– لديها طقس سنوي لاتقوله لأحد، إنها تشاهد قضية فلسطين من ثقبها المجروح، لازالت في كل مرة تستعيد تفاصيل جرحها القديم لهذه القضية من خلال وجه محمد الدرة .. إنها صرخة قلبها الذي لم يعرف من بعد تلك الصرخة قضية تعادلها، فإن كانت القضية التي لم نكن لنختلف على حقيقة عدالتها أصبحت مشوهة بصورة مرعبة اليوم .. فهي تصر أكثر على المقاومة بأقل مايمكن ..
طقسها السنوي، أنها تعيد مشاهدة التحفة الدرامية التاريخية العربية، التغريبة الفلسطينية. ثم تؤكد على أطفال العائلة ممن أصبحوا في سن مناسبة لفهم التاريخ والقضية بتفاصيلها أن يشاهدوه .. إنها لاتعرف كيف تطفئ ذلك الحزن الغريق ولا أن تعلن عنه، إنها تحاول فقط أن تبقي على الغضب كي لاتنسى إنسانيتها .. إنها تربي الصغار على ذلك منذ زمن بعيد .. إنها تتعلم من هناك كيف يطغى الإنسان فيسلب وينهب ويطغى، كيف يباع الضمير، وكيف يصبح البعض بلا أوطان وكيف ينتهي الإنسان .. يفزعها أن تنسى، يفزعها أن يخمد ذاك الغضب ..
فياعدالة الأرض .. وياكل القضايا .. لا لن نصالح !
فيارب كل الضعفاء، والبسطاء، وقليلي الحيلة .. كن عونا ..
– كتبت قصة قصيرة، كانت إلهام لعبارة سيمون دي بوفوار: كانت تلتمس في السماء، ماترفض الأرض أن تمنحها.
إنذار عام في المدينة؛ رياح قوية ستحل. بعد معرفتها الأخبار، لم تجهز مؤنة، ولم تخشى أي دمار، مافعلته اغرب من ذلك، أخرجت من خزانتها بندقية، ربما؟ لا أراها بوضوح من هذه الزاوية، لكنها أشياء ضخمة، ربما حاملتين اثنتين مفصولتين عن بعضهما البعض.
خرجت إلى الشارع في اللحظات التي عاد الجميع إلى بيوتهم. في كل ذراع، ريش كثيف، يبدو أنها أجنحة لطائر عملاق، ارتدتها بإحكام، وانتظرت قليلا، إلى أن هبت العاصفة، رفعت تلك الأجنحة، وطارت بعيدا بعيدا .. دون عودة. حيث “تلتمس في السماء، ماترفض الأرض أن تمنحها إياه”.
اقتنيت شجيرة صغيرة، وضعتها في زواية الغرفة، كنت اسقيها متى احتاجت لذلك .. مع الوقت، نبتت لها أعين، فصارت تلتفت إلي كلما مررت ماشية أمامها ، أو حولها. تلاحقني بنظراتها كتعويذة يومية لا أفعلها لنفسي. لم ألحظ ذلك في البداية، لكن حين أدركتها، صارت تغمض عينيها كلما جاورتها. أظنها لا تريدني أن أكشف سر العينين، ولا سر الصلوات. بعد فترة، أطلت في عدم ريها، فصارت تحدق فيّ بكاملها، وكأنها تعاتبني على النسيان والرعاية، تساقطت أوراقها، لاحظت ذلك، لكن شيء في داخلي دفعني لتركها دون اكتراث، أمر عندها فأكنس أوراقها وأمضي. ذات يوم، رأيتها تكفلت بسقاية نفسها، رأيت دموعها، لقد بكت حتى ارتوت، وعادت نضارتها .. عند ذلك المنظر، بقيت مذهولة، مع حزن غريب، لكنها لحظة مهمة في تاريخنا، لحظة أعادت اهتمامنا ببعضنا.
أكتب كثيرا، لكن لاشيء مما أكتبه يشعرني بالرضا، كثيرا ما قررت داخل نفسي بأنه علي التخلي عن الكتابة .. وفي كل مرة أقرر ذلك، أكون على دراية كافية بأني أكذب، وبأن ما أمر به ما هو إلا اكتئاب بصفة أو بآخرى .. ربيت داخلي -مكرهة- عدو صغير، يحاربني فيما أحب .. لايراني لائقة بما أقوم به .. يسخّف كل ما أظنه جميلا ويشع حياة وبهجة.. مايفعله بي، يشبه ماتفعله حشرة جائعة على ورقة شجر خضراء جميلة، يقطم أطرافها ثم ينتقل إلى داخلها ويزداد نهشا لها .. عدوي الصغير، ينسل إلى أعماقي ويبدأ بالتخريب، فلا أجد مجالا للتراجع عن الشعور بأن جماليات ما أفعله ماهو إلا دمار .. كحقيقة أعرفها تماما، وأجهل مصدر يقيني بها؛ لن أكون كاتبة مشهورة في يوم ما، لن أكون تلك الكاتبة التي لها جمهور عريض يترقب ماتكتب، حقيقة لاتزعجني الفكرة، ما يزعجني هو كراهيتي لنشر ما أكتبه، لأن “النشر” يعطي انطباع لا إرادي بأن على تلك الكلمات أن تجد من يقرأها، لكن في الحقيقة نحن لانعرف إن كان هناك من يقرأ .. لماذا نكتب؟ هذا السؤال حاد للغاية بالنسبة لكاتب .. هل تعتقدون أن من يكتب يحاول أن يجد سببا أو مبررا لفعله؟ لا أظن.. حتى أني أعتقد بأن الأجوبة على سؤال كهذا في أغلب الأحيان ليست سوى “محاولة” لإيجاد ما يقنع السائل لا الكاتب نفسه .. كنت أظن شخصيا بأني من خلال الكتابة سأصبح قادرة على التواصل مع نفسي، والتعبير عن الآخرين، وأنسج خيوطا كخيوط العنكبوت يتعرف الآخرون علي من خلالها، لكن ما انكشفت عليه من تعقيدات داخلية، يجعل حتى هذه الفكرة محض هراء، فنحن نكتب مانشعر به بل ماتنطوي عليه الدراما، أو الإدعاء، والخيال وليس نحن كلية.. نحن نحن لكننا لسنا نحن في الوقت نفسه، لا أعرف كيف أشرح الفكرة تحديدا، لكن أعرفها جيدا، فأنا أشبه ما أكتبه ولا أشبهه في نفس الوقت .. الكتابة صراع مستمر، لتعرف مغارات نفسك وروحك، وأن تحدد من أنت فأنه ليس عليك أن تكتب فقط، لأن الكتابة صوتك الداخلي، بينما من الممكن جدا أن لايخرج بصوت مرتفع في يومياتك العملية .. هناك أنت المحبوس في الكتابة ويظن بأنه ينوجد من خلالها، وآخر الذي يصارع ليكون موجودا في حياته وحياة الآخرين حقا .. قد تصيرك كتابتك لتكون موجودا في حيواتهم، لكن وجودك الفعلي لايكون بنفس الجودة التي تكون عليها وأنت كاتب .. الكاتب هو النسخة الأصعب في التشكل والظهور .. والحكم عليه أسهل، أسهل من الحكم على موسيقي أو فنان .. حيث كما يظنه العقل الجمعي -وقد يكون صحيح لحد ما- أن الكاتب يكتب حقائقه، ونفسه، وأفكاره .. ربما، وربما تكون الحقيقة مختلفة عن النفس، ومختلفة عن الأفكار .. الكاتب يصيغ الحياة للآخرين، ويمنحهم حيوات متعددة، بينما هو لايعرف إن كان عاش في تلك الحيوات أو من خلالها، حساس و يقظ لكثير من التفاصيل، يموت ويعيش كثيرا ليستطيع أن يصل إلى النقطة الأعمق عند القارئ .. الكتابة ليست مجرد إلهام يأتيه، هي حصيلة كبيرة من الخبرات والقراءات والخيال .. وأظن – العزلة- فالعزلة بمعناها الحقيقي تستطيع خلق الاختلاف .. الاختلاف الذي يجعلك رغم الجميع فريد لحد ما .. وهذا بحسب ماقرأت في مكان لا أتذكره هو ذكاء اجتماعي يخص فئة (الانطوائيين). لكن الإنسان وليس الكاتب تحديدا لديه نزعة كبيرة لأن يكون معروفا، أن يكون موجودا، أن يبعث من موته في صورة الخلود .. وعند هذه النقطة قد أميل إلى أن عبث الآخرين عند موتنا قد يجعلهم يعيدوننا للحياة من جديد في حال كان ميراثنا (كلمات) أو فن تركناه مجهولا مع قيمته .. وهنا تحديدا أتذكر فيفيان ماير التي ذُهلت كثيرا بسيرتها ومجموعة (الصور) التي كادت أن تبتلعها الأرض أو الحاويات .. وكذلك يمر ببالي هنري دارجر، راجعوا سيرته .. أو لعلي أحدثكم عنه في مرة قادمة .. حيث ستعرفون أن هناك من يجد نفسه وفنه ويصنع مجده في العزلة حيث يبدو للآخرين (عاديا). وبعد كل هذه الثرثرة، ماذا أريد أن أقول باختصار؟ حقيقة أحب أني لا أهتم كثيرا بأن يقرأني عدد كبير من الناس .. فأنا لا أطمح بأي شكل أن أكون معروفة .. يكفيني أن أصل للمقدرة المطلوبة لأن أعرّف من أحبهم عن نفسي، وقلبي، فبذلك أكون موجودة، وخالدة.
لم تكن الأشهر تشكل لي فارقًا، فالأجواء طيلة العام في جدة متشابهة، كان الفارق الوحيد هو الجو اللطيف، والنسمة الباردة التي تأتي في يناير، هي التي تخبرنا بأن الشتاء قد حل في العالم.. إلى أن تعرفت على شهري المفضل (مايو) في اسطنبول، يبدأ الجو فيه بالاعتدال بين الممطر والمشمس، وتبدأ الأزهار بالتفتح والأخضر يزداد إخضرارًا، عندها فقط صار لهذا الشهر مكانة فريدة. إضافة إلى أنه شهر مولدي 21 مايو، فهو الشهر الذي يقول لي بأني في عالم موازي ربما أكون زهرة لوز ، أو ليلكة، أو ربما شجرة .. ها نحن الآن نُمضي هذا الشهر دون أن نستطيع الاستمتاع حقًا بجماله، وجلاله، الذي عرفته ل 5 أعوام سابقة في اسطنبول .. ها نحن الآن كل منّا في بيته يحاول أن يكون متماسكًا بشكل أو بآخر ..
ليست لدي طقوس محددة أمارسها هذه الفترة، على العكس، فأنا أمارس ما أمارسه طوال العام، أكتب، اقرأ، أخربش في دفاتري الصغيرة، أو في جوالي، وأجمع روابط موسيقاي المفضلة دون مشاركة، وأقرأ الكثير من المقالات حتى أنسى بشكل عفوي ما قرأت تحديدًا، وأفكر في عدد لا متناهي من الأسئلة، وأتحدث لعدد قليل جدًا من الناس.. لا أفضل التواجد في مواقع التواصل الاجتماعي، أعرف سبب ذلك جيدًا، لكن لن أحاول المرور عليه .. فبين مشاهدة أفلام أو وثائقيات، أوتعلم شيء جديد، أو قراءة كتب أقضي أيامي ..
كتبت خلال أيامي الماضية قصاصات لا أعرف تصنيفًا واضحًا لها في عالم الكتابة، لكنها شيء أحب أن أضعه هنا، حتى لا يضيع مع الأيام، فأعرف أن كتاباتي فوضوية، فليس لدي مكان محدد أكتب فيه، حين تخطر الفكرة، أمس بأقرب ورقة وقلم، أو أفتح أي نافذة في جوالي للكتابة وأكتب ..
(١) غرفة لا خصوصية لها، نوافذها دون ستائر، هكذا تدخل الشمس داخل عينه كل صباح دون أن تطرق النواذف لتستأذنه، أو تستسمحه بالإشراق عليه، حتى وهو كاره لهذا الأمر لم يفكر يوما بوضع ستائر .. كانت الشمس الشيء الوحيد الذي يزوره كل يوم، دون نسيان، ستقولون لكن السماء تصاب بالغيم أحيانا فتحجب الشمس بكاملها، صحيح هي من يتعمد فعل ذلك، إنها تمثل دور المحب الذي يختفي، وينزوي بشكل مفاجئ ليسأل عنه أحبابه ويبحثون عن أخباره، هي تتقصد أن تفعل به ذلك، تريده أن يعرف بأن الضجر سمة قبيحة فيه، فكلما تسللت أشعتها داخل عينيه رفع غطاؤه بلا اكتراث على وجهه، وتجاهلها كلية .. في الشتاء تمارس معه نفس الدور، تتثاقل ، وتتمنع في حضورها .. تترك للمطر والرعد والبرق والغيم أن يتولوا مهمة ازعاجه .. يحدث في تلك الأيام أن ينسى الاستيقاظ، ويحدث أن يخطئ الأوقات في غيابها .. فيكون ذلك تأكيدًا على كسله ولامبالاته ..تظهر صفاته بوضوح، عابث، وحياته فوضى، أيامه تتداخل فلا يدري كم شعرة سوداء تنازلت عن سوادها واستسلمت لمضي العمر .. تمر أيامه دائمًا بهذه الطريقة، فلايدري عن سيلان شبابه شيء، ربما كان منذ البداية شخصًا شائب الروح ، ومتعفن المزاج .. كان يحتفي بعدم الاكتراث هذا .. لكن الصداقة الوحيدة المتينة في حياته كانت مع الشمس و استفزازه منها .. هي التي ما إذا غابت تفقد النشرة الجوية ليترقب قدومها .. إنها الحياة المثالية له، حيث يأتيه الضوء ليغزوه يوميا دون أن يبحث عنه ليتفقده ! (٢) حساسة، تعاند الأيام في محاولات كسرها.. تستيقظ باكرا مقتنعة بأنها هي من تأذن للشمس بأن تشرق .. ثم تتولى رعاية كل شيء حولها ليكون على مايرام، فتسلّم على جدران غرفتها، ثم تقبل الزرعات الموضوعة في أركان البيت، لكن شيء وحيدا لا أعرف سبب فعلها له، وضعها قماشة على اللوحة الوحيدة في غرفتها كلما دخلتها .. في اللوحة صورة محبين، ربما تفعل ذلك لتترك لهما خصوصيتهما في حضورها، وتزيل القماش كلما خرجت، لتترك لهما حريتهما في استكشاف الحياة بعيدا عن اللوحة .. لقد قلت في البداية، إنها حساسة .. بل مفرطة في الحساسية .. (٣) يعاني من أنه قبل الخطوة الأخيرة بقليل يتعثر، فتتلاشى الخطوة، وتتبخر النهاية .. ثم يعود إلى البداية من جديد. حالته هذه هي حالة تشبه فكرة الضوء في آخر النفق، فأنت إذْ تظن معتقدا أنه موجود، تلاقي هاويتك فيه، فتعود أدراجك، وتسير .. ربما الفرق هذه المرة أنك ستمضي معاكسا كل تيار يصادفك.
(٤) إنها تركض من الظل الذي يلاحقها كلما انحازت إلى النور، وكأنه شبح. إفراطها في الركض منه مزّقها، محاولات التجاهل أفزعها، إلى أن وجدت سكينتها في العتمة .. في الظلام لاترى من نفسها غير واحد، لاتتعد النسخ ولا تتكرر !