، وربما أدمنته، وقد صار يميزني عند البعض، ويبغضه آخرون، على أي حال، أكملت طريقي الطويل بعدها دون وجهة محددة، وخلال عبوري أحد الشوارع، استوقفتني بائعة أزهار متجولة تقف على الرصيف المقابل، نظرت إليّ مبتسمة، و حال ما حطت قدمي على الرصيف الذي تقف فيه مدت لي يدها بمجموعة من الأزهار، طلبت مني بلغتها البسيطة بأن اشتريها، حاولت أن أجد عذراً مقنعًا بأني لا أحتاج أن أقطع المدينة خلال عودتي وأنا أحمل أزهارا في يدي، إلا أنها في أثناء ذلك، باغتتني بسؤالها: من أين أنتِ؟ ولا أخفي عنكم أن هذا السؤال كان قبل تلك اللحظة مزعج بشكل ما، مؤذي أحيانًا، وعنصري دائمًا، ابتسمت لها ابتسامة لا أعرف كهنها لكنها الأنسب في حين أني لا أحبذ أن أجيب عن هذا السؤال إلا في مواطن محدودة ورسمية. تركت لها التخمين الذي يعجبها، و في اللحظة التي حدثت نفسي فيها، بأن أدفع حق الأزهار، وأعيد إهدائها إليها، ادهشتني قائلة: سودانية، أو ربما صومالية؟! فابتسمت ابتسامة تكاد تشق وجهي من اتساعها، ولا أخفيكم أنه أعجبني هذا التصنيف غير المحدود لملامحي -فقد كنت قبل ساعة من ذلك اندونيسية- ولطريقتي، فاكتشفت أن دمي كثيف وأنا كثيرة وأشبه كل أحد ممكن .. ثم أن جغرافية قلبي – كما تبدو هنا- هي أوسع من أن تقتصر على جنسية واحدة أو عرق واحد كما ولّفتها منذ زمن بعيد.. عندها شعرت بأني اكتسبت موقفًا تحول داخلي إلى تجربة أصنفها بأنها روحية، لأنها ظلت ترافق ذاكرتي في كل مرة أتعرض بشكل اجباري لهذا السؤال من عابر فابتسم بقلبي ممتنة لخليط ملامحي ودمي وسمرتي قبل كل شيء.
محاولة استقلال، ربما
أعتدت منذ سنوات على السفر إلى اسطنبول لعدة أشهر، وغالبًا ما كانت بصحبة أهلي إلا القليل، أما هذه السنة، فقد كانت مختلفة كل الاختلاف، لقد عشت غالبيتها دونهم، بدأت الرحلة تقريبًا نهاية فبراير، لم تكن خطة سلسة على أي حال، لكنها بُنيت بشكل منطقي جدًا، وظروف كثيرة ساعدت ليحدث ما حدث، هي بشكل أو بآخر قرار كنت قد اتخذته من قرارة نفسي، فنحن في فترة ما نحتاج لأن نكون على مسافة من كل من نعرفهم طوال حياتنا، نحاول في هذه المرحلة أن نستكشف أنفسنا وكل روابطنا الظاهرة والخفية تجاه تصرفاتنا ومانحب ومانكره في الحياة..
قضيت 300 يوم تقريبًا بصحبة نفسي، ومن الصعب أن أحكي عن المقدرة للوصول إلى صحبة النفس لأن حديثها طويل، ولا يبدو لي أني سأتحدث هنا عن كل شي مررت فيه، فأنت حين تمضي إلى نفسك، لن يكون طريقك أخضر، وهذا تحديدًا ما لن أفصح عنه، أو أحكيه إلّا حين أكون قادرة تمامًا لخوض هذا الحديث المطوّل. لنعود لصحبة النفس، فقد غادرت موطن طفولتي، من أحبهم، حاولت فصل شعوري وروابطي بجميع الناس، رأيت كل مساوئي جلية أمامي، بصعوبة خلعت عني ماليس مني، لأجردني من كل ما ألقته الأيام على كاهلي، من تلك الأوجاع التي لم أوافق لأن تنزرع تحت جلدي، كان لازمًا علي فعل ذلك لأرى تفاصيل روحي وأتعامل مع شؤوني الداخلية بشيء من الصدق والتجرد..
غادرت كل أحد وحاولت أن أجدني في هذا الطريق الطويل .. وتأكدت إننا في الحقيقة لن نعرف أنفسنا بشكل كامل مطلقًا، والإيمان بذلك في رأيي مطمئن لحد ما، للحد الذي يجعلنا لا نتفاجأ بأنفسنا بشكل جارح حين يظهر لنا ماخفيّ عنا منا ذات يوم، نحن في النهاية نتغير باستمرار.. واستمرارية هذا التغير دعنا نقول بأنها، تنجينا .. واخترت النجاة كمحاولة مني لأن أهدئ من هلعي أمام نفسي.. وأنا أكتب، صدقوني، يأتيني صوت بعيد، من خلف رأسي ليسألني: متأكدة؟ هل أنت تتغيرين؟ حقيقة لا أعرف، لكن المواقف ستهدينا الجواب، فنحن تغذينا الظروف، ويتسرب إلينا ما نحاول دائمًا الهروب منه، ويلتصق بنا ما نظن أننا قاومناه، وتجاوزناه ، لكنه يظل يظهر كالظل عند انتصاف شمسنا، ونهارنا، فننكسر ونتأوه .. ولا نعود نعرف التعامل بالشكل المناسب، ولهذا دعنا نسمي التغير المستمر ب عملية “الوعي”، والوعي هنا، يكون بمحاولتنا المستمرة في معرفة لماذا، تصرفنا بهذا الشكل؟ فتبدأ الرحلة، ويبدأ البحث عن أصل الفعل، وتداعياته علينا، وعلى مواقفنا، وعلى الأشياء والأشخاص الذين تورطوا معنا في ذلك الموقف! في الحقيقة، نحن نتنازع بين عقلنا الباطن، وبين مانحاول إصلاحه باستمرار، والخطأ من الجميع وارد، لكن الاعتذار عن الخطأ، وتحمل مسؤولية الخطأ والاعتراف به، هو الفارق بين الناس، وأظن بأني شخص يحاول دائمًا أن يحمل أوزاره على كتفيه، ويعتذر ويأسف عن أفعال لم يتقصدها، فلنحاول بأن لا نجعل وعينا يكون علينا وضدنا ، بل يكن معنا وإلى جانبنا .. وهذا ما أرجوه من نفسي، لنفسي ..
هناك تجارب، ليست من جنس “الصح أو الخطا” إنما هي تجارب، وتجارب فقط، هي التي تجعلنا نفهم النجاح والفشل، تعلمنا التمسك والتخلي، وتشرح لنا أسباب البقاء أو الهروب، تصيغ الحب في قلوبنا وتشكّله، تربكنا بفكرة المسافات والتواجد والحضور والتلاشي .. من خلال قراءتنا لها، قد ننقذ أنفسنا أوقد نهوي، لكنها دليلنا في ليالينا حالكة السواد .. دليلنا، لأيام أكثر تسامحًا مع أنفسنا على الأقل، وأكثر هدوءً ..
أصدقائي في العزلة، كتبي، والغروب، والبحر
أعيش في جنوب غرب إسطنبول، وأعتبر أن هذا الجزء من اسطنبول يشبه الهدوء النسبي، على الرغم من أن المنطقة مكتظة بطبيعة حال أي مدينة ضخمة، إلا أن وجهتي لساحل بحر مرمرة وجلوسي على الرصيف، ومراقبة الصيادين إلى ان يحين الغروب، وتأمل مساحات البحر الشاسعة، واستقبال أمواجه، وهواءه كان قد شكل بيني وبين المكان علاقة مترابطة ووديعة، فصار مناسبًا لمراقبة الشمس بشكل يومي .. وأحاديث داخلية طويلة وذكريات كثيرة، واشتياق لا يبرح قلبي وروحي، تنتهي جميعها بموجة كأنها تلقي بنفسها على قلبي فأشعر بها كتربيتة حنونة من الكون.. إنني في حالة من الجوع لمرحلة سكون عميقة، على الرغم من متطلبات الحياة السريعة ورغبة الإنجاز المجنونة، وتحقيق كل شيء في وقت قياسي، كنت أرغب بشدة أن أكف عن السرعة بكل أشكالها، كنت أجبر نفسي على البطء، وأتعلم كيف ألتقط أنفاسي، وأخرج كل مايفسد روحي مع كل موجة تقترب مني .. ولقد علمني البحر بأنه لطالما تأخذ أمواجه السفن والقوارب وحتى رسائلنا وأصواتنا من موجة لأخرى وترتحل .. وكنت أتعامل بذات الطريقة، فأحمّلها كل أسراري وأرجوها بأن تقف على شاطئ يأبه التقاط سرّي لمن يكترث ..
لست من النوع الذي يجلب معه كرسيا ليجلس أمام البحر، أنا أجلس على الرصيف، أقرأ كتبي وأُنزل قدمي على وجه البحر واستقبل الهواء كصديق عزيز، ما أن يلامس وجهي وجسدي حتى أشعر بشي من الراحة .. فأقرأ له بصوت عال جملة او اثنتين .. فأتخيل بأني أواسيه بعد أن دس أحدهم فيه دمعه قبل مروره أمامي .. لطالما تساءلت عن الشمس والسحب والبحر وتفاصيل السماء خلال تأملاتي.. تساءلت عن هذه العناصر التي تجعل من الغروب اليومي تجربة متفردة كل مرة، عن الألوان التي تتكاثف طبقاتها وفقا لدرجات الحرارة والبرودة كما أظن، فالسماء تكون أجمل ماتكون وهي تودع الشمس والضياء لتستقبل القمر والعتمة .. إنها تعلمنا أدب الغياب، أدب الوداع ربما ..
اسطنبولية أكثر مما كنت أتخيل ..
كنت أظن بأن حياة المدن لا تناسبني، ولهذا كرهت جدة طوال عمري، وحلمت دائما بمنزل ريفي في قمة جبل في منطقة جميلة وساكنة ، حتى اللحظة التي عشت فيها في إسطنبول المدينة الضخمة، مترامية الأطراف، لأكتشف أن الأمر ليس كما أظن، فأنا أجد إسطنبول بكل مساوئها أحب إليّ من جدة.. ثم عرفت بشكل أكثر وضوحا بأن ما أكرهه في جدة بشكل خاصة هو رتم الحياة وطبيعتها (وهنا يطول الكلام لكن لن أتحدث عنه الآن، ربما في وقت لاحق) أما في اسطنبول فلايعوقني شيء، اعتدت على المشي السهل في الحي، واستخدام المواصلات العامة. أخرج من باب البيت فأمشي دقيقتين لأصل لمحطة الباص الأولى، يأخذ مني الطريق قرابة ٢٠ دقيقة لأصل بعدها لمحطة الباص الذي يمر كشريان على امتداد الجزء الجنوبي ثم يتجه للوسط ويتعدى الجهة الاوروبية للاسيوية في غضون ساعتين على الأكثر وأكون بذلك قد وصلت لآخر محطة على هذا الخط.. وهذا الأمر يريحني لأنه لا يقيد حركتي مهما أخذ من وقتي.. ففالنهاية غالبا ما أستغل تلك الأوقات في القراءة، وتأمل الطريق والناس، وهنا سأتوقف قليلا وأتحدث عن شيء غريب حصل معي، فطوال حياتي كنت كثيراً ما أتمزق من شعور الغربة على الرغم من أني أعيش وسط أشخاص لايختلفون عني بشكل جذري على الأقل درسنا في نفس المدارس، تعلمنا بشكل متشابه، نتحدث نفس اللغة، ولطالما استنكرت ذلك الشعور، بل كان شعور الغرابة يصيبني بمرارة عجيبة، بخلاف هذه الأيام في اسطنبول، فأنا متكيفة تماما وأنا أستقل عربة الباص دون اكتراث لأي أحاديث جانبية، أو حتى لما لا أفهمه من كلام، ربما الأمر له علاقة بالمقارنة وأنا لا أجد شيئا أقارن به نفسي مع كل هذا الجمع الغفير من الناس، فنحن نختلف كثيرًا، رغم التشابه، فربما الغربة الحقيقة التي لطالما شعرت بها، هي غربة اجتماعية. وهنا منفصلة عن المجتمع، لأن مجتمعي هو أنا، وعملي، وقلبي، وأفكاري، وكل ما أحاول القبض عليه ليقربني إليّ، فقد اخترت وحدتي فوق كل شيء، وهذا يؤكد على أن متطلبات الحياة الاجتماعية في جدة لاتناسبني وكلما خالطت وانغرست في المجتمع الذي يقدم لي قائمة من الطلبات لألتزم بها، يجعلني أصطدم بدواخلي أكثر فأنزع لا إراديا لإحساس الغربة ..
اسطنبول منحتني سهولة استقبال صديقاتي بأريحية، والتجول المفتوح، نلتقي عند نقطة، ثم ننطلع ونجوبها طولاً وعرضًا، والأمر الذي يستدعي التأمل هو كيف أني أعرف اسطنبول وأزقتها ودكاكينها، وشوارعها -رغم أني لم أسكنها إلا منذ سنتين تقريبًا – أكثر بكثير مما أعرف جدة، المدينة التي سكنتها 30 عامًا ! أظن لو تسألوا بحر مرمرة عني لنطق وأجاب، لكثرة ما كان رفيق أيامي .. لنعد لصديقاتي، ممتنة كل الإمتنان لدلال، وأسماء، ونوال، فقد عبروا بالمدينة، لكنهم أقاموا في قلبي أبدًا ..
عن الحب ..
ربما سيكون هذا الجزء الأصعب الذي سأكتبه خلال هذه التدوينة، فنحن نحلم طوال حياتنا بأن نحب، وأن نكون محبوبين، ولطالما عشت في أمل البلوغ للحظة حب عظيمة، وأحسب أني عشتها، وسأظل ممتنة لها طوال حياتي، إنها تلك اللحظة التي تحس خلالها أن الحياة للمرة الأولى تهديك المعنى منها واضحًا جليّا، ثم حين تضطر إلا الرحيل عنها، تشعرك بأن حياتك من بعدها فراغ هائل، لا تعود الدنيا هي الدنيا، تشعر بالبرد لأنك تعرف الآن يقينا أنك عشت طوال حياتك وحيدًا ، بينما الآن فقط ستمشيها وحدك. وها أنا أمشي هذه الأيام وحدي بعدما عرفت تجليات الأنس، والسعادة الفريدة. وأقول سعادة فريدة لأنها كذلك فعلاً، ربما ستصادف السعادة في وقت آخر لاحقًا، لكنها لن تكون بذات الشبه، ولا بذات العمق، ولا بذات التفاصيل، ستستقبلها، وأنت تعرف أن دمك أصبح مطعمًا بحزن نبيل، ذاك النوع من الحزن الذي تود للأبد أن يلازمك، لأنه القطعة الأخيرة من حبك العظيم .. أنه ألم الرحيل والفراق بعد الوصل والذهول .. لأنك ستكون قد عرفت للمرة الأولى أنه لن يعوضك شيء بعد الآن .. وسترضى أن تبقي على هذا الألم كوجود نهائي لأصل ذاك الحب.. وتحفظ الذكريات كأثمن شيء يملكه وجدانك .. وتمضي حاملاً هذه الزوادة في أيامك القادمة .. وسيبقى الحب وإن انتهى الدرب ..
أمنيات تحقق نفسها في غير وقتها ..
كنت أجمع في دواخلي أمنيات كثيرة، بعضها نسيتها ، وبعضها اختلفت في عيني، وبعضها ظلت لها قدسيتها لأنها إن حدثت فستكون لحظة تحول لي في حياتي، وهي كذلك حقًا، لكنها حدثت في أشد أوقاتي حرجًا على صعيدي النفسي، ففقد كان لدّي اكتفاء من الحياة، ولست في مزاج يجعلني أعيش تفاصيل الأمنيات كما تخيلتها طوال حياتي، حققتها لأنها الفرصة التي لا أعرف متى ستعود وتتكرر، ولأني لم أنسى أنها كانت ضمن قائمة طويلة لم أعد اكترث لها بقدر ماكنت أفعل سابقًا، لكن لأجل أن تكون سويًا ومنصفًا لنفسك، ستحاول، وتجرب، و تصدق أنك فعلتها حتى دون تخطيط مسبق .. ستأخذها على احتمال أن الحياة لازالت تملك الرحابة والقدرة على إدهاشك من جديد، فتحاول بهذا الاحتمال أن تلتقط ماتحاول الأيام أن تضعه في طريقك علّها تكون مكافأة لك على صعوبات الحياة التي احتملتها طوالك عمرك .. أتذكر جيدًا، كيف دفعت تذاكر حفل ديفيد قارت دون أن أفكر مرتين، وأتذكر كيف اشتريت أول تذكرة لسفري وحدي، وأتذكر المرة الأولى التي انطلقت فيها وأنا أمسك بمقود السيارة، والمرة الأولى التي سكنت فيها ليومين في بيت أحدى صديقاتي، وأعرف جيدًا اليوم معنى أن يهاجر الإنسان أماكنه، وما أعتاد عليه، ومايحبه ومن يحبهم لأجل أن يجد نفسه أو يقترب منها ويفهمها على الأقل.. ويالها من حكاية طويلة هنا ..
مبسوطة؟
صار صعبًا علي أن أجيب على سؤال بسيط كهذا، فغالبًا يعتقد الناس بأن تجربة الانتقال لبلد جديد للعيش فيه والاستقرار هي تجربة تنقلك من الشقاء للسعادة، والحقيقة أن الأمر مختلف كلية، فأنت إذ تنفصل عن مكان مولدك ونشأتك لتبني حياتك من جديد ليس أمراً سهلاً بطبيعة الحال . لكن هناك جواب أحب أن أقوله وهو أني في هذه الفترة أحاول التأقلم، والارتياح، علّي أواصل “حلمًا ما” تراكمت عليه الأيام وتلاشى، فلدي مساحة أرحب لأبصر ما أريده، وأمضي بشكل واضح في الاهتمام بصحتي، ونفسيتي، وسلامة عقلي وجسدي .. ولأكون صادقة كل الصدق، فهذه المرحلة مرحلة العناية بقلبي .. مرحلة أن أكون كل شيء لنفسي في وحدتي.
على شكل وشم
النص الثامن من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..
تميل دائمًا للصمت دون أن تعرف بأن صمتها يعني ترك مساحة حرة وكاملة للآخرين بكتابة نصوصهم الخاصة عليها، كأن تتحول لدفتر مذكرات، وكتاب رسائل ..
تجلس اللحظة على أريكتها متحلزنة، ترفع صوت الموسيقى، وتترك لتلك النصوص أن تنطبع كالوشم في دماءها السائلة، إنها المعجزة التي تدركها ولا يدركها سواها، أن تكون مسرحًا لوشم الأحرف والكلمات ..
تغمض عينيها، وتترك لمشاعرها أن تعيد كتابة الحياة في أروقة روحها، سطر وراء سطر، حرف يعاند الآخر، فكل الراحلين والعابرين لا يتبقى لها منهم سوى اللغة والحرف، إنها الأفكار التي تسطو عليها دون رغبة كاملة منها حين تودّع أشخاصًا باستمرار.. إنها النصوص التي تنحفر في عظامها لتصير بينها وبينها متحف فني لأعداد المارين.. لا تتذكر مرة أنها نست الحكايا أو الدموع أو الضحكات.. لكنها تصحو أحيانًا وحيدة دون أحد .. تتحسس جلدها لتقرأ صوت حبيبها، وتسمعه كخيال كان أوحقيقة، كالكفيف الذي يتحسس لوحة القراءة، ويرى كافة الكلمات تستنجد به ليلمسها، وهي تفعل، تتلمس كلماته كلمة كلمة، وتعيش في تفاصيلها الصغيرة رغمًا عن المسافة والصمت .. ربما، هو الحي الوحيد في روحها، ذلك الذي ينمو كلغة كاملة متفردة لا تشبه أي اللغات .. هو غابة الحكايا، والنصوص، والقصائد ..
لا تعبث بما تركه الآخرون فيها، حتى تلك التي يقال لها في السائد ندبًا أو جرحًا، فقط تحاول إعادة قراءة الأشياء باتساع، تقرأها كلغة جديدة، كفكرة، كنصوص ركيكة أحيانًا وبليغة أحيان أخرى، إنها تتمعن الحياة من خلال حدقاتها، ثم تستعير من لغة الأصدقاء المنسية فيها رؤية أخرى، وتأخذ مراراً برأي النصوص المتروكة لأشخاص مرّوا بشكل حقيقي أو أولئك الذين مرّت بهم عبر نصوصهم وكتاباتهم فطَفَت لغتهم على جداران عقلها وقلبها دون عناء محاولة التذكر؛ من قال ذلك أو من حاول إقناعها بعكس ماقيل ..
لطالما قالت، أنه مهما حاولنا التجرد أو حاولنا التظاهر بأن كل مالدينا هو نحن الخاصة، فربما الأمر معقدّ بلمحة جميلة أحيانًا، وهو أن كل الأشخاص المارين والعابرين وأصدقاؤنا، خصوصًا الذين نحبهم، يكتبون داخلنا نصوصهم الطويلة، تلك التي نظل نقرأها عمراً كاملاً دون أن نتفادى نقطة، أو فاصلة، أو علامة استفهام! تلك التي نقرأها من البداية إلى النهاية، ومن النهاية إلى البداية، أو نقرأها من خلال سطر وترك سطر، وكلها تؤدي لمعانٍ لا نهائية.
نحن نتكوّن من نصوص كثيرة، ونترك نصوصنا الخاصة في أرواح الآخرين .. نتركها أحيانًا لتعيد لنا الوجود في الدم والروح التي نحب على شكل وشم ..