الرواية لغة يتفرد الشخص في خوضها

نشر في صحيفة مكة

يقول علي عزت بيجوفيتش «الشعر هو معرفة الإنسان، والعلم هو معرفة الطبيعة». إن الفنون معرفة لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال، مهما حاولت عقولنا الاستخفاف بأهميتها فإن شيئا ما داخلنا يتوق إليها باستمرار. هذا الشعور ليس سخيفاً أبداً، بل هي خاصية متعلقة بالإنسان في خلق الحياة خلال روحه، وهذا لا يتم إلا عبر الفن وأحد أشكاله.
أتذكر مقولة قالها أحد المثقفين وهي أن «الرواية لا تبني عقلية المثقف، بل هي شيء جانبي ليست له قيمة علمية، لا تضيعوا أوقاتكم في قراءتها». نستطيع الاتفاق معه في حين تعاملنا مع الرواية كأي كتاب آخر، أي إذا أردنا قيمة علمية معينة أو الخروج منها بحصيلة معلوماتية رهيبة، وأظنه أخطأ حين نصح بتجنبها، ونحن نخطئ كثيراً في حق أنفسنا قبل الخطأ في حق الرواية إن استمعنا لنصيحته دون أن نرى الجانب الآخر في الرواية، فالرواية ليست إلا عملاً فنياً. والفن يستوجب علينا أن نعطيه حيزاً لا يستهان في أوقاتنا لأنه الجمال الذي نتعب دونه، بالإضافة إلى أن بعض الباحثين وجدوا أن أدب الرواية تحديداً له تأثير على المهارات الاجتماعية كالتعاطف والقبول الاجتماعي والذكاء العاطفي وغيرها من القيم الإنسانية وبنائها. كما أن بعض الدراسات أشارت إلى أن الروايات تعزز من عمل «نظرية العقل»، وذلك يعني أنها تقوي قدرة الإنسان، حيث يستطيع تخيل وفهم الحالات الذهنية للآخرين، وربما نستطيع أن نلحظ أن قراء الروايات تحديداً هم الأكثر تعاطفاً وفهماً لإنسانية الآخرين، وذلك لكونهم يرتبطون عاطفياً بأحداث الروايات. وأنا أركز هنا على أن الروايات حتى وإن كانت لا تحتوي على كم معرفي كبير لكنها لا تتجرد كلياً من كونها سجلا تاريخيا أو وثيقة كما يسميها البعض حين يعيد الروائي كتابة أحداث معينة وتاريخ محدد بطريقته النقدية، وأحياناً قد تحمل الرواية معنى موسوعة، لأنها تتسع فعلياً لعلوم إنسانية مختلفة خلال صياغة الكاتب لها بطريقة فنية تعبيرية مختلفة.
الرواية يستحيل علينا أن نعتبرها هامشا، بل هي تجربة يتفرد الشخص في خوضها، فلنتصور أن أحداً يقف أمام لوحة تشكيلية نستطيع ملاحظة أن مدة الوقوف أمام اللوحة تختلف من شخص لآخر، وهذا ليس فقط لأجل الخلفية التي يعرفها عن اللوحة فقط ولا بسبب المعلومات المكتوبة بجانب اللوحة، بل هذا يدخل فيه تجربة الإنسان الفردية حيث إنها قد تثير فيه عواطف تختلف منه لشخص آخر، تماماً فهذا ما تفعله الرواية، فهي لا تستخدم عقلك بقدر أنها تقبض على عواطفك وتحاول أن تربطها بذكرياتك ومشاعرك وتجاربك وتصل لأبعد من ذلك، حيث إنها قد تترك فيك عمقاً وأثراً لا يزول أثره سريعاً، فهي تستفيض فيك وتحتل الروح، وهذه من أعظم القيم. اعتبروا الرواية كأنها الطين الذي مزجته مشاعر الكاتب بماء روحه فأخرجها متسعة ليستطيع القارئ خلالها وبين فواصلها أن يندس بمشاعره وأفكاره ويقيس تجاربه فيها حتى إننا غالباً كقراء لا ننتهي من قراءة رواية ما دون أن نترك أجزاء منا مدسوسة فيها، وما إن نعود إليها بعد زمن حتى نلتقي بشيء منا كنا قد نسيناه أو طويناه مع الأيام في صفحاتها. وهذا ينطبق على الفنون بشكل عام. العلاقة بيننا وبين الفن علاقة تبادلية، تقرؤنا ونقرؤها ونتبادل أطراف الحديث معا، الفن في النهاية هو السؤال والجواب، الحقيقة والخيال. والرواية بصورة خاصة تستطيع أن تصنع فوهة معينة في عقولنا ثم تتسرب لتغربل طريقة تفكيرنا فينعكس ذلك في رؤيتنا العامة للحياة، فبعض الفنون تحكي دون تعبير لكن الرواية والقصة والسينما هي التعبير عن فصول معينة مرت أو لم تمر بعد في حياتنا حتى لو أنا لا نريد أن تكون كذلك.
إذاً فالفن لا يقل أهمية عن العلم، لأنه يفسر الحياة الجوانية والعلاقة الإنسانية، والتعقيدات النفسية. بل هو يستطيع ببراعة إظهار الجمال، وتصوير الغموض في مستوى جمالي حتى وإن صعب على العقل تفسيره لحظتها. يقول هويزر في تعريفه للعمل الفني «إن العمل الفني شكل ومضمون، اعتراف ووهم، لعب ورسالة، هو قريب من الطبيعة وبعيد عنها، هادف ولا هدف له، تاريخي ولا تاريخي، شخصي وفوق شخصي في الوقت نفسه».