اسطنبول ٧: رسالة أخيرة

اقترح عليك وأنت تقرأ هذه التدوينة أن تستمع لهذه المعزوفة التركية

DSC_0914

إلى كل من تمر عينيه على كلماتي، إلى كل من تقابل روحه روح حرفي أكتب..
إن لم يسبق لك زيارة اسطنبول فتخيل الآن أن هذه المشاعر هي التي ستقابلك هناك، وإن كنت قد زرتها فأعتقد أن مشاعر أكثر تعقيداً وجمالاً مما كتبته هنا هي ما مرت عليك واستقرت في قلبك.. عن اسطنبول أكتب..

يالجمال هذه المدينة التي تجمع التناقضات فيها دون أن تبالي، هي المدينة التي تستطيع أن تلمس أنها شديدة الحكمة في وضح النهار وكثيرة الغواية في الليل. هي تجمّل فكرة التناقض للحد الذي يجعلك تتصالح مع الفكرة مثلها، فهي المدينة المتصالحة تماماً مع نفسها لربما الثقافة والجمال اللذان يرفلان عليها هما سبب ذلك التصالح. لاشيء يستطيع أن يعبث بجمالها فهي حتى وإن حاولت أن تشيخ فهي لا تملك الصلاحية لتفعل. مدينة كتب عليها أن تبقى فاتنة للأبد. كل ذلك الغرور الذي تلمسه وأنت تسير في أزقتها العتيقة هو يزيد من إدراكك عن مدى ثقتها في ذاتها، ثقتها بجمالها.

DSC_0524

كنت خلال سيري في شوارع المدينة، أنظر في بحرها الذي يعرف كيف يسيطر على كل تلك القوارب التي تركبه، وأتساءل! و أتأمل وجوه كل أولئك الأطفال التي تلفها البراءة والجمال، وأتساءل! و ألمح عاشقين يجلسان متجاورين في حديقة يتآملان المآذن ثم يطوق أحدهما الآخر بيده بينما يحط الثاني رأسه دلالاً على كتف الأول، و أتساءل أيضاً! أتساءل كيف لك يا ناظم حكمت أن تقول في أبياتك :

أجمل البحار
هو الذي لم نذهب إليه بعد
و أجمل الأطفال
هم الذين لم يكبروا بعد
و أجمل الأيام
هي تلك التي في انتظارنا
وأجمل القصائد
هي تلك التي لم أكتبها لك بعد
ياصغيري !

لربما يحق لغيرك أن يقول ذلك، مثلي أنا مثلاً! أما أنت الاسطنبولي فلا، لا أشعر أن لك الحق في ذلك. حتى أنا بعد أن شاهدت كل ماشاهدت في اسطنبول لا أظن أني لا أزال أملك الأحقية لأردد أبياتك!! لكن أتعلم يا ناظم حكمت ماسأفعله أنا، أتعرف ما سأنقله عن اسطنبول؟ وما سأقول فيها؟! سأخبر صغيري ذات يوم حين يجيء إلى الدنيا بأني رأيت أجمل البحار وأجمل الأطفال وأني نظمت أول قصيدة حب في حياتي في مدينة اسطنبول الجمال، مدينة الحب والصلاة.
اسطنبول ملهمة ومثيرة للإهتمام ليس لي وحدي بل للعابرين، والباحثين، والسائحين. وحتى الذين لا يأتوها والاهتمام يسكنهم، فمجرد النظر إليها من الأعلى، من الطائرة قبيل الهبوط والدخول سيتملكهم الإهتمام. سيفتك بهم سحر جمالها لامحالة، دون وعي سيجعل رغبتهم في الاهتمام رغبة أساسية وملحة.

DSC_0921

في اسطنبول، ستلمح في وجوه السائحين وقسماتها ذلك الحديث الذي لا نلقاه إلا بين النفس والنفس. حديث الأسرار وحديث الحب والعشق. صدقوني فأنا لا أبالغ إن قلت أن اسطنبول استطاعت أن تحتل مكانة المدينة الأولى في قلبي. هي المدينة المنطوية على نفسها ومنفتحة بذات الوقت، المدينة التي تحاول دائما أن تأخذ نفساً ونفساً آخر لتتأكد من اتجاهها ومسيرتها! هي المدينة التي تملك في قلبها الجمال والحب، هي المدينة الكاملة، التي تعرف كيف تستجيب للحياة. أما عن أهل اسطنبول فهم لا يجاملوك على حساب شيء هم إما لطفاء لأنهم كذلك أو أشداء لأن تلك طبيعتهم. لا يعرفون التصنع، إن كذبوا فهم لا يكذبون تحت قناع الصدق، يكذبون دون مراوغة. إلا أنهم لايعرفون أن غلاظة لغتهم وتراكيبها هي ماتفسد عليهم فهم الآخرين لهم. وإلا فهم أوضح من أن يكونوا غامضين.

DSC_0610

اسطنبول مدينة الإنسان والحزن، لقد كتب أورهان باموق الروائي التركي فصلاً كاملاً في روايته يتحدث فيها عن الحزن، ذلك الحزن الذي يخص أهالي اسطنبول وحدهم. إلا أن الحزن ذاك هو ذاته الذي جعلها تتسع لتفهم ماضيها جيداً وتتعامل مع حاضرها باتزان لا هي القابعة في الأمس ولا هي الماضيه للوهم. تتراوح بين شرقيتها وغربيتها لتذكرنا بأننا إن أردنا أن نكون أقوياء بذواتنا فيجب أن نتسع دون أن نضيع، ونضيق دون أن نختنق.

ألا زلت تشك في أن اسطنبول هي المدينة الأولى للحب؟ هي المدينة التي تبتسم لمن يفهمها وتتجهم في وجه من يجهل قيمة الجمال ومعنى الحب؟ أتشك لحظة في أن اسطنبول مدينة الحب والصلاة؟ أما أنا فلن أشك قط.

DSC_0850

ملاحظة: السفرهو للروح وليس للجسد فقط لذا اطلقوا أرواحكم جيداً، لتخالط أجسادكم البشر وأرواحكم السماء والطير والشجر.

 فاطمة.

0 thoughts on “اسطنبول ٧: رسالة أخيرة

  1. يقول nada:

    كل شيء قلته صحيح لانني زرت اسكنبول وتركت روحي معلقة بها شكرا لهذا الكلام