عبث بسيط

مصابة منذ مدة طويلة بصعوبة في الكتابة، حتى لو كان نصا قصيراً، أو قصاصة صغيرة، أو عبث بسيط، ليس لأني لم أعد أكتب، أو لأن الكتابة تتعسر بين يدي، بل ربما لأن صوتي ضاع يومًأ في حضرة أصوات كثيرة وصاخبة، فهرب مني فزِعًا وانزوى في مكان أجهله، ولم أستطع حتى اللحظة اكتشاف الممر الذي اختبأ فيه .. ومع ذلك، فمن يكتب، لا يستطيع أن يتوقف عن الكتابة بشكل قاطع، حتى لو اختنق صوته، أو احترقت أصابعه، فسيحاول أن يجمع الحروف ، ويكتب ..
لطالما أعرت الجمادات مشاعر البشر وتحدثت بلسانها، فعلت ذلك دائمًا مع أغراضي التي أتركها وحيدة خلال سفري، وكذلك مع أماكني المفضلة حين أغيب عنها طويلاً .. ربما ألبسها مشاعر أريدها وأحسها أو أتخيلها، فتكون لائقة بها .. وقد فعلت ذلك أيضًا في هذا العزل بطبيعة الحال، فقد فكرت كثيرًا في الأماكن التي هجرناها ونحن نحبها..
كالمقاهي التي أعتدنا زيارتها كيف انطفأت خلال هذه الأيام من الداخل بشكل كامل، وتساءلت بشكل عابث عن الأكواب فيها، فكيف تقضي وقتها في هذا الظلام؟ كيف تمرر وحدتها؟ هل أقامت احتفالاً على الرفوف دون علمنا؟ أم أنها تعانقت شوقًا لنا ولأكفنا التي كانت تلمسها بإستمرار؟
ماذا عن حبيبات القهوة التي تحبس أنفاسها طويلاً، خشية أن يتغير طعمها، فتخذلنا بعد وقت؟!
ماذا عن الكراسي، هل تعبت من الوقوف فمالت ونامت؟
ألم تفكر كل هذه الأشياء في الغموض الحاصل؟ ألم يخترعوا قصصًا تحكي اختفاء البشر؟ ألم تطلق علينا نكاتًا وتسخر؟ فلا أحد يأتي، لا أحد يمر، لا أحد يطلبها في ورق أو خزف، بقهوة محمصة أكثر، أو مخففة! بالحليب أو دونه !
هل يجرون أبحاثًا خلف أسباب اختفائنا؟ وماحقيقة تخلينا عنهم دفعة واحدة؟ أم أنهم لا يبالون ولا يكترثون بنا ؟!
ماذا عن عواميد الإنارة التي كانت تشهد السباقات السريعة في الشوارع؟ والجنون في الحوادث؟ هل غفت الآن بعد أن كانت تنام بجفن مفتوح ؟
ماذا عن البحر؟ هل ماج فرحاً بأن لا أحد عاد إليه يرمي مخلفاته في بطنه بلا اكتراث ؟ هل غنا مع الشمس الشارقة ومن ثم الغاربة وتبادلا القبلات علنًا؟
ماذا عن كل تلك الأماكن التي أعتادت أن يكتظها الناس، واليوم لا أحد يمر بها، غير قط يختال وحده فيها، أو ورقة سقطت من جيب أحد ، وظل يجرفها الهواء حتى ساقها إلى آخر المدينة !
ماذا عن كل الأشياء التي أعتدناها ، والآن نتخلى عنها قسرًا .. هل سنعود إليها ونحن نحمل فينا ذات الحنين ؟ لا أعرف، ولا أجرؤ على تخيل الأمر ..