قصة صداقة وفن: مروان قصاب باشي.

مروان قصاب باشي، صاحب ريشة كثيفة وترسم بشيء من التجريد، تحاول أن تتفرد في رسم سر ما على الوجوه، كأنها طرق وعرة، وقسمات شوهها الواقع، أو ربما ظل المعنى في بطن شاعرية مروان الفنية. يطرح فنه بطابعه الدمشقي في صفوف برلين. طفت هويته في كل عمل له، و خلال خطواته الفنية شديد الثقة بما يملك من موهبة ربى فنه.

مروان دمشقي، درس في برلين، وكان يتمنى أن يبدأ فنه من باريس وخلال باريس.. لكن برلين من فتحت أبوابها متسعة له، ومع هذا لم يترك لبرلين أن تذيب مروان وتفاصيل هويتيه الدمشقية الدقيقة، فحتى الطبيعة التي رسمها كانت طبيعة شرقية.

يقول هو شخصيا عن سبب اهتمامه تحديدا برسم الوجه: أتصور أن الرؤوس والوجوه هي قصتي الذاتية على المستوى الفني. وقد قال عن فنه بشكل عام أيضاً: عن التجريد في عملي فهو كلام خطير لأنني أعتقد أن عملي ليس تجريدا بالمعنى السائد للتجريدية، وأنا أنطلق من واقعي الخاص وأسعى إلى تحويل الطبيعة العامة إلى طبيعة خاصة مرتبطة بضميري الفني، فالتجريد قد يفهم أنه العمل غير المفهوم، لكني أفهم التجريد أنه غموض موجود في كل شيء.

هنا بعض أعماله :

ds_10770

ds_10768

 

ds_10773ds_12318 ds_12319

لربما الطريقة التجريدية التي يستخدم فيها فرشاته تبعد تفاصيل شخصيته التي انعكست جلياً خلال رسائله مع عبدالرحمن منيف التي أصدرت في كتاب “في أدب الصداقة” لكن فنه يظهر حساسيته العميقة وثقافته. فقد قام مروان بعد وفاة الأديب الكبير عبدالرحمن منيف بجمع رسائلهما وطبعها في كتاب.  وهذا العمل يدلنا لأمر مهم، وهو أن مروان لم يكتفي باستخدام فرشاته ليعكس نفسه، بل هو أضفى لهذا الوجود حرفه الذي نمى بينه وبين صديقه، فقد كان شفافا وغزيراً، والأهم من ذلك أنه صادقاً، وتجلى فيه معنى أن تكون صديقاً لشخص فرقت بينكما الدروب وباعد بينكما الزمن.

في القصاصة بالأسفل كتب مروان لعبدالرحمن: ما أصعب البعد مع لهفة اللقاء والشوق..
ثم كتب في آخر القصاصة: هذه رسالة سريعة وللتعود على الكتابة من جديد.
حين كتب “من جديد” فإنه يذكرنا أنهما ليسوا على تواصل دائم دون انقطاع.
بل خلال الرسائل نلحظ كيف يحصل الإنقطاع المفاجئ للرسائل ثم عودتها مرة أخرى بكثير من النقاش والشوق دون الالتفات طويلاً لسبب الانقطاع ولا الوقوف عنده، فأحدى رسائل عبدالرحمن لمروان يتفقد فيها أحواله حين أطال في عدم كتابته الرسائل قائلاً: هذه بداية لعودة رسائلنا التحشيشية، أي نكتب كل مانفكر به… فالأصدقاء يسلمون كثيرا ويسألون وينتظرون.
ثم يرد مروان على رسالته: فرحت برسالتك ووضعتها في جيبي وأخرجتها أكثر من مرة لأستعيد الفرح.

wpid-20150325_200212-1.jpg

ومن الجميل التنويه على أن كل هذه المراسلات لم تكن بغرض النشر، وإنما هي قصة صداقة كما ذكر فواز طرابلسي في خلف الكتاب. فإضافة إلى أن مروان كان يثق بنفسه جدا على أنه فنان متفرد، فرسائله تشي لنا بأنه توافق بشكل ما مع أدب عبدالرحمن بقوة حرفه وغزير ثقافته.

هنا مقابلة مع مروان في الجزيرة نت ، وهنا أخرى في الاتحاد.

فنان منسي: حليم الرومي

 

لا تتشابه ألقاب الفنانة ماجدة الرومي والفنان حليم الرومي مصادفة، بل حليم الرومي يكون والد الفنانة القديرة ماجدة وصانعها الأول. ومن الغريب جداً أن قلة ونادرة جداً  في زماننا هم من يعرفون هذه الصلة، إلى جانب معرفتهم بمجد المطرب والفنان العظيم “حليم الرومي”.

حليم الرومي في الحقيقة، لم يعتني بتجربة ابنته ماجدة الرومي وصوتها وامكانتها فحسب ولم يورثها فنه وحيدة، بل وقف أيضاً إلى جانب أشهر مطربات لبنان، وهي السيدة فيروز، حيث كما قيل: التقى الموسيقار حليم الرومي بالمطربة فيروز في اواخر الأربعينيات حين تقدمت لامتحان القبول في إذاعة لبنان، اعجب بصوتها وقدم لها اول لحن «تركت قلبي وطاوعت حبك» عام 1950″. كما أنه قد عمل معها في دويتو “الورد”

8fa4a

بدأ حليم الرومي فنه من بلاد الشام (حبفا)، وأجازه معهد الموسيقى وهو في الرابعة عشر من عمره ليكون مطرب ناشئ، لكن شهرته التي أعطته لقب فنان هي مصر العريقة وأم الفن حين تبنت الإذاعة المصرية أولى حفلاته، وكما هو معروف فإن كل فنان يشرق من مصر ثم تنشر مصر شعاع اسم وفنه وموهبته في أرجاء الدنيا، إن مصر صانعة العظماء بلاشك. 

له عدة أعمال عظيمة، ووضع بصمة في إدارة الإذاعة اللبنانية، حيث عمل جاهداً لرفع مستوى الفن في لبنان في ذلك الوقت، وقيل أنه ساهم وطور فن الموشحات حيث قيل: عالج الرومي الموشح بطريقة جديدة وهي ترديد المجموعة أي ‘الكورس’ للبيت الأول منه وبعد كل جزء من أجزائه أو جزء من الخانات التي ينفرد فيها المغني أما أداء الخرجة فكان يؤديها، ‘الكورس’ مع المغني المنفرد. ولهذا قيل أنه جمع بين الأسلوب المصري والحلبي في أداء الموشحات. وأشهر موشح له هو “غلب الوجد عليه” وهي من كلمات الأديب محمود سامي البارودي. 

في الحقيقة أن حليم الرومي له إنتجات غزيرة جداً، فله مايقارب آلفي عمل، كما أنه خلال عمله في الإذاعة اللبنانية أستطاع تقديم الكثير من الأصوات الناجحة والمميزة، حيث أنه اكتشف تلك الأصوات ودربها وعاملها بإهتمام إلى أن اكتسبت تلك المكانة. تميزت أعماله في مجملها بالعمق والأصالة الفنية، وتناولت مختلف الألوان الغنائية والموسيقية المعروفة في الغناء العربي، وتميّز إنتاجه بالقصائد والموشحات والأوبريتات، أهمها قصائد: «إرادة الحياة»، «ومضة على ضفاف النيل»، «عطر» و«البحيرة»؛ وموشحات: «غلب الوجد عليه فبك»، «يرنو بطرفٍ فاترٍ»، «يا أهيل الحي» و«وجب الشكر علينا»؛ وأوبريتات: «القطرات الثلاث»، «مجنون ليلى» و«أبو الزلف»؛ وأغاني: «لا تغضبي»، «سلونا» و«هنا تقابلنا سوى». 

هنا بعض أعماله المتميزة : 
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
اسمع قلبي وشوف دقاته
غلب الوجد عليه 

وثائقي قصير يتحدث عن الفنان حليم الرومي
https://www.youtube.com/watch?v=haSMQRN_Y_g

حرية الإنسان عند جان جاك روسو

* نشر في ساقية

جان جاك روسو (1712 – 1778) هو كاتب وفيلسوف جنيفي، يعد من أهم كتاب عصر التنوير، وهي فترة من التاريخ الأوروبي، امتدت من أواخر القرن السابع عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلاديين، وهي حركة سياسية، اجتماعية، ثقافية وفلسفية واسعة، اشتهرت فترة التنوير بكل أشكال الفكر الذي يريد تنوير عقول من الظلام والجهل والخرافة، مستفيدا من نقد العقل ومساهمة للعلوم. الجدير بالذكر أن فلسفة (روسو) قد ساعدت في تشكيل الأحداث السياسية، التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية. حيث أثرت أعماله في التعليم والأدب والسياسة. يقول (جان جاك روسو) في كتابه الشهير (دين الفطرة):

الإنسان فاعل حر. فعله إذن منه، ومايفعله بإرادة حرة لايدخل في النظام الذي اختاره الخالق بتدبيره وحكمته، فلا يجب إضافته إليه. الرب، المدبر للكون والساهر عليه، لايريد الشر الذي يقترفه الإنسان بالإسراف في استغلال الحرية المخولة إليه. لايمنع حدوثه، إما لأنه بلا تأثير نظراً لتفاهة فاعله، وإما لأن منع الشر لا يتم إلا بنفي حرية البشر وهو شر أكبر إذ يطعن في قيمة الإنسان الذي أوجده الرب لا ليفعل الشر بل ليُقبل على الخير مختاراً. ولكي يختار وفر له القوى الضرورية لذلك، مع وضع حد لها حتى لا يُخل الإفراط في الحرية بتوازن الكون. الشر الذي يفعله الإنسان يعود عليه بالضرر بدون أن يؤثر سلباً على النظام العام وبدون أن يمنع الجنس البشري من أن يواصل، مهما فعل، مسيرته. من يتذمر من أن الرب لا يثني الإنسان عن فعل الشر يعترض في الواقع على أنه حاباه بطبيعة ممتازة وأضفى على أفعاله صفة الأخلاق التي تزيدها شرفاً و تكريماً، إذ بها ندبه إلى التحلي بالفضيلة. أيه سعادة أكبر من الشعور بالرضى على النفس؟ وحتى نستحق تلك الغبطة وضعنا فوق هذه الأرض أحراراً لنختار، وبلانا بالشهوات ليمتحننا ووهبنا الضمير لنقاومها. هل كان في وسع القدرة الربانية نفسها أن تهب لنا أكثر مما فعلت؟ أكان وارداً أن تضع الصراع والتناقض في قلب طبيعتنا وتجازي على الخير من لا يقوى على الشر؟ ويحك أيها المتذمر! حتى لا يكون الإنسان شريراً أكان على الباري أن يسجنه في حدود الغريزة ويجعل منه بهيمة؟ جاشاك ربي ومالك روحي أن ألومك أبداً إذ جعلتني على صورتك لأكون مثلك حراً وخيراً وسعيداً.

خلود الكاتب عند بلقيس الكركي

 

* نشر في ساقية

تقول د. (بلقيس الكركي) في كتابها (إرادة الكتابة) حيث تصف صورة الكاتب لنفسه ومعنى خلوده خلال الكتابة،  في فصل “الرقباء: الذات” :

طالما أنك ستحيا الحياة على أي حال، فربما من الحكمة أن تلهي نفسك خلالها بانتظار شيء اخر غير الموت، بشيء تختاره أنت. طبعا قد يبدو من الغباء أن تختار العمر من أجل لحظات قصيرة تدرك فيها خلودك الحاصل أو المحتمل، إدمان المسير في طريق شائك يجرحك ويقتلك ويهدمك رويداً رويداً كل يوم، لكن الغاية تستحق، بلاشك، لسببين:

الأول (استغلال الموت): هو أن اللحظات القصيرة هذه في غاية الإغراء لأن فيها أقصى لذة ممكنة لبشر، لذة “كالأبد المؤقت في القصائد”، تجعل “طعم الموت” بعدها أخف وطأة لأنك عرفت طعم الأبد مؤقتاً. طبعاً قد تبقى حياتك غالية على قلبك، لكنها قد تصبح زائدة عن حاجة صورتك الخاصة إذا لم تعد الأخيرة مرهونة بما ستكتب لو عشت أكثر. أما الموت فيصبح عندها اكسسوارا مكملاً لما ألفت من نفسك، يصبح مجرد النهاية التي حضرت نفسك لها وحيداً، محض سطر قصير، حدث عابر أسفل الصورة، لكنه يكملها فيجعلها أجمل، تكون عندها قد هزمت الموت، لا بأن منعته، بل بأن غيرت دوره وجعلته في خدمة صورتك، فنحن نحب الموتى من العظماء أكثر.

الثاني (متعة الأوهام): هو أنك حتى لو لم تعش لحظات الأبد المؤقتة، فمتعة لابأس بها أيضاً هي الانتظار وتخيل اللذة التي قد تجتاحك فيما لو لم تفشل هذا  إن كنت تنهك نفسك حقاً في سبيل صورتك. فالانتظار احتمال، كل البشر ينتظرون أشياء ممكنة أو مستحيلة كي يحتملوا الحياة. طالما أن ملء نفسك بالأوهام والأحلام الوردية قد يقربك فعلا مما تنتظر فمثلا من يتوهم أنه شجاع قد يصبح حقاً شجاع، هذا سيجعلك تحتمل الحياة من أجل غاية مترفة تنتظرها بدل الموت و تعينك على ضجر العالم الرتيب. الإنتظار آداة تسيطر عليها وتستغلها  من أجل التأليف والوجود وزيادة احتمال الإحساس بمتعة الخلود.

شروط المثقف عند أنطون تشيخوف

1537064a67eefba5d87d7b

* نشر في ساقية

أنطون بافلوفيتش تشيخوف (1860-1904) هو طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي، يصفه البعض بأنه من أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس. كتب المئات من القصص القصيرة التي اعتبر الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين. تم تجميع عدد من رسائله العائلية في كتاب يحمل اسم (رسائل إلى العائلة)، يرد فيه (تشيخوف) في رسالة إلى أخيه (نيكولاي) حين أرسل إليه يشتكي بأن الناس لا يفهمونه، فقال له:

إن الناس يفهمونك جيداً، وإذا لم تفهم نفسك، فذلك ليس خطأهم.

ثم خلال الرسالة يحاول (تشيخوف) أن يشرح له أن هذا بسبب أمر واحد وهو الإخفاق الوحيد في نظره فقال:

لديك إخفاق واحد، ويعود إليه زيف وضعك، وتعاستك واضطراب أمعائك. ويتمثل هذا الإخفاق في افتقارك التام للثقافة. سامحني، من فضلك، لكن-كماتعرف- للحياة شروطها. فمن أجل أن تعيش نرتاحاً بين المتعلمين، ولتتمكن من معايشتهم بسعادة، يجب أن تحوز قدراً محداً من الثقافة. إن الموهبة لتدخلك في مثل هذه الدائرة، فأنت تنتمي إليها، لكن، يتم سحبك بعيداً عنها للتأرجح بين المثقفين والمستأجرين.

ومن ثم يبدأ تشيخوف بوضع شروط يجب أن يستوفيها المثقفين في ٨ نقاط وهي :

١) احترم الجانب الإنساني في الشخصية، ولهذا السبب هم دائماً ودودون، دمثون، ومستعدون للعطاء. إنهم لا يتشاجرون بسبب مطرقة أو قطعة مفقودة من المطاط الهندي، وإذا عاشوا مع أحد لا يعدون ذلك منحة منهم، ويرحلون دون أن يقولوا “ليس بوسع أحد أن يعيش معك”، إنهم يصفحون عن الضوضاء والبرودة واللحم المقدد والنكات ووجود غرباء في منزلهم.

٢) يتعاطفون، ليس فقط مع المتسوليين والقطط. وتتفطر قلوبهم لما يرونه أو لا يرون. إنهم يسهرون الليل لمساعدة شخص ما، ولدفق نفقات الأخوة في الجامعة، ولشراء الملابس لأمهاتهم.

٣) إنهم يحترمون ممتلكات الآخرين، ولهذا يسددون ماعليهم من ديون.

٤) إنهم مخلصون، ويخشون الكذب كما تخشى النار. إنهم لا يكذبون حتى ولو في الأشياء الصغيرة. فالكذب إهانة للمستمع ويضعه في منزلة أدني بالنسبة للمتحدث. لا يتظاهرون، بل لا يتغير سلوكهم في الشارع عنه في المنزل، ولا يتعمدون الاستعراض أمام رفاقهم الأقل منزلة. لا يثرثرون. ولا يثقلون على الآخرين بثقتهم بأنفسهم. واحتراماً منهم للآخرين، فإنهم يميلون إلى الصمت أكثر من الكلام.

٥) لا يحطون من قدر أنفسهم للحصول على شفقة الآخرين. ولا يلعبون على شغاف قلوب الآخرين، ليجعلوهم يتنهدون ويستحوذون عليهم. ولا يقولون “يساء فهمي” أو “لقد أصبحت شخصاً من الدرجة الثانية”، لأن كل ذلك ليس سوى سعي وراء تأثير رخيص، ومبتذل وتافه وزائف.
هم لا يعانون من الخيلاء والغرور. ولا يحفلون بتلك الماسات الزائفة (أقصد المشهورين)، ولا يأنفون من مصافحة السكير، وينصتون إلى صيحات إعجاب مشاهد مشتت في معرض للصور الفتوغرافية، ويترددون كثيراً إلى الحانات.

٦) وإذا أبرموا صفقة متواضعة، فإنهم لا يتباهون كما لو كانوا عقدوا صفقة بمئة روبيل، ولا يعطون لأنفسهم أولوية على الآخرين. إن الموهوب الحقيقي دائماً مايحافظ-دوماً- على اندماجه بين الجموع، وبعيداً قدر المستطاع عن الإعلان، وحتى كرايلوف، قال- سابقاً- إن البرميل الفارغ يصدر عنه صدى صوت أكثر من البرميل المملتئ.

٧) إذا كانت لديهم موهبة يحترمونها، وضحون في سبيلها بالراحة والنساء والخمر والخيلاء. إنهم فخورون بموهبتهم، وبالإضافة إلى ذلك من الصعب إرضاؤهم.

٨) ينمون الحس الجمالي داخلهم. ولايستطعون الذهاب إلى النوم بملابسهم، ولايتحملون رؤية الشروخ ممتلئة بالحشرات، أو تنفس هواء فاسد، أو السير على أرض عليها بصاق، أو أن يطهوا وجباتهم في موقد زيتي. ويسعون قدر استطاعاتهم إلى كبح جماح رغباتهم الجنسية والسمو بها. وليس مايرغبونه في المرأة أن تكون رفيقة فراش، ولايطلبون المهارة التي تظهر عبر المضاجعات المتتالية. إنهم يرغبون،- خاصة الفنانيين منهم- بالأناقة، والإنسانية، والاحتواء، والأمومة. إنهم لايشربون الفودكا طوال ساعات النهار والليل، ولايتشممون رفوف الخزانات، لأنهم ليسوا خنازير، ويعلمون أنهم ليسوا كذلك. ويتناولون الشراب-فقط- عندما يكونوا غير مرتبطين بعمل أو في عطلة.

ثم بعد ذلك يعقب (تشيخوف) قائلاً:

لا يكفي على المثقف أن يقرأ “أوراق بيكويك” أو أن يحفظ منولوجاً من “فاوست”، فإن مايحتاجه المثقف هو العمل الدائم، ليل نهار، والقراءة المستمرة، والدراسة، والإرادة، فكل ساعة هي ثمينة بالنسبة له.

Screen Shot 2014-11-23 at 2.33.14 PM

للاطلاع على الرسالة

اللغة العربية والألماني غوته

Goethe

* نشر في ساقية

يوهان غوته (1749 – 1832) هو أحد أشهر أدباء ألمانيا المتميزين، والذي ترك إرثاً أدبيا وثقافياً ضخماً للمكتبة الألمانية والعالمية، وكان له بالغ الأثر في الحياة الشعرية والأدبية والفلسفية، وما زال التاريخ الأدبي يتذكره بأعماله الخالدة التي ما زالت أرفف المكتبات في العالم تقتنيها كواحدة من ثرواتها، وقد تنوع أدب غوته ما بين الرواية والكتابة المسرحية والشعر وأبدع في كل منهم، واهتم بالثقافة والأدب الشرقي واطلع على العديد من الكتب فكان واسع الأفق مقبلاً على العلم، متعمقاً في دراساته.

يقول غوته معبرًا عن اللغة العربية:

من المحتمل أن لاتوجد لغة ينسجم فيها الفكر والكلمة والحرف بأصالة عريقة كما هي الحال في اللغة العربية.

فمن خلال الكثير الذي نقل عن غوته فإننا نلحظ تأثره الكبير خلال شعره بالثقافة العربية الشرقية. حتى أنه حاول مراراً تعلم اللغة العربية، ويقول في ذلك وقد كان في مشارف الرابعة والسبعين من عمره :

نظراً للصعوبات الهائلة التي ترافق تعتم هذه اللغة العربية فإن أكثر ماحصلته منها كان عن طريق الغزو والإغارة عليها وليس عن طريق الدراسة المنتظمة وأنه لايجوز لي في الوقت الراهن الذهاب إلى أبعد من ذلك.

وله وصف للشاعر العربي الذي يستخدم بيئته – الحيوانات البرية والجبال والصحاري والأشجار وغيرها- جيداً لطرح أفكاره ويقول:

نجد أن كل شيء في نظر الشرقي مترابط ، وقد تعود على الربط المرتجل بين أبعد الأشياء عن بعض في أن يشتق المتضادات الواحد من الآخر بتعديلات طفيفة في الحرف أو المقاطع. ومن هنا نرى كيف أن لغته بذاتها، وبذاتها هي لغة منتجة، وهذا على نحو خطابي حينما تلتقي بالفكر، وعلى نحو شعري حينما تلتقي بالخيال.

وقيل إلى جانب كل هذا أن الشاعر غوته أدخل  مفردات فارسية وعربية على قصائده، كاستخدامه لمفردة “ديوان” أو مفردة “هدهد”، بالإضافة إلى الاستعارات الشعرية العربية غير الموجودة في التعبير الألماني كتعبير “وجهها كالقمر”. أما تأثره بالقرآن فيظهر جليا في هذه القصيدة “لله المشرق، ولله المغرب، والشمال والجنوب يستقران في سلام يديه”، وهي محاكاة واضحة لقوله تعالى في سورة البقرة “ولله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثم وجه الله”.

للاستزادة حول تأثر غوته باللغة العربية، نقترح كتاب “غوته والعالم العربي” من تأليف (كاترينا مومزن)، أو المقالة “غوته شاعر كوني تأثر بالإسلام” المنشورة على موقع الجزيرة.نت، ومقالة “كيف وجدت الكلمات العربية طريقها إلى لغة غوته“.

خطاب فيكتور هوغو عن البؤس

Victor_Hugo_by_Étienne_Carjat_1876

* نشر في ساقية

فيكتور هوجو ( 1802 – 1885) هو أديب وشاعر فرنسي، من أبرز أدباء فرنسا في الحقبة الرومانسية، ترجمت أعماله إلى أغلب اللغات المنطوقة. أثّر فيكتور هوجو في العصر الفرنسي الذي عاش فيه وقال “أنا الذي ألبست الأدب الفرنسي القبعة الحمراء” أي قبعة الجمال، وتعد رواية (البؤساء) من أشهر أعماله، والتي انعكست بدورها كأعمال مسرحية وسينمائية.

هذا الخطاب حول البؤس ألقاه فيكتور هوغو في الجمعية التشريعية الفرنسية، وهي المؤسسة الشرعية التي حلّت محل البرلمان الفرنسي بعد حله، في 9 يوليو 1849 (المصدر). وقد ترجمه للعربية الأستاذ (مصطفى القلعي)، وتم نشره بعد ذلك في العدد 53 من مجلة الدوحة الثقافية الشهرية، الصادرة عن وزارة الثقافة والفنون والتراث القطرية.  يقول في خطابه:

أنا ، أيها السادة، لست ممن يعتقدون أّنه بالإمكان إزالة الألم من هذا العالم، فالوجع قانون إلهّي. ولكّنني من بين الذين يعتقدون ويؤّكدون أّنه يمكننا القضاء على البؤس. لاحظوا جيدًا، أيها ّّ الّسادة، أّني لا أقول التخفيف منه ولا التقليل ولا حصره ولا الحد منه. (وإّنما) ّ أقول القضاء عليه. إّن البؤس هو مرض (أصاب) الجسد الاجتماعّي تمامًا مثل الجذام، المرض الذي كان يصيب الجسد الإنسانّي. فالبؤس يمكن أن يختفي مثلما اختفى الجذام. القضاء على البؤس! نعم، هذا ممكن! وعلى المشرّعين والحكّام أن يفكروا فيه دون هوادة. ففي قضية مهذه، بقدر ما لا يكون الفعل هو الممكن فإن الواجب يظل منقوصًا.

البؤس، أيها السادة، وسأنفذ هنا إلى صميم الموضوع، هل ترغبون في معرفة أين يقيم (البؤس)؟ هل تريدون معرفة إلى أين يمكن أن يؤول؟ إلى أين يقود، لا أقول في إيرلندا، لا أقول في العصر الوسيط (بل) أقول في فرنسا، أقول في باريس وفي العصر الذي نعيش فيه؟ هل تريدون وقائع؟

يا إلهي.. لن أترّدد في ذكر هذه الوقائع. إّنها وقائع حزينة، ولكّنها ضرورية للكشف. وإليكم، لو وجب القول، ما أفكر فيه كله، لا بد أن يخرج من هذا المجلس، وحول الحاجة التي أقدم مقترحها الشكلي، تحقيق رسمي كبير حول الحالة الحقيقية للطبقات الكادحة المعذّبة في فرنسا. أريد أن تنفجر كل الوقائع في اليوم الكبير. فكيف نريد أن برأ من الشر إذا لم نجسّ الجروح (التي خلّفها فينا)؟

إليكم، إذن، هذه الوقائع:

توجد في باريس، في ضواحي باريس التي هبّت عليها ريح الفتنة بيسر منذ عهد قريب، توجد أنهج وبيوت ومزابل حيث تختلط عائلات، عائلات بأكملها، (اختلاط) الحابل بالنّابل، رجال ونساء وفتيات شابّات وأطفال ليس لهم من الفراش والغطاء وكدت أقول من الملابس إلا أكوام نتنة من الخرق المتخمّرة الملتقطة من الوحل على زوايا الأرصفة. إنها مدن مزابل فيها تُقبر مخلوقات بشرية حية للإفلات من البرد شتاءً. هذه واقعة.

وإليكم وقائع أخرى: هذه الأيام الأخيرة، (ثمة) أديب، يا إلهي، أديب شقيّ، فالبؤس يصيب المهن الليبرالية بقدر ما يصيب المهن اليدوية، (ثمة) أديب شقيّ مات جوعًا، مات بسبب الجوع فعلًا. وقد علمنا، بعد موته، أنه لم يأكل منذ ستة أيام. هل تريدون شيئًا آخرًا أشد إيلامًا؟ الشهر الماضي، وخلال تفاقم الكوليرا، وجدنا أمّاً وأطفالها الأربعة يبحثون عن طعام لهم في بقايا جثث آدمية منتنة متراكمة في مونت فوكون (Montfaucon)!

نعم، أيها السادة .. أقول إنّ هنا أشياء وجب ألا تكون. أقول إن علينا كمجتمع أن يصرف كل قواه وكل عنايته وكل ذكاؤه وكل إرادته من أجل آلا تحدث أشياء كهذه. أقول إن مثل هذه الأحداث في بلد متحضر تلزم وعي المجتمع بأكمله، المجتمع الذي أشعر، أنا المتكلم، بأني شريك فيه ومتضامن معه. (أقول) إن وقائع كهذه ليست فقط أخطاء في حق الإنسان، بل جرائم في حق الله!

لهذا أنا شديد الاقتناع (بما عرضته) .. لهذا أريد أن يمتلئ كل من يسمعونني بالأهمية القصوى للمقترح المعروض عليهم. وهذه ليست خطوة أولى، وإنما حاسمة. أريد من هذه الجمعية، أغلبية وأقلية، لا يهم، أنا أعرف أغلبية وأقلية في مثل هذه المسائل، أريد من هذه الجمعية ألا تكون إلا روح واحدة للسير نحو هذا الهدف، نحو هذا الهدف الرائع، نحو هذا الهدف النبيل، إلغاء البؤس!

نعم، أيها السادة، أنا لا أخاطب فقط كرمكم، أنا أخاطب ما هو أكثر جدية من المشرّعين! وفي هذا الموضوع كلمة أخيرة (سأقولها) وأنهي:

أيها السادة، مثلما قلت لكم منذ حين، أنتم جئتم بمساعدة من الحرس الوطني والجيش وكل القوى الحيّة في البلد .. جئتم لتثبيت (أركان) الدولة المزعزعة مرة أخرى. فلم تتراجعوا أمام أي خطر. ولم تترددوا أمام أي واجب. لقد أنقذتم المجتمع المستقيم والحكومة الشرعية والمؤسسات والسلم العمومية والحضارة نفسها. لقد أنجزتم شيئًا مرموقًا .. نعم! هو: أنكم لم تفعلوا شيئًا.

أنتم لم تفعلوا شيئًا، أنا ألّح على هذه النقطة، مادام النظام المادّي الذي ثبتموه ليست قاعدته النظام الأخلاقي الوطيد! أنتم لم تفعلوا شيئًا ما دام خلفكم جزء من الشعب فاقد الأمل! أنتم لم تفعلوا شيئًا ما دام من هم في فورة الشباب، وهم القوة العاملة، يمكن ألا يجدوا خبزًا، وما دام الشيوخ الذين كانوا قد عملوا، يمكن ألا يجدوا مأوى، وما دام الربا ينهش شركاتنا، وما دمنا نموت جوعًا في مدننا، وما لم تكن بيننا قوانين أخوية .. قوانين إنجيلية تجمع على تقديم المساعدة للعائلات الفقيرة الفاضلة وللريفيين وللعمال والناس الطيبين.

إنكم لم تفعلوا شيئًا ما دامت روح الثورة تتخذ لها المعاناة الشعبية مساعدًا. أنتم لم تفعلوا شيئًا .. لا شيء، ما دام الرجل الشرير في هذا الفعل التتدميري، فعل الدياجير، الذي ما يزال مستمرًا تحت الأرض، يتخذ له معاونًا حتميًا الرجل الشقي.

الرواية مؤقتة أم خالدة

* نشر في صحيفة مكة

نستطيع أن نلحظ أن بعض الروايات تتصدر المراكز الأولى منذ فترة طويلة، وتمر على أجيال مختلفة يحملون لها ذات الشغف، أمثال روايات ديستوفسكي وتوليستوي.

لكن هناك بعض الروايات يخبو اسمها واسم كاتبها سريعا، أو لا تكاد تذكر بعد فترة من الزمن إلا فيما ندر، وكأن الروايات تنقسم لقسمين رواية موقتة ورواية خالدة، ما السر الحقيقي وراء ذلك؟ ولماذا تكتسب كل منها هذا الوصف؟
إن بعض الأعمال الروائية التي يهتم صاحبها للفكرة فقط وللحدث الذي تدور حوله الرواية هي بشكل أو بآخر تكتسب صفة الوقتية خلال تلك الحدود الزمنية والمجتمعية والتاريخية التي لا تكاد تخرج عن إطارها، بمعنى أكثر اتساعا، فإنها لا تتجاوز تلك الحالات والأحداث المحددة، قد تتطرق إلى جوهر المعاني الإنسانية الكلية التي نشترك فيها لكن تمركزها يظل داخل إطار زمني محدود، وحدث تاريخي مصاغ.
في الجانب الآخر أو المقابل لذلك، هناك روايات تتسع في مفهومها وأحداثها، أي تشعر بأن تفاصيلها خارج الزمن وخارج الحدود، وفي ذات الوقت هي تمر داخل أنسجتنا الروحية وتحتوينا، مهما بدا فيها أسلوب الكاتب بسيطا وسلسا، هي تجعل الإنسان وغايته وأبعاد نفسيته مركز أحداثها، وتتطرق إلى أحلامه وأمنياته وأوجاعه، كل ذلك يجعلها تكتسب صفة الخلود، فنلحظ بشكل أو بآخر أنها تكتب لنا جميعا ولا أحد مستثنى منها لأنها ببساطة تكتب للإنسان بشكل رئيسي.
إذن، فروايات كتلك في أسلوبها وموضوعها هي تتبنى عنا الوجع وتخفف وطأة الصمت، وأكثر ما تفعله أنها تحاول مرارا أن تضعنا في الطريق حين نظن أن كل الطرقات باتت مقفلة ولا مجال للمضي أكثر، تحاول أن تكون رفيقة ذلك الطريق فتعمق إنسانيتنا ورؤيتنا، وتدفعنا بقوة وجرأة للدخول في دوامة الحياة بشجاعة أكبر.
إن الرواية التي تتلخص في هذا المفهوم وهو الإنسان، تنتقل من الزمن إلى حدود أبعد منه حيث الخلود، أي تصبح نصا خالدا، فمعاناة الإنسان وضياعه تتكرر، والصيغة الروائية هي الجزء الذي يكفل لنا حق استعادة أحلامنا من جديد خلال استيعاب الكاتب لذلك القلق الذي يصيبنا جراء الحياة.
وسأضرب مثالا على ذلك، فمثلا نحن جميعنا نظن أننا قرأنا كل روايات ديستوفسكي الروائي العظيم الذي تحدث عن الإنسان، بينما نحن في الحقيقة لم نقرأ إلا الجزء الذي تحدث فيه عن خبايا الإنسان وأحواله النفسية كالإخوة كارامازوف والجريمة والعقاب، أما منزل الموتى مثلا فهي ليست بشهرة الأخريات مع أنها ملتزمة بالجمال الفني المعتاد لفيودور ديسوفسكي، هل أحد تساءل عن السبب؟ سأجيبكم بسبب بسيط، وهو أن الأخيرة «منزل الموتى» تتحدث عن التعذيب في سيبيريا، أي أنها تتحدث بتفاصيلها عن وقت وفكرة محددة تماما، بينما الأخريات تمحورن بطريقة بديعة حول النفس البشرية بإجمالها، ونستطيع أن نقيس ذلك على روايات وكتابات عديدة.
إذاً فخلود الكلمة يكون بخلود الإنسان، بمعنى أن الحرف الذي يكتبه الروائي والذي يتبنى الإنسان وحده، هو الذي يتجاوز الأفكار وحدود المجتمع
والزمن أيضا.

الحاجة وليدة الاختراع!

*نشر في صحيفة مكة 

بعد الإعلان عن الآي فون الجديد لربما أول رد فعل ظهر من الجمهور بشكل عام هو التعبير عن مدى احتياجاهم الفعلي لبعض أو كل التجديدات والخصائص المضافة له، ولا أعلم نسبة الطلب التي تمت خلال ليلة واحدة، إلا أن الكثيرين بعد المؤتمر مباشرة أعلنوا بشكل صريح عن مدى رغبتهم وحاجتهم لاقتنائه.

لكن لو نتأمل قليلاً فإننا سنستنتج بطريقة أو بأخرى أن الحقيقة مغايرة! لربما تكون تلك الحقيقة هي أننا نعيش حياتنا على الزيف وربما الوهم، وأقول ذلك لأن الغالبية ببساطة قبل الإعلان عن الآي فون لم تكن تأبه لتلك المستجدات ولم تكن تفتقدها أبداً لكن لمجرد الإعلان عنها توهموا تلك الحاجة.
وهنا يجب أن نقف قليلاً على عبارة «الحاجة أم الاختراع» فمؤخراً لم تعد الحاجة سبباً للاختراع بل الاختراع بحد ذاته يولد الحاجة! ومن هذا المنطلق لا يسعني إلا أن أتذكر أفكار عبدالوهاب المسيري وطرحه بخصوص الاستهلاك ورفع مستوى الحاجة الفردية للإنسان ليكون مستهلكاً بدرجة أولى، فيقول: إن الاستهلاك يعني التخلي عن مجموعة ضخمة من القيم الإنسانية المهمة، وهنا يقصد بالضرورة الاستهلاك حين يصبح هو المركز وهو القاعدة، أي حين يتحول العالم ليتمحور حول الأشياء المادية التي لا تتجاوز الحواس، وقد ذكر في هذا مثالاً لفكرة الوجبات السريعة كيف أنها مثال في إلغاء فكرة الجلوس مع العائلة في مائدة واحدة في ساعة واحدة لتناول وجبة الغداء التي تم إعدادها في المنزل، ويقصد هنا أن أحد أسباب عدم التقاء العائلة ما هو إلا نتيجة لمركزية الاستهلاك، أي إلغاء قيم إنسانية مهمة مقابل هذا الحل ذي الطابع المادي، لكن د. المسيري في المقابل لا يطالب بإلغاء تلك الوجبات ولا تحريمها لضرورتها.
ونلحظ هنا أن مجتمعاتنا أصبحت استهلاكية حتى أنها ما عادت تسأل نفسها عن المعنى من اقتناء المنتج الذي تستهلكه ولا أهميته الحقيقية.
ونستطيع هنا أيضاً إسقاط أطروحة المسيري مرة أخرى وهي التي يذكر فيها بإسهاب تحويل الإنسان إلى شيء عبر الثقافة المادية البحتة التي غزت العالم، وذلك خلال إزاحة الإنسان من المركزية لتحل محله السلعة، أي تصبح أكثر أهمية منه، حيث كان يذكر في أحد مقالاته بأن هذا الغزو لا يقتصر على الشرق، فهذا وهم، بل نلحظ أنها نتيجة طبيعية لمد الحضارة المادية، وذلك يعني إلغاء خصوصية المجتمعات جميعها حتى الأوروبية منها عبر فرض طابع واحد وتقاليد متشابهة.
ونستطيع ضرب مثال بسيط هنا وهو الموضة، فكيف أصبحنا لا نلبس فحسب بطريقة متشابهة بل ذلك يمتد ليشمل اللون بحسب فصول السنة، وشكل الحذاء وطول الكعب، ومن المناسب أن أذكر هنا أني قرأت ذات مرة في أحد الموضوعات المهتمة بالأزياء أن الحذاء الذي يبلغ طول كعبه كذا سنتمترا فيستحسن ارتداؤه في السوق والأعلى منه لليوميات، والأعلى للمناسبات وهكذا.
فها هو موضوع الاستهلاك يجرنا لنكون مستعبدين ويضيق من حرياتنا الحقيقية، فمن الذي يفرض على الحر ما يرتديه، وكيف يرتديه وكيف تصبح الأمور الشكلية أهم من ذوق المرء الخاص وراحته؟!
أخيرا وبعد هذا الطرح، فإن ما يجب علينا الوعي به حقاً هو أن العبودية لها أوجه عدة ومعان عدة، إلا أن أحد أوجهها يظهر بشكل مغر، حتى أن المرء ينخرط فيه دون وعيه التام لأبعاده، بينما أوجه الاستعباد الأخرى تحصل بشكل قهري.
نحن بحاجة حقاً لأن نفكر كثيراً ونتساءل دائماً قبل اقتناء وقبل اتباع أي شيء، أي في الفكرة وأبعادها، وفي السلعة وأهميتها، هل هذا ما أحبه حقاً، لماذا أقتنيه؟ أو لماذا أريده؟ وهكذا.
لأننا لا ندرك أن وهم حاجتنا لتلك السلع، وشعور السعادة الذي يصحبها شعور زائف يمنع المرء من استشعار ذلك الشقاء الجمعي الذي نعيشه، وكما قيل هو يمكن المرء من رؤية الرفاه في الشقاء، أي يضلل علينا الحقيقة، حقيقة حريتنا.

إلى صديقي في العالم الموازي

صديقي في العالم الموازي، وأعرف جيداً بأنك كذلك.
لا أعرف كيف يكون لنا أصدقاء خياليون لا نعرف إن كانوا يشبهوننا أم لا. لكن بما أننا نعيش في عالمين لا يتقاطعان سأحدثك عن عالمنا الذي لا يبدو بهيجاً حقاً إلا أننا نحاول خلق البهجة فيه بأنفسنا وعبر صداقاتنا مجتمعة.
بالنسبة لعالمنا  فلا أتمنى كثيراً أن تعرفه حتى لا تحسبني جزء منه فتتخلى عن رفقتي وصداقتي.
عالمنا عالم وحشي. لا يأبه فيه الإنسان بالإنسان.
عالم أشعر بأنه يحاول مراراً أن يسحق البسطاء أمثالي إلا أن قوة ما تحميني.
قوة لا يصح انتسابها للبشر الفاسدين. تلك القوة الرحيمة التي لا تشبههم أصلا. تلك التي تقع علينا وتُصنع فينا.
أحياناً أخشى أن أكون مسخاً يشببهم في ذلك الفساد. ربما أشببهم دون إرادة حقيقة مني. رغم أني أحاول بكل قوتي أن لا أكون كذلك لكن لا أعرف كيف يحدث أن تصيبنا عدوى الحمق والجشع دون وعينا الكامل.
لكني في ذات الوقت أتمنى لو أكف عن الشعور بكل هذا التعب المرافق لي جراء مشاهدتي مايحدث حولي وعجزي. أدرك عجزي تماما. فإصلاح العالم لن يحدث على يدي. لكن كيف أكون شخصا جيدا في مجتمع تسوده الأنانية؟! تسوده الحروب؟! يسوده القتل الجماعي؟
هل أوجاعي مترفة ياصديقي؟ حيث أنني في مأمن حتى الآن بفعل تلك القوة الآلهية من أوجاع الحرب والدمار والفقر والجوع والأمراض وشر العالم السفلي والعنف.
هل أوجاعي التي أظن بأنها تسحقني هي أوجاع مترفين؟!
أم أن الوجع هو الوجع ولايجوز لي فصله واعادة تسميته؟!
يحتار أمري ولا أفهم حقيقة ذلك. هل ستساعدني على الفهم؟
في الحقيقة لا أتمنى أن يكون عالمك يشبه عالمي أبدا. أتمنى لك عالما مثاليا.وأتمنى أن أتجاوز عالمي إليه. وأخلد إليه وأراك. هل يتنفس حولك الموتى الذين رحلوا عن عالمنا؟ هل هم أصحاء ويبتسمون؟ هل هم خالدون وفرحون؟ إن في عالمي يتحدثون عن حياة أخرى خالدة سنصير إليها إن نجحنا في تجاوز المرارة والعبث الذي يلاحقنا بالإيمان والعمل اللذين يتجددان بفعل القوة الإلهية التي أخبرتك عنها منذ البداية. تلك الحامية والمانعة والمعينة. وكل ذلك لن يحدث إلا بعد أن ننتهي من هذه الحياة المقدرة لنا بزمن معين ومحدود.
أخبرني.. هل أنتم مثلنا؟ هل أنتم تعيشون داخل اطار زمني يشبهنا؟! هل يبغاتكم الموت فجأة في زقاق الحي المجاور؟ هل تقلع الروح من جسد الذين تحبونهم جراء رصاصة همجية خرجت من فوهة متعصب مغرور ؟ هل ينتهى عمر الرضيع بخطأ من طبيب يفترض أنه يحاول حفظ روحه ابتداء؟

لاأعتقد أنك تعيش بشكل يشبهنا وإلا مافائدة أن يكون هناك عالم آخر؟

هل أصابك الحزن؟ هل تتألم لأجلنا؟ أرجوك، لا تفعل.  فليس عالمنا مكمن لذلك فقط وإن كانت المأساة غلابة في كل حين، لكن في عالمنا هناك مستودع للجمال في مصدرين أحدها روح الإنسان وعقله والآخر ذلك الجمال الذي يوجده الخالق في بدائع صنعه من حولنا، سماء وأرض ونجوم وجبال وأنهار. كيف أصف لك ذلك؟! لا أعرف. لكن أود لو أخبئ لك معي صورا وموسيقى ولوحات وأتيك بها لتستوعب ما أعنيه. ولو أن كل الصور ستكون ناقصة أمام الرائحة المستودعة في قلب الأزهار، والأمواج المتحركة في سطح البحار، والغيوم المتلونة في بطن سماء المغيب.
لكن يظل هناك سؤال يطرح نفسه ويلح على أن أسألك..
هل حقا ستشعر بالمشاعر المعقدة التي تصيب من يعيشون في عالمنا لو رأيت تلك اللوحات، وذلك الجمال الذي لا يصير هزيلاً أبداً؟!
هل أنت مثلنا تحمل بين جنبيك مشاعر ونفسية تشبه نفسياتنا سريعة التعقيد؟!
تلك التي ترى الجمال فتحزن حزن لذيذ؟ ترتوي من عطش لتصير في عطش آخر؟ يذهب عنها أرق الوحدة فتصير في أرق الباحث عن ذلك الجمال؟

لا أعرف. ولن أعرف الجواب ربما مالم آتي إليك أو تأتي أنت. وهذا كما يبدو محاط بإستحالة مطلقة للآن فأنت فيما وراء هذا الوجود الذي يصعب أن يدركه عقلي البسيط.
لا عليك. المهم الذي يجب أن تعرفه عن تلك اللوحات و الفنون والموسيقى وليست أي موسيقى بل تلك التي تعرف كيف تسترق أنفاسي وتهبط على كأنها الحل الأبدي لكل مأساة تحاط بالإنسان، أنها هي ما أجدني فيها وتخفف عني وطأة الوجع.
هي ما أودعه الخالق العظيم في الإنسان ليخلق خلالها الحياة في الأرض. هل تفهم ما أقوله؟ أظن ذلك.
سأكتفي بهذا القدر الآن علي أحاول مراسلتك في وقت لاحق.

ف. س