قلقي ليس عادياً

لربما مادفعني للكتابة اليوم هو ذاته القلق الذي يدفعني لأكتب لأقرأ ولأثور أحياناً. القلق تجاه الحياة والعالم. يحدث ذلك في كل مرحلة أصل فيها لمفترق طريق أو هكذا كنت أظن إلى أن اكتشفت أن بعض الطرق نعود ونجد أن لها مفترقاً آخر لاحقاً في منعطف الزمن. أقلق كثيراً حين تمر علي أسماء روايات أو كتب لها وزنها الأدبي والفكري وأنا لم أقرأها حتى الآن، ليس القلق الذي يصيبني هو من النوع العادي بل ذلك الذي يجعلك تعود لوعاء عقلك لتلقي نظرة عليه وإذ بك تشاهد منظرًا مرعبًا جداً، مساحات خالية ليست تلك التي تضفي للوحات الفنية جمالاً على جمالها.. بل المساحات التي تؤكد كلما أمعنت النظر فيها بأن لا شيء يسكنها سوى صوت صفير الريح وصدى الفراغ المخيف. قلق يجعلني أتساءل أين كنت أعيش وفي أي الكهوف حتى أني لم ألتفت مرة للحياة داخل كتاب عظيم لفيلسوف مثل روسو أو مفكر كمالك بن نبي، أو داخل رواية بهذا العمق الذي أجده في روايات هيسه مثلا، تلك التي تتحدث عن ضياع الإنسان الطبيعي في الحياة باحثاً عن تجربته الخاصة وإيمانه الحقيقي. أما حين يمر اسم ديستوفسكي وتشيخوف وكافكا وتوليستوي ومانغويل و ماركيز وهيسه وغيرهم من عظماء هذا الفن أشعر بخجل ما يحوطني ويؤلمني كذلك. ربما لأني أظن بأن الوقت المناسب للقراءة كان يجب أن يكون قبل عمري الحالي ب١٠ سنوات على الأقل. كان يجب أن أكون أكثر نهماً للقراءة في ذلك الوقت. لكن لم يحدث ذلك مطلقاً حتى بلغت لتلك اللحظة التي شعرت فيها بزيف العالم فوجدت أن الأدب حتى حين يكذب يكون أكثر صدقاً من العالم الذي نعيش فيه، العالم الذي يحاول دفعنا دائما إلى الهاوية لكن برضانا الكامل، العالم الذي يحولنا أشباحاً ومسوخاً دون أن يعطينا حقنا في الإعتراض. استوقفتني قبل سنوات قليلة من الآن كل الكتب حتى البسيطة منها. أما الأخرى كروايات هيسه مثلاً وكانت تجربتي الأولى و الأعمق فقد انتشلتني لتدخلني دوامة لا أعرف لو خرجت منها أم مازلت أتبعها أو أدور داخلها، فرغم كل شيء فأنا دائما ما أجد في الحركة حياة أفضل من الركود الذي يشبه الموت. هل أقول بأني كنت ميتة في وقت ما؟ ربما.. ربما يحدث أن نعيش كما تعيش الزومبيز. وربما لا نعرف معنى أننا على قيد الحياة إلا حين نجرب الحياة قيد الموت أولاً. قد يغلب علينا ظننا بأن الرواية لاتعطينا مايكفي من المعلومات أو الإجابات وهذا صحيح لحد ما إلا أنها حتماً تتغلغل داخل نفوسنا وعقولنا وتحاول الربط بين الخفايا وذلك لتجعلنا نرى أو نستشعر الرابط اللامرئي بين الذهن والشعور.. هي تجعلنا نعيد شكل الحياة في أذهاننا وتصوراتنا.. فنرى وجهة جديدة أو على الأقل وجهاً جديداً يقبع داخلنا.. تعري إحساسنا أمامنا فنجد من يشاركنا الشعور الإنسان على الأغلب ذاك الذي لايفهم ولا نقدر على تفسيره أحيانا بصورة جلية في ضجيج عالم يمحي الإنسان بالكامل، مشاعر كالتي تتشكل في مسطحات قلوبنا إلا أننا نعجز عن وصفها والتعبير عنها كما يليق بالأحاسيس العظيمة.. فالرواية لها قدرة السحر لتفعل ذلك، فعل التعرية والتسلل للعمق. هي دائماً ما تكون خارج حدود الزمن لكنها لاتخرج عن إطار الحقيقة. الجدير بالذكر هو أني بودي لو أرسل آلاف الرسائل الآن لكل شاب وطفل من هذا الجيل، وأتوسل إليه بحب أن يتعلم من أخطاءنا أكثر وأن لاينخدع بالسراب الذي يظن أنه يروي في حصن الدراسة، ثانوية كانت أم جامعية، بل سأحاول أن أعصب عينيه جيداً لأجعله يدرك أن لخياله معنى فأحثه على التخيل، وأحفزه على أن يخرق الجدار كما فعل الخضر بالسفينة ليصل لما خلفه بروح ثاقبة، سأمده بالحبال ليتسلق كلمات الآخرين وعلومهم لينهل أو ليغرق أو يغرف لايهم الطريقة المهم أن يتخذ فعلاً ما ليصير غواصاً أوصائداً محترفاً مدركاً أن البحث والقراءة هي الطريق الذي يجدر لكل مرء السير فيه.
أما عني أنا فلم أعد أقوى إلا على التهام الكتاب تلو الآخر عبر جدولة معينة قد نخذل فيها بعضنا أحياناً وذلك تبعاً لمزاجي وتقلبات الظروف إلا أني قدر الإمكان أتثبت لأحصل على قوتٍ يوميّ يتقوى به عقلي وتتكئ عليه روحي في مجابهة الحياة.

جورج أورويل ودوافعه للكتابة

جورج أورويل

* نشر في ساقية

جورج أورويل (1903-1950) هو صحافي وروائي بريطاني. كتب أورويل في النقد الأدبي والشعر الخيالي والصحافة الجدلية. اشتهر بروايتيه (1984) و (مزرعة الحيوان)، والتين تم بيع نسخهم معا أكثر من أي كتاب آخر لأي من كتاب القرن الواحد والعشرون. يقول جورج أورويل في مقالة له عن دوافعه للكتابة، وعن السؤال “لماذا أكتب ؟” فيقول:

أعتقد أن هناك أربعة دوافع للكتابة على الأقل عند كل كاتب، وتكون بنسبة متفاوتة من وقت لآخر حسب جو العالم الذي يعيش فيه، وتلك الدوافع هي:

١) حب الذات الصرف: الرغبة في أن تكون ذكياً، أن يتم الحديث عنك، أن تُذكر بعد الموت، أن تنتقم من الكبار الذين وبخوك في طفولتك.. إلخ،، من الهراء التظاهر بأن هذا ليس بدافع، بل دافع قوي. الكتَّاب يتحلون بهذه الصفة إلى جانب العلماء والفنانيين و السياسيين والمحاميين والجنود ورجال الأعمال الناجحين، باختصار لدى كل النخب الإنسانية. الغالبية العظمى من البشر هم أنانيون تماماً، بعد سن الثلاثين يتخلون تقريباً عن وعيهم بفرديتهم بالكامل، ويعيشون بشكل رئيس من أجل الاخرين، أو يسحقون ببساطة تحت وطء العمل الكادح، لكن هناك أيضاً أقلية من الأشخاص الموهبين والجامحين المصممين على عيش حياتهم حتى النهاية، أو الكتاب الذين ينتمون إلى هذه الطبقة، ينبغي على القول أن الكتاب الجادين هم في المجمل أكثر اختيالاً وأنانية من الصحفيين، لكن أقل اهتماماً بالمال.

٢) الحماس الجمالي: إدراك الجمال في العالم الخارجي، أو من ناحية أخرى في الكلمات وترتيبها الصحيح. البهجة من أثر صوت واحد على الاخر. في تماسك النثر الجيد أو إيقاع قصة جيد. الرغبة في مشاركة تجربة يشعر المرء أنها قيمة ويتعين عدم تقويتها. الدافع الجمالي واهن جداً عند الكثير من الكتَّاب، لكن حتى مؤلف الكتيبات أو الكتب المدرسية ستكون لديه كلمات ومصطلحات مدللة تروق له دون أسباب نفعية، أو قد يهتم بقوة بأسلوب الطباعة، واتساع الهامش.. إلخ، فوق مستوى دليل القطارات، لايوجد كتاب يخلو من الاعتبارات الجمالية.

٣) الحافز التاريخي: الرغبة برؤية الأشياء كما هي، لاكتشاف حقائق صحيحة، وحفظها من أجل استخدام الأجيال القادمة.

٤) الهدف السياسي: باستخدام كلمة (سياسي) بأشمل معنى ممكن، الرغبة في دفع العالم في اتجاه معين؛ لتغيير أفكار الآخرين حول نوع المجتمع الذي ينبغي عليهم السعي نحوه. مرة أخرى، لايوجد كتاب يخلو من التحيز السياسي، “الرأي القائل أن الفن ينبغى ألا يربطه شيء بالسياسة هو بحد ذاته موقف سياسي”.

حس الحقيقة

هل يأتي وقت نفقد فيه مقدرتنا على الكتابة حقا! أم أن كل مانخشاه هو مواجهة تلك الحقائق المفجعة التي تحدث في القلب، تلك التي نعي مؤخرا وجودها الحتمي في الحياة! إن القدر وحده كفيل لأن يختبر صدق اعتقاداتنا.. وصدق نوايانا.. كان كفيلا بأن يأخذني لسراب الصمت الذي أضجرني خواءه. لم يكن الصمت يوما خاويا إلا حين تجرد عن المعنى! مامعنى أن يكون القدر هو الفيصل و النهاية؟ إنه الغيب الذي يثير الغموض الذي يسير فينا رهبة كبيرة، فيعطي للعقل اشارة بأن يحاول ماديا إيجاد أسباب منطقية لكل مايحدث. حيث لا يوجد من الأسباب التي يجلبها المنطق أحيانا مايكفي في المواقف الغيبية إلا فلسفة الوجود الكبرى التي تنطوي بوجود الخالق وحكمته وإرادته المطلقة التي يفشل العقل عن إرادها.
إذا فإيمان القلب هو دليل المسافر في الحياة، صاحب الأرجوحة ومالك التفاصيل الصغيرة التي تعرف كيف تدمج ألوان المواقف لتظهر لنا بصورة تجمل الحياة. إيمان القلب هو المعنى الذي لا ينضب ويجب أن يتسع وينساب فينا ، ذاك الذي يكون بوصلة الإستمرار في الشعور. والشعور هو حس الحقيقة.

لست كاتبة ولكني أكتب ٣

320px-Georg_Friedrich_Kersting_-_Die_Stickerin_-_1._FassungGeorg Friedrich Kersting لوحة للفنان الألماني

حين نمر على الأحداث الحاضرة بشكل سريع فإننا نجد في نفسنا شيئاً منها، و تختلف ردود أفعالنا ونظرتنا حيالها وتجاه الحياة والعالم، كلنا في الحقيقة نأخذ مايجري في العالم على محمل الجد لكن ليس كل أحد منا يتحرك إزاء أحداثها بشكل مباشر وبالطريقة ذاتها، بل ربما يخلق حياة جانبية أو حياة أخرى خاصة فيه تتقاطع مع كل ذلك الواقع بشكل مختلف ليواجه فيها صعوبة ماوقع في نفسه خلال أحداث العالم من حرب، ومجاعة،وآلام أخرى. إذاً فالسؤال القائم هو هل الكتاب يكتبون لأجل العالم ومايجري فيه من أحداث؟ أو لماذا يكتب الكتاب؟

يقول جورج أورويل صاحب روايتي مزرعة الحيوان و العالم ١٩٨٤وهو من أشهر وأعظم من كتبوا في الأدب السياسي، أنا أكتب لأجعل من الكتابة السياسية فناً، وعندما أجلس لكتابة كتاب أكتبه ذلك لأن هناك كذبة ما أريد فضحها،أو حقيقة ما أريد إلقاء الضوء عليها”

وإن قلبنا في سيرة كاتب آخر لنعرف أسباب رغبته في الكتابة فإننا سنشهد رؤية مماثلة لكنها تتجه باتجاه آخر، فأورهان باموك يقول: أكتب كي أشير أو أناقش بعض الآراء، أكتب لأنني غاضب منكم جميعا، من العالم كله”. ويشترك كثير من الكتاب في قولهم أنهم يكتبون لأنهم لا يحسنون فعل شيء آخر، لأن تلك هي رغبتهم، ولأن حركة العالم تصر عليهم ليقوموا بذلك الفعل، أي بفعل الكتابة.

على الرغم من أن الكتابة هي كشف عن أغوار النفس والعقل، وهي انكشاف على الآخر بطريقة أو بأخرى ،فإننا نجازف ونكتب ونسهب في طرح أفكارنا على الآخر اتفق أو اختلف معنا، مع أن الأفكار في الحقيقة قد تتغير، ونحن أنفسنا قد نتغير،لأننا لسنا ثابتين، ومع ذلك فإننا نكتب ونسجل تاريخ أفكارنا بطريقة معينة في لحظة معينة. ومن هنا نستطيع القول أن الكتابة هي إثبات وجود، فمن لا يظن أن حرفاً منه قد يجد طريقه للعالم ويؤثر فيه فهو لن يكتب، ومع معرفتنا بذلك فإننا نستبطن تلك الفكرة، ونصبح أكثر خوف بأننا قد نصبح في يوما ما حرفا في صفحة قد تنطوي إلى الأبد. ومهما تكابل الخوف من أن تكون أفكارنا هامشية، أو أنها لن تصنع فارق في العالم، فإننا لا نقف ولا نجرؤ على أن نرفع أقلامنا، بل إن الكتابة تصبح مع الوقت هي الوسيلة الوحيدة لنَصْدُق فيها مع أنفسنا ومع الواقع ونجد فيها ذواتنا واضحة جلية.

ومن أعظم الآثار التي تتركها الكتابة في الكاتب هي أنها تضيف له تلك المعرفة الصادمة بأن الكاتب في الحقيقة ليس دائماً يتفق مع كل أفكاره بل أنه قد يستاء لما يكتشفه عن بعض ما يكون مستتراً ومترسباً في لاوعيه، لكن الكتابة بحد ذاتها تعريه أمام نفسه وحينها يكون بين خيارين إما أن يقبل ذاته تلك ويتعايش معها أو أنه يحاول تغييرها.

فالكتابة في نهاية الأمر هي محاولة لكشف الحقيقة، حقيقة نفسك، أو حقيقة الحياة والعالم، أو أي حقيقة قد أدركت أنه يجب عليك البحث عنها. ولا نستطيع إلا أن نصدق بأن الكتابة هي موضوع متشابك بين الذات والآخر والحياة وثلاثية يلتزم بها الكاتب ما إن يبدأ بحرفه الأول إلى أن ينتهي، أي هي دوافع متلازمة ومتشابكة بين الأنا والموضوع. إذن فنحن نكتب، لأن الكتابة تحررنا من العوالق وتكسر نمطية تفكيرنا ، ونحن نكتب لأننا لا نحتمل أن نختبئ وراء ضمائرنا إزاء مايحدث في العالم ونصمت أكثر، ونحن نكتب لأننا لا نجيد شيء سوى الكتابة

ولكل تلك الأسباب وغيرها نحن نكتب.. ونكتب.. ونكتب.

لست كاتبة و لكني أكتب ٢

The-Tree-Of-Life

عن اللوحة :
غوستاف كليمت | Gustav Klimt
كانت لوحته التي تسمى بشجرة الحياة مدخلاً لكتابة رقعتي التي ألقيت فيها حبر أحرفي المتشبعة بإرادة الحياة. لا أعرف أن أخلق نصاً مفعماً بالحياة كلوحة السيد كليمت، لكن أملك إرادة الحياة، أملك وجع الحياة وضدها. أنا أملك الأضداد.
يقال بأن تفسير هذه اللوحة تقع في تعقيد الحياة وحتميتها، حيث الجذور تعني مولدنا ونمونا بهذا التعقيد وأكثر إلى حيث نستطيع أن نلمس السماء بأطراف أصابعنا أو بأجنحتنا حيث اللحظة الأبدية التي يقف فيها الزمن. ولكن مايحصل في النهاية هو العودة الحتمية للأرض حيث كانت البداية نعود في النهاية.

عن الحياة :
حيث كانت تسير على أطراف أحلامها بتفاؤل وتقفز بين حين وآخر وتسابق الزمن، كانت تلقى مصيرها يصرخ في وجهها لتقف فلا مجال للحياة من حيث لم تعرف المعنى من أن تسير خلف حلم. ومن معنى تحقيقه.

ثم حكت لي ذات مرة :
لم تكن تثق بكل مايقال لها عن التفاؤل والأمل رغم أنها تعتقد بأنهما الحل الأمثل لمواجهة الحياة. كانت في كثير من المواقف وبإصرار شبه متعمد أن تسخر من التفاؤل وتسخر من المتفائلين بالجملة. كانت تعني كلماتها حرفياً بأنهم ساذجون فهم يحاولون أن يحجبوا قبح الواقع المحتوم ويجملوه بالوهم والخداع. كانت تتأمل في المعنى طويلاً وتبحث فيما وراء المعنى لأنه لا أسهل من إدعاء الفرح بإبتسامة مصطنعة وإدعاء السعادة بخلق قصص وتحويرها وهي لم تقع في حياتهم بعد. السعادة تعرف كيف لا تستجيب لكل أولئك الذين يطمحون لها وهم واقعون تحت تأثير الكسل، واللامعنى، الواقعون تحت تأثير المؤقت و المحدود، وفي فخ المثالية المفرطة.

كان جيداً لها أن تفعل ذلك يعني أن لا تكون سلبية ومتشائمة لكن لاتحاول أن تقنع بالتفاؤل الرخيص الذي يروج إليه كل أحد، كان مفيداً لها أن تتألم كثيراً، وأن تشك في كل مهرج يحاول أن يكتب تجربة من اللاشيء كذباً محاولاً خلالها إقناعها بقشرة سطحية لا تتشكل إلا بعد عوم طويل داخل النفس بقوله: “الحياة حلوة أو مافي شيء مستحيل”. كان صحياً أن تكفر تماماً بنتاج تجاربهم لتترك لذاتها أن تسقط في أبعد نقطة يمكن الوقوع أن يوصلها إليها. حتى تؤمن بأن كل وقوع صادق له مخرج أكثر صدقاً. كانت خلال وقوعها تمر بتجاربها السابقة وبالقديم المتكدس في أسطوانات الماضي. اكتشفت الكثير وترآئت أمامها مشاهد صامتة لم تعد تتذكرها. وحين وصلت للبقعة التي رمتها فيها الحياة بقبول منها، في تلك اللحظات ووسط الضباب واللارؤية فقط اتضح شيء ما أمامها أخيراً، كان رقيقاً ودوداً يحاول أن يغريها بهالته التي تشع من خلاله، هو لم يلح عليها أن تتشبث به، لم يكن شيئاً واضحاً، وكأنه إيمانها المزروع في داخلها والمنسي تماماً، ذاك الذي لا نصل إليه إلا حين نواجه أنفسنا بصدق. في ذلك الوقت كانت تشعر بأن وعيها لا يكاد يعي ولاوعيها بدأ بأن يكون واعياً فكل شيء تمر فيه لم تعد تعرفه بمعنى واضح إلا تلك الهالة التي بدأت تتضح أمامها وتكبر في داخلها مخالطة ألمها برفق، كانت تحاول أن تقول بلغة بسيطة أخيراً بدأتي إدراك ذاتك. فلا شيء آخر نستطيع خلاله اقتحام الحياة سوى تآملنا الواعي بقوتنا الداخلية حيث أنها السبيل إلى الحياة. هذا هو الأمل الذي يروض الحياة ويبقي لها نبضاً يضعف أحياً ويزداد قوة أحياناً أخرى.
لست أحاول القول هنا بأن ماحدث لها كان بسيطاً وأن الوقوع هو الحل الوحيد وأن التفاؤل جرعة سامة، لكن الحياة لا تأتي إلى أحد، لا جدوى إلا في السعي إليها خلال إنسانية تقبع في أعماق الإنسان، لا تتضح إليه دون أن يصرعلى أن يجدها. قالت لي: اتركي سطوة الإنسان الباحث عن الجمال تكبر فيك واتركي المعاني الجامدة ولا تطيلي النظر فيها. كل شيء قابل لأن يكون على النحو الذي نريد له أن يكون بصورة أو بأخرى، إلا أن الزيف قابل لأن يتسلل ويندس وهو كل مايجب أن نخشاه.
لا أعرف إن كنت أصدق كل هذا أو أقر فيه لكني أجد نفسي دائما أميل لأن أقبل بالوجه الأزرق من الحياة أكثر من الوردي لكن الأزرق يعطي المعاني وتناقضاتها ولا نشعر خلاله بأن شيئا ما يرفض الآخر. فلو تخيلنا أن الكدمات زرقاء فإن السماء التي تستقبل الصلاة والأحلام زرقاءة أيضا !!

رسالة افتراضية

*نشر في صحيفة مكة

فتحت هذه الصفحة لأكتب وقررت أن أكتب رسالة لكل شخص اهتم لحديثي هذا أو لم يهتم، أعرف جيداً أني سأظهر فيها كوصيّ، وكمستبد يحاول السيطرة ببسط أفكاره على الآخرين، لكن أليست الرسائل افتراض صداقة بين اثنين؟ وإلا مالذي يدع الكاتب أن يستدعي اللغة الثقيلة أحياناً ليكتب رسالة؟ إذن فلتعتبرني صديقاً لا يريد منك شيئاً أبداً سوى أن يحكي لك ويشاركك بأسلوب بسيط عن فكرة تراوده.
فكرة كلما حاول أن يعيش خلالها أرهقته عجلة الزمن.
قبل عدة أيام كنت أقرأ رواية «البطء» لميلان كونديرا، تحدث كونديرا في تلك الرواية عن فلسفته قائلاً: هناك علاقة خفية بين البطء والذاكرة، وبين السرعة والنسيان.
ثم حاول بعدها إسقاط تلك الفلسفة عن طريق سرد قصتين في زمنين مختلفين، الحقيقة ليس يضيرني شيئاً الآن يا صديقي من تلك الرواية بأكملها سوى هذه الجملة «علاقة خفية بين البطء والذاكرة».
فكيف تفسر البطء على أنه الذاكرة من وجهة نظرك؟ سأقول لك ما يجول في ذهني..هل جربت مرة أخذ نفس طويل دون اكتراث للوقت! ثم أعدت أخذ هذا النفس مرة أخرى؟ هل جربت مرة أن تشرب كوب قهوتك الصغير جداً على جرعات وأنت مسترخ تماماً تسمع موسيقى تمتد لنصف ساعة على الأقل دون اكتراث للوقت؟ أستطيع تخمين ما تقوله عني الآن في نفسك بأني أجيد تضييع الأوقات الثمينة بلا حساب! فلا بأس دعك من الجملتين السابقتين، وتعال اقترب مني وجاوبني بصدق، كم مرة خطرت فكرة وقد تكون عبقرية جداً في ذهنك وتركتها تنضج في رأسك على مهل دون أن تعرقل نموها؟ وتدرسها بجدية قبل أن تعلن عنها بكل ثقة؟! والدراسة هنا في نظري تأخذ معنى «البطء».
أظن أنك الآن بدأت استيعاب ما أرمي إليه وفهمت فكرتي.
سأكون أكثر صدقاً معك، أظن أني الآن أجد مبرراً لأقول لك دعنا نعيش الحياة برتم بطيء ونتعلم كيف نترك الأشياء الجميلة تنمو وتكبر بإيقاع هادئ وبسيط داخلنا قبل كل شيء.
انظر إلى الأشجار كم تأخذ من الوقت لتنمو؟ تفعل ذلك ربما لتبقى باقي عمرها متألقة وجميلة، انظر إلى المواليد، وإلى الصيصان، حتى الغيوم لا تمطر فجأة هي تتشكل وتتشكل ومن ثم تبدأ بالهطول.
لربما السرعة وفكرة «الزمن القياسي» أوهمنا أن البطء هو المشكلة والسرعة هي الحل.
مع أن موروثنا يقول «في العجلة الندامة وفي التأني السلامة».
فكرة البطء تخص دواخلنا أكثر من أي شيء آخر.
ليس لأجل الذاكرة فقط بل من أجل اكتشافنا.
إننا نأبه للظهور ونعطيه الأهمية الكبرى لهذا نظن بأن السرعة هي الحل، ونجعله رغبتنا الأقوى فيضللنا عن إرادتنا في تمكين ذواتنا فيما نحبه دون أن نشعر.
ألا ترى معي ذلك يا صديقي؟ ألا يحدث ذلك معك؟ أنا لا أطالب أحداً بالوقوف بل على العكس،أنا أطالب نفسي أولاً قبل كل أحد بأن نأخذ وقتنا لننمو كالشجر.
فلربما البطء الذي أقصده بعبارة أخرى هو الوضع الأكثر واقعية من فكرة السرعة التي تبدو في بادئ الأمر أنها الأكثر جدوى.
وبهذه المناسبة سأحكي لك قصة قرأتها ذات مرة في إحدى المقالات، تقول القصة بأن مجموعة من طلاب الثانوية في أمريكا قد طلبوا من أحد الكتاب المشهورين في رسالة إقناع برغبتهم في استضافته للمدرسة، وتلك الرسالة التي كتبها الطلاب هي في الحقيقة واجب لقياس مدى قدرتهم على إقناعه، فما كان منه إلا أن قام بالرد عليهم برسالة قال لهم فيها ينصحهم ويعطيهم قاعدة مهمة للحياة: مارسوا أي فن أو هواية تحبونها، ليس مهم جداً أن تكونوا جيدين فيها بداية، الأهم ألا تفعلوا ذلك محاولة للشهرة ولا رغبة في الظهور ولا سعياً للمال، وإنما افعلوا ذلك لأجل ذواتكم، لأجل أن تنمو أرواحكم بشكل أكثر ما يكون طبيعيا وصحيا.
واستمروا على فعل ذلك ولا تتوقفوا أبداً.
وأنا أقول لك يا صديقي دعنا ننفذ وصيته هذه، فلربما تعلمت أرواحنا الاتساع بهذه الطريقة ولربما تعلمت الحب.

لست كاتبة ولكني أكتب ..

tumblr_m4rqjzJcRx1roagc8o1_1280
لست كاتبة ولكني أكتب..
طوال يومين وهذه العبارة تراودني وتحثني على الكتابة أكثر. وأحاول أن أخرج بقيمة لمعنى الكتابة التي أقوم بها. لا أعرف على وجه اليقين إن كان يهمني أن يلتقي أحد بي هنا أم لا.. لكني أريد أن أعرف رأيكم لو كنتم تمرون.
ثم دعونا نتفق لو أنكم تقرأون كلماتي وخربشاتي التي أكتب، ما رأيكم لو تشاركوني شيئاً مما تكتبون فسأسعد بكم حقاً. لأني على يقين بأننا جميعنا نكتب للحياة، نكتب خلال أفكارنا وموسيقانا المفضلة، خلال كتّابنا وعناوين قصصنا التي نحب، خلال لوحات أوتأملاتنا الخاصة، وخلال كل ذلك وأكثر نكتب .. ونكتب ..

هل تعرفون مالذي أتمناه الآن؟!

أشتهي هذه اللحظة أن أكون سمكة تتدحرج على ورقة وتغرق في بحر الكلام، وتعوم إلى الأبد.

اسطنبول ٧: رسالة أخيرة

اقترح عليك وأنت تقرأ هذه التدوينة أن تستمع لهذه المعزوفة التركية

DSC_0914

إلى كل من تمر عينيه على كلماتي، إلى كل من تقابل روحه روح حرفي أكتب..
إن لم يسبق لك زيارة اسطنبول فتخيل الآن أن هذه المشاعر هي التي ستقابلك هناك، وإن كنت قد زرتها فأعتقد أن مشاعر أكثر تعقيداً وجمالاً مما كتبته هنا هي ما مرت عليك واستقرت في قلبك.. عن اسطنبول أكتب..

يالجمال هذه المدينة التي تجمع التناقضات فيها دون أن تبالي، هي المدينة التي تستطيع أن تلمس أنها شديدة الحكمة في وضح النهار وكثيرة الغواية في الليل. هي تجمّل فكرة التناقض للحد الذي يجعلك تتصالح مع الفكرة مثلها، فهي المدينة المتصالحة تماماً مع نفسها لربما الثقافة والجمال اللذان يرفلان عليها هما سبب ذلك التصالح. لاشيء يستطيع أن يعبث بجمالها فهي حتى وإن حاولت أن تشيخ فهي لا تملك الصلاحية لتفعل. مدينة كتب عليها أن تبقى فاتنة للأبد. كل ذلك الغرور الذي تلمسه وأنت تسير في أزقتها العتيقة هو يزيد من إدراكك عن مدى ثقتها في ذاتها، ثقتها بجمالها.

DSC_0524

كنت خلال سيري في شوارع المدينة، أنظر في بحرها الذي يعرف كيف يسيطر على كل تلك القوارب التي تركبه، وأتساءل! و أتأمل وجوه كل أولئك الأطفال التي تلفها البراءة والجمال، وأتساءل! و ألمح عاشقين يجلسان متجاورين في حديقة يتآملان المآذن ثم يطوق أحدهما الآخر بيده بينما يحط الثاني رأسه دلالاً على كتف الأول، و أتساءل أيضاً! أتساءل كيف لك يا ناظم حكمت أن تقول في أبياتك :

أجمل البحار
هو الذي لم نذهب إليه بعد
و أجمل الأطفال
هم الذين لم يكبروا بعد
و أجمل الأيام
هي تلك التي في انتظارنا
وأجمل القصائد
هي تلك التي لم أكتبها لك بعد
ياصغيري !

لربما يحق لغيرك أن يقول ذلك، مثلي أنا مثلاً! أما أنت الاسطنبولي فلا، لا أشعر أن لك الحق في ذلك. حتى أنا بعد أن شاهدت كل ماشاهدت في اسطنبول لا أظن أني لا أزال أملك الأحقية لأردد أبياتك!! لكن أتعلم يا ناظم حكمت ماسأفعله أنا، أتعرف ما سأنقله عن اسطنبول؟ وما سأقول فيها؟! سأخبر صغيري ذات يوم حين يجيء إلى الدنيا بأني رأيت أجمل البحار وأجمل الأطفال وأني نظمت أول قصيدة حب في حياتي في مدينة اسطنبول الجمال، مدينة الحب والصلاة.
اسطنبول ملهمة ومثيرة للإهتمام ليس لي وحدي بل للعابرين، والباحثين، والسائحين. وحتى الذين لا يأتوها والاهتمام يسكنهم، فمجرد النظر إليها من الأعلى، من الطائرة قبيل الهبوط والدخول سيتملكهم الإهتمام. سيفتك بهم سحر جمالها لامحالة، دون وعي سيجعل رغبتهم في الاهتمام رغبة أساسية وملحة.

DSC_0921

في اسطنبول، ستلمح في وجوه السائحين وقسماتها ذلك الحديث الذي لا نلقاه إلا بين النفس والنفس. حديث الأسرار وحديث الحب والعشق. صدقوني فأنا لا أبالغ إن قلت أن اسطنبول استطاعت أن تحتل مكانة المدينة الأولى في قلبي. هي المدينة المنطوية على نفسها ومنفتحة بذات الوقت، المدينة التي تحاول دائما أن تأخذ نفساً ونفساً آخر لتتأكد من اتجاهها ومسيرتها! هي المدينة التي تملك في قلبها الجمال والحب، هي المدينة الكاملة، التي تعرف كيف تستجيب للحياة. أما عن أهل اسطنبول فهم لا يجاملوك على حساب شيء هم إما لطفاء لأنهم كذلك أو أشداء لأن تلك طبيعتهم. لا يعرفون التصنع، إن كذبوا فهم لا يكذبون تحت قناع الصدق، يكذبون دون مراوغة. إلا أنهم لايعرفون أن غلاظة لغتهم وتراكيبها هي ماتفسد عليهم فهم الآخرين لهم. وإلا فهم أوضح من أن يكونوا غامضين.

DSC_0610

اسطنبول مدينة الإنسان والحزن، لقد كتب أورهان باموق الروائي التركي فصلاً كاملاً في روايته يتحدث فيها عن الحزن، ذلك الحزن الذي يخص أهالي اسطنبول وحدهم. إلا أن الحزن ذاك هو ذاته الذي جعلها تتسع لتفهم ماضيها جيداً وتتعامل مع حاضرها باتزان لا هي القابعة في الأمس ولا هي الماضيه للوهم. تتراوح بين شرقيتها وغربيتها لتذكرنا بأننا إن أردنا أن نكون أقوياء بذواتنا فيجب أن نتسع دون أن نضيع، ونضيق دون أن نختنق.

ألا زلت تشك في أن اسطنبول هي المدينة الأولى للحب؟ هي المدينة التي تبتسم لمن يفهمها وتتجهم في وجه من يجهل قيمة الجمال ومعنى الحب؟ أتشك لحظة في أن اسطنبول مدينة الحب والصلاة؟ أما أنا فلن أشك قط.

DSC_0850

ملاحظة: السفرهو للروح وليس للجسد فقط لذا اطلقوا أرواحكم جيداً، لتخالط أجسادكم البشر وأرواحكم السماء والطير والشجر.

 فاطمة.

قراءة في فيلم “Her”

Her2013Poster
لن أتحدث عن الفيلم من ناحية علمية على الرغم من أن فكرة الفيلم العلمية تنطوي على السؤال: هل حقاً يستطيع الكمبيوتر مستقبلاً الوقوع في الحب مع البشر؟ لكن سأتحدث في فكرة هل البشر أغبياء لهذه الدرجة ليقعوا في حب كمبيوترأو آلة؟ رغم سهولة الإجابة على سؤال كهذا وبديهيته إلا أني أظن بأن الأمر أكثر تعقيداً من البداهة تلك. فيقول المسيري:  بأن العلم والتقنية لو انفصلت عن القيمة فهي قد انفصلت عن الإنسان. وهل هنا القيمة انفصلت عن الإنسان؟ لوهلة ستقول لا. لأن الفيلم يتحدث عن القيمة العاطفية للإنسان وهي “الحب أو الارتباط” وهذا عكس ماترمي إليه مقولة المسيري. ومايثبت ذلك هو أن الفيلم بصورة مباشرة يحاول اقناعنا بأن الآلة تستطيع أن تشعر بك وتتعاطف معك “وهذه صفة انسانية”. إلا أن الحقيقة التي تعريها فكرة الفيلم هي قابلية البشر لتبني مايخالف تكوينهم الفطري، بخلق وتركيب نفس الوظائف في جهاز بإمكانهم التحكم فيه وسيطرته وتطويره ليتجاوب بالطريقة التي يردونها هم، ثم إقامة علاقة عاطفية معه. نلاحظ من خلال الفيلم أن البشر مستعدين أن يخسروا علاقات حقيقية فيها ثغرات طبيعية مقابل أن يكسبوا مشاعر من تكوينهم، ويطوروها كما يريدون بحسب احتياجهم الذي يتلائم مع طريقة تفكيرهم ونفسياتهم ومزاجاتهم، بغض النظر عن وجودها الفعلي والواقعي والحقيقي. وذلك بالضبط ماحدث مع بطل الفيلم ثيودور حين تجاوب مع أمور الطلاق من زوجته -بعد خلافات نشأت بينهما- التي كان يحبها ، لأنه في لحظة الطلاق تلك -التي حدثت بعد انفصاله عن زوجته فترة- كان قد وقع في حب سمانثا التي تقبع في جهاز كمبيوتر لا جسد ولا روح لها. كما أن الفيلم صور أن البشر في كامل الإستعداد للمجازفة في البقاء على علاقة مع آلة من المجازفة للارتباط وتكوين علاقة مع كائن حي حقيقي والبقاء معه، علاقة بين إنسان وإنسان آخر.

her-joaquin-phoenix-2إذن ماذا سيخسر البشر لو ارتبطوا ارتباطاً عاطفياً بآلة أو كمبيوتر ومن ثم انتهت لأي سبب كان؟! من وجهة نظري فإننا في حالة الإرتباط بكائن حقيقي  لربما نخسرشريكاً، ولكن في علاقتنا مع الآلة فإننا سنخسر أنفسنا إلى الأبد. وحين نخسر أنفسنا فنحن نخسر الإنسان فينا. وهذا الذي لايريده المسيري وينقده بالتفصيل في كثير من كتبه ونظرياته والذي يتلخص في قوله الذي ذكرته في البداية، وهو أن لا نخسر الإنسان.

والآن وبعد القراءة السريعة والمختصر للفيلم هل تظنون بأن البشر أغبياء حتى أنهم يقعون في الحب مع آلة أو كمبيوتر؟
بالنسبة لي شخصياً فأنا شعرت بالحزن، وطوال الفيلم كنت أشعر بالحزن يأكل قلبي شيئاً فشيئاً، بعد كل حدث كنت أتمنى من البطل أن يتفاعل مع الأمر بصورة مختلفة مغايرة وطبيعية كإنسان، إلاّ أنه خذلني.

اسطنبول٦: السوق | BAZAAR

التسوق في اسطنبول له مذاق القهوة والفواكة المجففة، يوزن بالفضة ربما، ومنقوش بزخارف ملونة. لا تستغربوا علاقة كل ذلك بأسواق اسطنبول.. على الرغم من أن جمال أسواق اسطنبول يكمن في شعبيتها وقدمها.. اسقفها وطريقة بناءها.. أزقتها وتفرعاتها.. جدرانها المتشققة العتيقة، إلا أنك لو أردت أن تعيش التجربة التركية للسوق فحاول أن تكون بسيطاً وتحدث لأولئك البائعين، اترك بينكم مساحة للحوار والمزاح والضحك. حين تدخل القراند بازار أو محمود باشا بازار أترك لقدميك أن تقودك، أترك لنفسك أن تشتهي، ستتوه ولن يكفيك يوم واحد لتشبع رغبة الاكتشاف. ستمشي كثيراً دون أن تشعر بالتعب ولا الملل. ولا يضيرك إن اشتريت من أول محل تشاهد فيه كوب قهوة أعجبك أو لا لأنك ستشاهده مرات أخرى فيما بعد. وستقارب وتقارن في الأسعار وهذا أكثر مايهمك. الحقيقة أنك في هذه الأسواق ستسمع أصوات البسطاء من الأتراك جلياً خلال أحاديث الباعة وتجاذب أطراف الحديث معهم.. فأول سؤال قد يطرحوه عليك هو من أين أنت؟

DSC_0796

كنت أسير مستمتعة بالنظر إلى تلك المحلات المتراصة جنباً لجنب بطريقة عشوائية فمثلاً محل اكسسوارات بجانبه محل لبيع الحلويات، وأخر يبيع الاكسسوارات والشنط مرة أخرى ومن ثم بائع القهوة وهكذا. كلها تتشابه إلا أن المختلف الوحيد هم البائعين أنفسهم. فأول محل دخلت إليه كان يبيع الفضة، تحدثت إليه بالانجليزية ثم حين سمعني أتحدث إلى أختي باللغة العامية قال أتتحدثين العربية الفصحى؟ وبدأ يحكي لي أنه لا يعرف إلا الفصحى ويحمد الله على أنه تعلم اللغة العربية الفصحى ثم قال أنا لا أفهم أي من اللهجات التي تتحدثون بها إطلاقاً فأرجوكم حدثوني بالفصحى. لوهلة شعرت بالخيبة من نفسي، فأنا لا أتحدث الفصحى إلا فيما ندر فاستخدامي لها غالباً مايكون للكتابة فقط وليس للحديث. شعرت بشيء كالحزن على نفسي ثم أن هذه الخيبة تخصني وحدي لا بأس عليكم، ولا تعيروها اهتمامكم.
أجواء تلك الأسواق الشعبية البسيطة جميلة جداً، وصاخبة جداً، كل البضائع هناك مصنوعة محلياً أي في تركيا، فحين تعجبك الأشياء حولك وتبدأ في اختيارك لها تسمع البائعين يحاولون تنبيهك وبكل فخر بأنه مصنوع في تركيا أي بجودة عالية، لا تخشى شيئاً، هذا الفخر في محله! مشيت كثيراً ثم توقفت عند محل يبيع علب من الخشب، منحوتة و مزخرفة بطريقة رائعة، أنيقة جداً جداً، فخمة لأنها مصنوعة باليد، وكم أقدس الصناعة اليدوية. هذه المرة جربت الحديث مع البائع بالعربية، فإذا به يقول بصوت متفاجئ ومندهش: ماشاءالله عرب. ثم بدا على نبرته شيء من الحزن وهو يقول ماشاءالله ماشاءالله، ثم صمت لوهلة وعاد يردد من جديد: الحمدلله أنت عربي الحمدلله. وكأنه يقول لي أنت محظوظة، ألا تشعرين بهذا النعمة! ثم ماعاد مهتماً إن اشترينا أو لا، فقد كان جل تركيزه على حديثي أنا وأختى ونقاشنا فيما نختار لأننا نتحدث إلى بعضنا بالعربية، ثم فجأة نسمعه يعود ويكرر الحمدلله أنت عربي الحمدلله، كنتُ منصته له جداً بوجه خجل غير ملتفت، هذا المسلم مكترث أكثر منا للغة العربية حتى كدت أشعر به يقدسنا فقط لأنه حاول أن يقارب في ذهنه بين حديثنا والقرآن الذي يسمعه ويقرأه. أقسمت في نفسي أني لن أخرج من محله دون أن اشتري شيئاً منه، وفعلت ذلك غير آسفة.

DSC_0331DSC_0725لتلك اللحظة لم يصادفني أحد اكترث كثيراً ليسألني من أي البلاد أنتِ إلى أن وصلنا أحد محلات الفضة التي أعجبني فيها عقد وخاتم، أخذت أختار وأجادل في الأسعار ثم فجأة بدأ يسأل أنتِ من أين ثم جاوبناه جوابنا المعتاد، من اليمن. قال: اليمن !! وبدأ يغني عن التابعي الجليل والجميل “أويس القرني” وابتسامة كبيرة تعلو وجهه وأظن بأنها أغنية مشهورة في تركيا. وبعدها أخذ يحكي لنا قصة هذا التابعي وخلال حديثه تستشف الحب العميق الذي يكنه لهذا التابعي ويقول بصوت يميل إلى الخشوع بأني أحبه لأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قد أحبه كثيراً. يالهذه الروح.
الكثير الكثير من الحكايات الممتعة خرجت بها مع أولئك البائعين الطيبين. كان آخرها مع بائع محلات الحلوى “الحلقوم”. كنت من أول أيامي في اسطنبول قد عشقت حلوى الحلقوم بالرمان والعسل. وقبل سفرنا بأيام ومن هذا المحل تذوقناه مرة أخرى وقررنا شراءه، بالرغم من أننا اخترنا مانريد منذ دخولنا إلا أنه حاول معنا أكثر من مرة أن ننوع في خياراتنا وأخذ يحاول معنا تجربة النكهات، يقدّم لنا قطع صغيرة لنتذوقها ويقول هذا بالفستق وهذا بالجوز وهذا بنكهة كذا وهذا بكذا، وأكثر ما يكرره علينا أنه بالعسل وليس بالسكر. وهو يحاول أكثر من مرة كنت أقاطعه بأننا لا نريد سوى الرمان لكنه أصر على المحاولة  وفي النهاية لكثرة ماقاطعته وأصريت على اختيارنا، أخذ يحاول استفزازي بطريقة أقرب ماتكون بالدعابة فقال ها “بترون” ويشير لي بطعم ونكهة جديدة ويقول تريدين؟ ثم بنوع بهار آخر، كفتة، شاورما ها “بترون” تريدين؟ ولم أكن أفهم في البداية مالذي تعنيه كلمة “بترون”، فسألته فإذا به يقول تعني Boss !! أخذنا نضحك معه كثيراً وقبيل خروجنا سألنا من أين أنتم؟! أخبرناه من اليمن وأخذ يردد ذات الأغنية عن أويس القرني الذي غناها أكثر من رجل تركي علينا احتفاء بكوننا من اليمن لأجل التابعي الجليل. لم أكن أعرف أن الشعب التركي شعب مرح ولطيف لهذه الدرجة، فتجربتي السابقة  كانت مجرد ترانزيت لكن مالحظته منذ دخولنا المطار هو التجهم والحزن هذا ماكانت تكتسي به وجوه أهل اسطنبول. أما هذه المرة فلاحظت فيهم الجانبا الآخر.

يالجمال اسطنبول ويا لتناقضاتها المثيرة ..