اسطنبول ٥: من آثار سليمان

سليمان القانوني وما أدراك ما سليمان! أكاذيب وحقائق وقصص كثيرة دارت حول هذا السلطان تحديداً، وخاصة بعد المسلسل المسمى بحريم السلطان.. طبعاً لم أذهب لاسطنبول للتحقق في تاريخ أحد، لكن كان من المهم أن أزور جامع السليمانية أحد أجمل العمارة الخالدة في اسطنبول.. سأعترف بشيء ما هنا، وهو أني كلما استرجعت الحضارة العثمانية ومنجزاتها شعرت بشعور غريب، مشاعر مختلطة وأحياناً متضاربة على الرغم من أن مشاعر حبي لها تغلب المشاعر الأخرى على الأرجح، لكن حين أمرر فكرة الحضارة وفكرة الإنسان وسطوته وإرادته دائماً في بسط نفوذه اتحيز للفرد واحتياجاته فأشعر دائماً بشيء كالحزن، فامتداد الدولة العثمانية كل ذلك الامتداد يجعلني أتخيل أنها لابد وأنها مارست بعض الاستبداد الذي ساعدها لفرض ذلك النفوذ. وإلا كيف أفسر قوتها ومن ثم ضعفها وانتهاءها بعقلي البسيط وعلمي القليل؟ دعوكم من هواجسي ودعونا نتتأمل في نوعية الحضارة التي خلفّها العثمانين في اسطنبول لتهدأ النفس.

خرجنا من الفندق متجهين لجامع السليمانية لكن هذه المرة بالتاكسي، أخبرنا العم العجوز عن وجهتنا فأشار لنا بأن الجامع قريب جداً لكنه لم يمانع في نقلنا، أخذ يحكي لنا خلال الطريق عن الجامع بلغته التركية بسعادة غامرة وفخر، لم نفهم كامل حديثه لكن بضع كلمات عربية أسعفتنا لفهم سياق جمله وتراكيب حديثه، إلى جانب المعلومات التي كنا نعرفها مسبقاً عن السلطان وجامعه، فكان يقول العم العجوز صاحب التاكسي بأن الجامع قد بناه المعماري سنان باشا وهو أحد أهم المهندسين في تاريخ الدولة العثمانية وهو ذاته الذي بنى في الحقيقة أغلب المساجد والقصور وأعظمها، ثم حاول أن يشرح لنا بأنه عند دخولنا سنجد مقبرة كما اسمها “تربة” تلك التي يوجد فيها ضريح السلطان سليمان القانوني.

DSC_0082

وصلنا جامع السلطان سليمان القانوني.. ويالذهول فقد كان حقاً تحفة معمارية، وجوهرة هندسية باذخة في الجمال.. كانت تتوسط سقف الجامع قبة كبيرة ضخمة تداخلت معها قبب صغيرة أعطت الجامع منظراً مهيباً جمالياً يسطو عليك، ابتدأنا الزيارة من حيث المقبرة والضريح وماحوله، مشينا قليلاً في فناء المسجد، أخذت أتأمل المكان والبناء لوقت طويل، وفي تلك الأثناء دخلنا الساحة الداخلية وعندها أخذت أراقب المدخل المؤدي لرقعة العبادة والصلاة، حيث كانت تقف عندها مجموعة من السياح الأجانب. بدأ نساء تلك المجموعة بغطاء شعرهن بقطعة من القماش، أما الرجال فقطعة القماش تلك تعطى لأصحاب الساق المكشوفة لسترها. عند تلك البوابة يبدأ كل زوار المسجد بخلع أحذيتهم ووضعها في كيس مخصص أياكان غرض زيارتهم، ثم يدخل المسلمين وغيرالمسلمين من باب واحد لا من أبواب متفرقة. يقف غير المسلمين في مساحة معينة داخل المصلى لمشاهدة الصلاة والتصوير، وفي بعض الأحيان يرافقهم مرشد يسرد عليهم تقسيمات المسجد وأسباب بنائه بهذه الطريقة من الداخل خاصة فيما يتعلق بالمحراب وغيره. في الحقيقة يتذمر البعض من فكرة غطاء الشعر وأجزاء من الجسد، إلا أن أكثر الذين تذمروا أمامي في النهاية تقبلوا الأمر.

DSC_0091

الفناءات والمباني الموجودة حول الجامع تستطيع أن تصور لنا سبب تسميته ب”جامع” السليمانية، فكما قال التاريخ أنه كان جامعاً حقيقياً فيما مضى فهو لم يقتصر ليكون مكاناً للعبادة فقط بل كان مدرسة ومكتبة، كان للحياة الروحية والفكرية والاجتماعية و حتى الإبداعية. لا أقول للحياة لأنه ذات مهام متعددة فقط بل لأنه حمل رمزية القوة الفنية للعمارة العثمانية التي تتلخص في الجمال والإبتكار قبل كل شيء، فأستطيع الآن استحضار فكرة الحبر التي ابتكرها سنان باشا خلال تصميمه لهذا البناء، فيقال أن سنان بنى غرفة تجمع الدخان الأسود المتصاعد من قناديل المسجد بطريقة ما ليصنع من هذا الدخان حبراً للكتابة، لم أشاهد هذا بعيني لكن الفكرة وحدها أذهلتني. ليس هذا فحسب بل نرى معنى الحياة من خلال طريقة البناء الفريدة للجامع، فكما أرى فإن الحضارة العثمانية قد اعتنت حقا بالجمال على إطلاقه، فلا أستطيع نسيان ساحات الجامع وأعمدته الرخامية العتيقة إلى جانب النقوش والزخارف الصغيرة والكبيرة على المآذن والقباب التي تراكمت جمالاً على جمال، كل تلك التفاصيل الملونة المزخرفة على القبة الضخمة في الداخل تثير مشاعر روحانية وجمالية عجيبة، تعير قلبك وجوارحك سمة النطق الغير منطوق خاصة خلال تجولك في أنحاء المسجد من الداخل، فأنا قد اتسعت عيني دهشة لتلك الرسومات والصبغات والألوان التي كانت كحِليّة اكتست بها نوافذ الجامع. ولا أنسى تفاصيل خط الثلث التي كتبت به بعض من آيات القرآن.
خذ مني هذا الوعد، حين ترى تلك الآيات على تلك القبة الكبيرة ستظل تتأملها بإعجاب ورأسك وعينيك مرفوعة لأعلى لفترة ولا شيء سينبهك بالوقت سوى الألم الذي سيتسلل لرقبتك دونما شعور!!
لن أسهب كثيراً في الوصف أو بعبارة أصدق لم أعد أملك من اللغة ما استطيع به الوصف أكثر، لكن أبنية وعمارة كهذه تحمل هوية عثمانية يستطيع الكل اليوم تمييزها، بالرغم من أن سنان باشا كما قيل قد استقى بعض الأفكار الهندسية لهذا الجامع من العمارة البيزنطية التي تمثلت في آيا صوفيا إلا أنه أخرج الجامع بهوية و طراز عثماني. وكأنه كتب عليه بخط عريض صنع في اسطنبول.

صلينا فيه ومن ثم خرجنا من أحد باحاته الكبيرة، فوجدنا أكشاك تبيع بعض التذكارات، وغالباً ما أحب أن اشتري من أماكن كهذه لأن النظر إلى تلك التذكارات بعد مدة يجدد ذاكرتي ويبقي على التفاصيل واضحة أمام عيني.

اسطنبول٤: دراويش | Daravish

DSC_0742

وصلنا أخيراً لليوم الذي حضرت فيه مشهداً تصوفياً كاملاً حدث بجله أمام عيني، وهو عرض “آلدراويش”. قبل وعيي بالموسيقى التركية والتصاقها بي لم أكن لأحفل كثيراً بالتصوف والدروشة، إلا أن سحرالموسيقى التركية كان يفتك بي فتكاً، فأكاد أجزم أن كل الموسيقيين الأتراك الذين أستمع إليهم موسيقاهم تصوفية وإن نفوا ذلك. فيكفيني أن أدخل معها في حالة من الصدق والاعتراف يكاد لا يمرعلي في وقت آخر. هي قادرة على نزع الكثير من الأوجاع المتسربة في أعماقي وذلك بتصفيتها مما يشوبها حتى تظهر على السطح فأعرف أن هذه الأوجاع هي الحواجز التي تمنع عني المطر، وأحياناً الحب والحياة.

DSC_0749

 

بيّتُ نيةً عميقةً بأني هذه المرة لو ذهبت لاسطنبول لن أتنازل عن حضور عرض للدراويش بأي شكل، وحدث ذلك بعد أن اتفقنا أنا وأخي وأختي على الحضور وخاصة بعد أن تأكدنا من أن مكان العرض لايبعد كثيراً عن الفندق الذي نزلنا فيه. كان العرض يبدأ في الساعة ٧ تقريباً، لهذا بعد أن أنهينا جولتنا في السوق، مررنا للجلوس على شرفة المقهى المفضل “حافظ مصطفى” لشرب القهوة. والذي يقع في منطقة امينونو مقابل محطة الترام، والمطل على جزء من البحر. يكمن جمال تلك الشرفات بأن لازجاج لها، فهي عارية إلا من هواء البحر الذي يقبل عليك ويلطف أجواءك حتى يكتمل جمال اللوحة بكوب القهوة أو الشاي مع الكنافة، التي لا تستطيع مقاومتها، لها وجه ذهبي مكشوف و مزين ببعض الفستق ما إن تقبل عليك حتى يسيل لعابك وإن كنت في حالة شبع. هي الإغراء شئت أم أبيت. بعد أن انهينا فنجان قهوتنا حاولنا مرة أخرى أن يرافقنا أبي وأمي لحضور عرض الدراويش إلا أنهما أصراعلى العودة للفندق بحكم أن عرض كهذا لا يتوافق مع اهتماماتهما ولا مع يقينياتهما، افترقنا في تلك اللحظة ومضينا أنا وأختي وأخي صوب القاعة. وصلنا لمقر العرض، دفعنا التذاكر، وبعد دخولنا القاعة اكتشفنا أننا الوحيدين العرب، أما الأغلب فكانوا أجانب وقلة منهم أتراك. انتظرنا بضع دقائق ومن ثم دخلت الفرقة المكونة من عازف ناي ومنشد وعازف بزق و طبّال. بدأوا بالإنشاد والعزف بعدم حضور الدراويش أو الراقصين لمدة قد لا تتجاوز ١٥ دقيقة. خرجوا من المكان إلى أن دخل كبير الدراويش الذي لا أعرف كثيراً إن كان له اسم، بدأ بطقوسه العجيبة وهي فرش قطعة قماشية على الأرض وبعدها انحنى ثم خطى بعض الخطوات للوراء وتوقف، ودخل بعده ٣ آخرين، بدأ كل منهم ينحني للآخر. بعدها بدأ العازفون العزف ومن ثم ابتدأ دوران الدراويش يأخذ حيزه في فضاء تلك القاعة ووسط ذلك الجمهور الذي بدأ بالتصوير. كنت أنظر إليهم باندهاش ولاحظت أن بعض حركات اليدين تبدأ لتتجه إلى الأعلى ومن ثم إلى الأسفل، ثم يقوموا بوضعها بقرب الرأس، حركات لم تكن مفهومة بالنسبة لي. في الحقيقة أنا تعمدت عدم قراءة أي شيء عنهم والذهاب بجهلي للحضور وذلك حتى يتسنى لقواي الخفية ناحية الجمال و الإنسان لتتوه في هذا الدوران وتحاول أن ترصد الشعور البكر. كنت مع ذلك الدوران أفقد احساسي بمن حولي شيئاً فشيئاً ثم بالزمن. خشيت لوهلة أن أكون قد وقعت في فخ تنويم مغناطيسي أو شيء من هذا القبيل، فاحتار الشعور عندي إلا أن الحقيقة هي أن التجربة زادت من يقيني بأن الإنسان كائن يميل بطريقة أو بأخرى لأن يخترع مخرجاً -أقرب مايكون وصفه بأنه تعبدي- لنفسه ليموت خلاله أو يحيى، وكلٌ بحسب اعتقاده. وهؤلاء بدورانهم هذا يعتقدون أنهم متجردين وخارجين تماما من دنيا العفن. لم أكن أفهم الكثير من الطقوس التي يفعلونها ماقبل الدوران وأثنائه ومابعده. لكن هم يلبسون الأبيض دلالة على طهارة الكفن الذي نُلف فيه آخراً قبيل لقاء الله، ولأن هذا الطقس إعتقاد بأنه لقاء مع الله فاختاروا له الأبيض، أما بالنسبة لتلك القبعة الطويلة فلونها الترابي يشير إلى التراب والقبر، أي الزوال. هو طقس يحاول المتصوفة به إقناع أنفسهم أنهم قد وصلوا بذلك إلى قتل الغرور وأنهم قد اتصلوا بالأبدية التي لا تتعلق بحياتنا الواقعية الزائلة، بل تلك الخالدة. والانفصال هنا ثلاثي أي مرتبط بالعقل والروح والجسد. أي سكون كل شيء مقابل وصل مع المحبوب أي الاله.  فهم يطبقون اعتقاد مولاهم جلال الدين الرومي بأن الأرض ترقص لهذا يدورون.

DSC_0788

DSC_0774

خرجنا من هذا الحدث بروح أقرب ماتوصف بالهدوء. فطابع الموسيقى التصوفية هادئة رزينة وتحكمها قواعد التصوف والمتصوفة. وبعد خروجنا مباشرة توقفت عند “علي اسطه” بائع الدندرمة الذي أعادني طفلة في ثانية بحركة بهلوانية خفيفة أخرجت على أثرها ضحكة، كانت ضحكة سعيدة دون قرار للسعادة.

 

اسطنبول٣: رحلة البسفور

في التخطيط للسفر هناك من يفضل وضع خطة مجدولة ومرتبة جداً بكامل تفاصيلها، وهناك من يفضل وضع النقاط الرئيسية ومن ثم يضيف ويحذف، يقدم أماكن على أخرى بحسب ما يكتشفه ويجد أنه الأفضل حال وصوله المكان الذي يذهب إليه. هناك من يسافر لأجل الاستجمام والاسترخاء، وآخرين لأجل صنع مغامرات جديدة، وثلة لاكتشاف حياة أقوام آخرين. وأحسب نفسي أني من الصنف الأخير ممزوجة بالأصناف التي قبلها. فأنا أسافر للبحث عن المكنون والمستور.

DSC_0518

في أحد الأيام ونحن نسير متمهلين في ساحة السلطان أحمد أوقفنا رجل ما يتحدث العربية بطريقة مفهومة جداً يحاول ترغيبنا برحلة في البسفور عبر قارب بحري، فتح لنا خارطته و أخذ يشرح لنا النقاط التي سنمر بها وقد كانت كلها مناطق تاريخية ومباني عريقة إلا أنه خلال شرحه ذكر لنا أننا سنمر بمحاذاة قصر “نور ومهند” المسلسل التركي الأول الذي عرض على قناة أم بي سي ثم اكتسب شهرة مهولة في الخليج العربي ويقول البعض أنه السبب الأول في توجه الخليجين للسياحة في اسطنبول وأرجاءها.. المهم أني لمجرد سماعي لاسم نور ومهند لم يسعني إلا أن ضحكت، فلا ألومه لتنويهه على قصر مهند ونور أكثر من مرة، فهيأتنا ولهجتنا تدل أننا من الخليج وبعض الخليجيين لا يطؤون أرض اسطنبول إلا لأجل هذا القصر. لكنه طبعاً لن يعرف مطلقاً مدى شعوري أنا تحديداً بالإهانة من تلك النظرة وذلك التصور المرسوم في ذهنه فنور ومهند لا يعنيان لي مطلقاً ليس لأني لا أعطي قدراً للحب، بل لأن الحب في تصوري الخاص أعمق بكثير من تلك الصورة السطحية.. في الحقيقة أن هذا الرجل حاول مرارا أن يكسبنا كزبائن لكننا لم نفعل، ذلك لأن سعر التذكرة المدون في الإعلان بلغ حوالي ٢٠ يورو، ومن المستحيل دفع هذا المبلغ من قبلنا، فماكان منه إلا أن وعدنا بسعر تذكرة أرخص حيث أصبحت بعد محاولات ٢٥ ليرة تركية، ومن حسن حظنا أن الوقت آن ذاك لم يكن مناسباً لركوب القارب، وبعدها بأيام اكتشفنا أن التذكرة لا تزيد قيمتها عن ١٠ ليرات تركية !!

DSC_0524

وياللمصادفة ففي اليوم الذي قررنا فيه ركوب البسفور، حلت بعض الغيمات التي حجبت عنا الشمس، كانت ودودة معنا جداً، أظن أن جو اسطنبول مثلها يفاجئك كل لحظة فلا تكاد تتأقلم على شمسها وحرارتها حتى تأتي بعض الغيمات لتقف فوق رأسك ، وترسل معها نسمات باردة وكأنها تريد أن تقول لك مهما اتعبتك الشمس فأنا هنا بين وقت وآخرلأعتني بك وأهيء لك جواً يليق بالمكان الذي أنت فيه لنترك فيك الذكرى الأجمل، حقاً فقد فعل الجو ذلك بنا حيث أنه كان بديعاً جداً.. كانت جولة البسفورفي تلك الأجواء مذهلة للغاية.. لم يكن قارباً ولم تكن سفينة ضخمة، كانت سفينة صغيرة لا تحمل على متنها أكثر من حوالي ٤٠ راكباً. أخذنا مواقعنا في الدور الأعلى منها لنشاهد كل شيء عن كثب وحتى تكون الرؤية أكثر جمالاً. خلال الجولة كان ازدحام السفينة مزعجا بعض الشيء إلا أن ذلك الإزدحام لم يمنعني من مراقبة واستشعار جمال اسطنبول والتفكير في كل تلك المساجد والقصور والقلاع، وسرد تاريخ بعض السلاطين والعظماء الذين مروا خلال ذلك البحر في ذهني، أولئك الذين عمروا تلك الأرض، محمد الفاتح، مراد الثاني، سليمان القانوني، وكمال أتاتورك، ولا أنسى المهندس المعماري سنان باشا!! فاسطنبول تتجدد باستمرار لكنها تبقي على حلتها القديمة شامخة. ترد بها وعبر تاريخها وحضارتها في وجه كل أحد يحاول أن يهزأ منها،غير آبهة.

DSC_0538

ذلك التاريخ العريق الذي استحضرته ذاكرتي وأنا أشاهد قصر دولمابهجة الذي سكنه آخر السلاطين العثمانيين، وغيره من المساجد، تكامل مع صوت الآذان الذي أجبر صاحب القارب على وقف الموسيقى التي كانت تحاول أخذي للواقع كلما سرحت بذهني عنه. كان من الصعب جداً علي أن أراكب تلك الموسيقى مع ذلك التاريخ، فذاك الصخب لا يتناسب أبداً مع وجه الفاتح الذي يطفوا أمام عيني وأنا أشاهد أحد القلاع التي أظنها له. أنا لا أنتقد الموسيقى بشكل عام، لكني أنتقد تلك الموسيقى تحديداً التي ابتعدت كثيراً عن العراقة والتاريخ والأصالة فلم تلعب فيها آلات كالقانون والبزق مثلاً فلو كانت كذلك فلن يزعجني حينها صوتها ووجودها على العكس فلربما تقدمت إلى صاحب القارب بشكر خاص على صنعه مزاجي التاريخي بامتياز. ومع ذلك فأكثر وأجمل مالفتني هو أنه بمجرد أن بدأت تلك المآذن رفع صوتها صمتت كل الأصوات الأخرى وانتهت مؤقتاً. أدهشني ذلك الفعل حقاً خاصة وأنه تكرر في أكثر من موقع وأكثر من مرة. صوت الحق أعلى، صوت الحق أبقى.

DSC_0436

لا أعرف لو كان أحد ضمن كل أولئك السياح الذين صاحبونا في تلك الرحلة قد استرجعوا التاريخ مثلي، وشعروا بالخجل الموجع مثلي.. لكني فعلت.

اسطنبول٢: آيا صوفيا العظيمة

حين أردت أن أكمل الكتابة عن هذه المدينة الجميلة بعد موضوعي الأول “مجرد استكشاف” تنبهت لحاجتي لرفع مستوى لغتي أكثر، فاسطنبول هي المدينة التي لا يجب الحديث عنها بلغة بسيطة بل معقدة تشبهها، هي المدينة الصاخبة الرزينة في آن واحد، هي تلك التي تغريك بشرقيتها ثم تعود لتقول لك انتبه فأنا لم أكن بليدة للحد الذي جعلت شرقيتي تحاصرني وتردني لأرذل الزمن، بل أنا بين الغرب والشرق، بالبناء والتغيير. استثارت اسطنبول الكثير في داخلي، منها لغتي وعاطفتي بشكل كبير بطريقة تكاد ماتكون عنيفة و أظنها إلى الحد الذي جعلني متيقظة طوال الوقت، لأعيد شروح تاريخية، وحضارية وانسانية في داخلي.

DSC_0560

في هذا اليوم كنا قد قررنا زيارة آيا صوفيا، فكنت قد بحثت قبل سفري لاسطنبول عن طريقة اشتري بها تذاكر المتاحف دون أن أضطر للوقوف في مسار طويل قبيل الشباك لأجل تذكرة، وخلال بحثي وجدت أن أسهل الطرق هي شراء الميوزيم باس، الميوزيم باس عبارة عن بطاقة تستطيع بها الدخول لأكثر من متحف منها آيا صوفيا والتوب كابيتعمل لمدة ٣ أيام من استخدامها.. أعجبتني الفكرة جداً وقررت شراءها من اسطنبول حال وصولنا، وبحسب ماجمعته من معلومات عنها فإنها متوفرة في بعض الفنادق، لكن لم يكن الفندق الذي نزلناه ضمن تلك القائمة، سألنا كثيراً عنها ولم نستطع تحديد مكان شراءها بالضبط. وحال وصولنا لساحتها اكتشفنا أن شراء البطاقة أسهل مما نظن، فشراؤها كان عن طريق ماكنة  والجيد أن هناك مايقارب ٤ أجهزة أشبه ماتكون بأجهزة الصرف الآلي لتشتري منها البطاقة، وفعلاً لم نحتاج للوقوف طويلاً من أجل تذكرة.

عند الدخول لآيا صوفيا وبعد تمرير التذكرة يحدث مباشرة إجراء روتيني وهو التفتيش الشخصي، أي مرورك في جهاز مع وضع الحقيبة في جهاز آخر. تقدمت مباشرة بعد ذلك التفتيش إلى كشك لاستئجار الجهاز الصغير الذي يزودك بالمعلومات التاريخية اللازمة باللغة التي تريدها، يعمل عن طريق وضع رقم الأماكن المعنونة بها زوايا المتحف و الأجزاء التي تريد أن تعرف ماذا ترمز أو كيف بنيت أو من بناها. فوراً بعد كتابتك الرقم، يجيبك الجهاز مباشرة ويعطيك نبذة مبسطة عن الجزء أو المكان أو الرسمة بأسلوب أقرب مايكون إلى السرد التاريخي القصصي. لا أعتقد أن باستطاعتي دخول أي متحف دون استئجار ذلك الجهاز وكأني بذلك أؤكد على رغبتي بالتواصل مع السابقين، ذلك الوصل الذي لن يحدث. فأكتفي بتمرير المعلومات لمن حولي مع تدوين مايثير إعجابي وتساؤلاتي لأستزيد لاحقاً. 

DSC_0169

دخلنا الأعجوبة الحضارية آيا صوفياأخيراً، وياللدهشة !! كأني كنت أشاهد معنى التعايش بشكل جلي، فتلك القبة الكبيرة التي تعتبر جزء من الكنيسة قد تعانقت مع المآذن التي مثلت الإسلام بكل ألفة، تساءلت نفسي: ترى متى حدث كل هذا التسامح بين الأديان آخر مرة؟ لا أكاد أكون واثقة من كل ما أعرف عن التسامح، إلا أني شعرت فيه داخل آيا صوفيا، بقي المشهد عالقاً في ذهني إلى أن خطفتني الكتابات ومن بينها الله، و الرسول صلى الله عليه وسلم وتتوسطهما الصور والرسومات التي مثلت الكنسية بشكل واضح، رسومات جميلة للغاية في دقتها وألوانها. وحين أدرت وجهي فإذا بأسماء الصحابة الموجودة حول القبة تعانق مدامع العين، تلك التي كتبت بخط عربي باذخ الأناقة.. كانت الصورة بكاملها عظيمة لا يستطيع وصفها رائ مهما امتلك من بديع اللغة وجواهر الحديث، فالذي يحدث هو حضور الروح وصلاتها التي تختلف درجة سكونها وانفعالها من شخص لآخر نحو الجمال.. حين وقفت في وسط المتحف تخيلت بأني أقف موقف محمد الفاتح والفرق أنه وقف هناك موقف حق وموقف تسامح، أما أنا فطأطأت رأسي خجلاً منه، لكوني أظن أن الإنسان منحاز دائماً فراودتني نفسي بسؤال: إلى أي شيء أنت منحازة هذه اللحظة! لكن سرعان ماحملت قدماي حتى لا تعرقل أفكاري مشاعرالسكينة داخلي لأكمل جولتي في الجزء العلوي الذي كان لايقل جمالاً عن الجزء السفلي بل التأمل في كل شيء خلال الصعود.. الممر، النوافذ، التفاصيل، كل شيء زاد من إعجابي بهذا البناء الذي امتزج بشكل عجيب بين حضارتين، دون أن تخدش حضارة أختها، تأملت الأعمال الفنية المصنوعة من الفسيفساء ومن ثم خرجت، خرجت وأنا متشبعة تماماً، متشبعة جمال وأفكار.

انهيت رحلتي في آيا صوفيا العظيمة وليتها لا تنتهي.. فقد أثارت إنسانيتي حتى أني شعرت بسلام يحط في قلبي وأمل بأن التسامح والتعايش ليسوا أحلاماً أو أوهاماً بل مواقف قد تحدث يوماً كما فعلها أقوام آخرين.

بعد آيا صوفيا ازدادت شهيتي لزيارة المتاحف واحداً تلو الآخر، فلم انتظر لليوم التالي حتى أزور القصر العاليتوب كابي، أخذتنا أقدامنا حيث القصر، كنت أسير متأملة في الأسوار والحدائق إلى أن دخلنا المتحف ويبدو أننا دخلنا من بوابة كانت الأقرب لجزء “الحريم”. بشكل عام لا تضيرني كثيراً تلك التفاصيل التي تتحدث عن تاريخ حياة السلاطين الخاصة وزوجاتهم، لكن ما أثار دهشتي التفاصيل على الجدران، والنقوش، والآيات التي زينت بها الممرات المؤدية للقصر الداخلي كانت أعجوبة في الجمال. قصر ضخم لا تعرف بدايته من نهايته. تسير في الأروقة إلى أن تتوه، متاهة الجمال تأخذ بعضك وتترك بعضك في أروقة أخرى. هذا ماكان عليه قصر التوب كابي. إلى أن اتجهنا قاصدين الجهة التي احتفظ العثمانيون فيها بأجزاء مادية وقطع تعود للرسول ولصحابته، كالسيوف وغيرها. لا أكاد أصدق الإزدحام الشديد الذي كان على تلك البوابة، سمعت أحد الأتراك يخاطب من بجانبه ويقول “ملات ملات” ثم يرفع من نبرته “سبحان الله” وأخيراً يتمتم بصوت خفيض “صلى الله على محمد” من نبرته تسمع دهشته المختلطة بروح امتلأت خشوعاً، تلك الدهشة الي كبرت فيه بفكرة أنه برغم اختلافنا و تعدد توجهاتنا، ومذاهبنا، إلا أننا جميعنا اتفقنا على تلك الزيارة ووقفنا لأجلها طويلاً. ثم بمجرد أن دخلنا حتى شعرنا بقدسية المكان، ليس لأجل مافيه من قطع، بل ربما حديث ذلك التركي خلال انتظارنا وعدد الأصوات المصلية على الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن في الداخل هي ما أثارت ذلك السكون. أدهشتني الأجزاء والقطع الموجودة إلا أن السؤال الذي ظل عالقاً في ذهني هو، هل كل ذلك حقيقي؟ وكيف استطاع العثمانيون جمعه والاحتفاظ به منذ ذلك الزمن البعيد!!

اسطنبول١: مجرد استكشاف

رحلتي إلى اسطنبول كُتب لها ذلك دون تخطيط مبكر، كان القرار لها وليد لحظة وربما يستحسن مني أن أصف تلك اللحظة بالجليلة، حجزنا التذاكر ومن ثم الفندق وباقي التفاصيل تركناها لحين وصولنا، فالمدن التي تشبه اسطنبول لا تحتاج لنختلق  لها حياة تناسبها، هي تزرع فينا الحياة، هذا ما آمنت به. كل ما احتجت له حقيبة تتسع لملابسي الملونة وكاميرا ودفتر وكتاب و الصحبة طبعاً وذلك يعني عائلتي الصديقة.

DSC_0105

كانت الرحلة في أول أيام عيد الفطر ١٤٣٥، ولا أظن أني هنا بصدد الحديث عن تراتيب العيد، كان وصولنا لاسطنبول حوالي الساعة الواحدة ظهراً وهذا يعني أننا لم نحتفل على طريقة أهلنا في جدة بتاتاً. بعد الوصول وتخطي إجراءات الدخول والعفش، كان يجب أن نجد تاكسي ليقلنا من المطار إلى الفندق، وخلال طريقنا كالعادة تباهت اسطنبول أمامنا ببحرها الممتد على طول الطريق، بحرها الذي يخطف قلوب العابرين بها لمنظر القوارب والسفن التي تسير فيه وهي بذلك تكوّن  صورة اسطنبول الأولى في أذهانهم، تماماً كما فعلت بي. في هذا اليوم كانت اسطنبول في إجازة، وامتدت تلك الإجازة لعدة أيام، كانت كلها تحتفل بالعيد لكن على طريقتها، فلم أشاهد محفلاً خاصاً، لكن كل مالفتني هو الإزدحام الشديد في كل اسطنبول دون أن استثني منها شارعاً أو زقاقاً واحداً، هذا وإن عكس علي بشيء فقد عكس مظاهر الحياة في اسطنبول حتى شعرت بها تهديني حياتها.

DSC_0042

كنا قد قررنا سلفاً أننا لن نسمح للنوم أن يأخذ بقية يومنا بعد وصولنا للفندق بالرغم من أن أعيننا لم تذق طعم النوم منذ اليوم الذي قبله. لكن لا يجب النوم على مسافر في ساعات وصوله الأولى بل كل مايجب فعله هو الاكتشاف محاولاً بذلك تبادل الآلفة بين شوارع المدينة كزائر وبين روحه. فكان يوماً استكشافياً بامتياز، قررنا اكتشاف اسطنبول بالمشي على أقدامنا، كان المشي أحد الطرق الأسهل لاستشعار الحياة التي تعيشها اسطنبول، فكم هوجميل أن تمشي في شوارع ممتلئة بغيرك من المشاة، يختلفون في طريقة لباسهم ويجتمعون على أن يكونوا ذو ألوان، شعور الحياة لا يكتمل إلا حين تجد الأشخاص حولك ملونين، فكأن اسطنبول بذلك صارت حدائق ذات بهجة. خرجنا من الفندق الذي يقع في المدينة القديمة وتحديداً في منطقة (لالالي) قاصدين المسجد الأزرق، لم نحمل أي خارطة معنا لتدلنا، كان سؤالاً واحداً وجهناه لأحد العاملين في الفندق: أين تقع ساحة السلطان أحمد؟ فكان الجواب هو: المشي كيلو واحد تقريبا من هذه الإشارة بشكل طولي. منطقة لالالي تجارية حيث كان الفندق الذي نزلنا فيه محاصراً بأسواق الجملة من كل مكان وتحديداً الماركات التركية، ربما هي منطقة جيدة ينزل فيها عشاق التسوق والشوبينق. لكن ليس في العيد طبعاً فقد كانت المحلات التجارية مغلقة في تلك المنطقة طيلة الثلاث ليالي التي سكناها هناك. خلال طريقنا لساحة السلطان أحمد شهدنا المقاهي والمطاعم والبائعين الذين يجلسون على الأرصفة ولا أنسى بائعي الدندرمة – البوظة التركية- فبائعوها وحدهم قصة لا تنفصل عن الحياة. فخفة اليد والعرض البهلواني الذي يفعله أصحابها يرغموك على استشعار لذة الدندرمة قبل تذوقها فعلياً. هم يصنعون لك البوظة في قالب الضحك والسعادة.

DSC_0009

مشينا طويلاً و لحظة مرورنا بمحطة الترام التي تقع قبيل ساحة السلطان أحمد وبعد منطقة لالالي، توقفت. توقفت للحظات أتأمل الترام. فمساراته قد تحيرك، وتجعلك تتساءل كيف استطاعوا ذلك؟  اسطنبول شوارعها ضيقة وقديمة وخاصة منطقة كمنطقة السلطان أحمد هذا إلى جانب مرتفعاتها التي بدت في بادئ الأمر معضلة بالنسبة لي وأنا أفكر في طريق الترام و القطار، لكن رغما عن كل تضاريس اسطنبول الصعبة استخدم الأتراك الحل الأمثل والأنسب لتخفيف الازدحام المروري بإنشاء سلسلة الترام، ولم يكن تراما عاديا بل هو من النوع الجيد والحديث، كان هو الحل الذي أغنى الكثير من الناس عن اقتناء سيارات خاصة.

DSC_0007

أخيراً وصلنا لساحة السلطان أحمد حيث اجتمع جمال المسجد الأزرق بمآذنه الست وآيا صوفيا بقبتها الضخمة المهيبة، كان مجرد النظر نحوهما عن بعد له شعور قدسي خاص. تلك الساحة المكتظة بالناس تجعل اللقاء والصلاة والحب والجمال أشياء تترآئ أمام عينيك وتتداخل فيك. وقتها تمشي وابتسامة تعلوك وخشوع يلف روحك فأنت تقف على مشارف الجمال. في تلك الساحة تسكن الحياة الدينية والدنيوية مجتمعة، حيث تسمع أصوات بائعي الخبز التركي “السميت” متداخل مع صوت الآذان، وبائعي الفواكة كالبطيخ يتجولون بعرباتهم يستحثونك لتشتري منهم. وما أن تصل أمام عظمة المآذن بجمالها وأصواتها حتى تتشرب روحك الجمال وتتنفسه وتسري القشعريرة داخلك، فاسطنبول دون مساجدها وعمارتها القديمة هي لاشيء. تأخذك الرهبة في لحظات كتلك وتخالجك الكثير من المشاعر التي لا تستطيع تفنيدها في وقتها.. لكن كل تلك المشاعر تحديداً هي صحيحة بالضرورة فكما قيل الفن ابن الدين. ربما تلك المشاعر هي رد فعلنا تجاه الجمال، أي ماقال عنه كلايف بأنه الانفعال الجمالي، الذي لا يوجد له تفسير غير أنه النشوة، والشعور العميق الذي يجمع كل الأعمال الفنية، فمهما اختلفت في بنيتها السطحية هي تتحد في جوهرها.

ينتهي يومنا الأول هنا بغروب شمس اسطنبول أي حوالي الساعة ٨ والنصف، انطلاقا من تلك اللحظات لأيام أخرى أكثر جمالاً.

الفن يأبى الخضوع

*نشر في صحيفة مكة

مع كل ما يحدث من أحداث في العالم..حرب ودمار وقتل، دماء وأشلاء، إلا أن الفن عصي على الموت، يأخذ مواقعه بدقة متناهية، نستطيع أن نلحظ ذلك بجلاء في مواقف بعض الشعوب خلال عرض مواقفها تجاه الحصار والحرب على غزة، فكم من المظاهرات التي قامت حول العالم واستخدمت فيها الطرق الإبداعية الفنية في عرض مواقفها، آخرها كان موقف المتظاهرين الذين جلسوا داخل صناديق صغيرة جدا في لندن. كانت الفكرة من صغر حجم الصناديق أنها تعكس معنى الحصار المفروض على غزة منذ سنين، هذا إلى جانب كلمة غزة التي كانت مصنوعة بطريقة أشبه ما تكون أبوابا حديدية كالسجون والمعتقلات.
يشرح علي عزت بيجوفيتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب الفن بأنه عالم الصدق الجواني. كما يشير الكثير من الفلاسفة إلى أن الإبداع هو جوهر الفن وهو التمييز بين الخلق والتقليد. وحتى إنهم حين أرادوا إقران الإبداع بشيء فإنهم قرونه بالفن وليس بالعلم، وذلك لأن وظيفة الإبداع الفني هي الارتقاء بالعقل البشري ونقله من طور إلى طور فقط عبر التصور والبديهة.
إن الإبداع الفني أصبح هو المتصدر والمتحدث الرسمي عن الأفكار الجوهرية للأفراد، بل حتى الجماعات، هو الذي لا يحاول أن يتبع أي إيديولوجية محددة، لهذا تحارب بعض المجتمعات الديكتاتورية الفن والإبداع بكل إشكاله، لأنه بشكل أو بآخر يأبى الخضوع. قد لا يكون الإبداع الفني خلقا جديدا كليا، بل هو إعادة التأكيد على الأفكار، على مبادئ إنسانية مر على تأكيدها الكثير من العظماء. نستطيع أن نقارب هذه الفكرة بالمظاهرة التي أشرت إليها في بداية مقالي -جلوس المتظاهرين في صناديق ضيقة – أشار العمل إلى فكرة جوهرية إنسانية يكررها الإنسان في كثير من الأعمال الفنية سواء كانت أدبية أو تشكيلية. هي نفسها التي كتب عنها علي عزت بيجوفيتش حين ذكر أن كمال الفن هو أنه يناسب أي عصر، ممثلا بذلك فكرة الكاتب المسرحي العظيم لو أنه كتب مسرحية فصلت بينه وبين كاتب عظيم آخر قرونا فإن الأخير يستطيع إكمال العمل الأول. وقد قارن هذه الفكرة بالعلم حين سأل: هل نظرية «أرسطو» تستطيع اليوم أن تقف أمام نظرية «نيوتن» في الجاذبية؟ يقصد بذلك أن النظريات العلمية قد ينسخ بعضها بعضا بعكس ما يحدث في الفن. وهذا ما جعله يقول إن العلماء ينتمون لعصورهم فقط، أما الشعراء – ويقصد بذلك الفنانين بشكل عام- فينتمون لكل العصور.
ولأن الفن ضرورة روحية كما ذكر كلايف بل فإننا نرى أنه في كثير من الأحيان وإن تضمن العمل الفني موقفا تجاه الحياة فهو يطالب بأن تبقى الروح والعاطفة بعيدة كل البعد عن الوجود المادي، وذلك حتى يتسنى للانفعال الجمالي المحض أن يقوم بعمله تجاه الفن في داخلنا، أي لتفنيد العمل الفني الجيد من غيره بفعل ذلك الانتشاء الذي أشار له كلايف حين قال إن الفنان تكفيه النشوة فلا يجب عليه أن يكترث بالبعد الزمني. إن الفن في شكله العصري الحديث قد تطرق له البعض على أنه لا يتجاوز الصناعة الفنية، أي إن الفن لم تعد فيه روح الفنان الخاصة، بل تميل هذه الفكرة أكثر لتصف الفن بأنه سلعة في ظل المادية أكثر من أن يكون فنا، لكن البعض الآخر طبعا ينفي ذلك لكنه يصر على أن يكون الفن هو انعكاس لأفكار الواقع وتصويرها. أما فلسفة كلايف بل وعلي عزت بيجوفيتش فتتفق على أن الفن رؤية جوانية وانفعال، وهو الذي أسماه كلايف بل «الانفعال الجمالي» الذي تشترك فيه جميع الأعمال الفنية، أي في جوهرها مهما اختلفت في شكلها السطحي. كما أكد كل من علي عزت وكلايف أن الفن يعتمد على خبرة الفنان الخاصة، ومعاناته، وبهذا ينفيان تقريبا تداخل العلم والمعرفة في جوهر الفن.

الكوميديا السوداء

*نشر في صحيفة مكة

لغة الكوميديا أو الفن الساخر لغة تترجم نفسها، لا تحتاج لمعجم لتقارب في معانيها، هي اللغة التي تشرح الوجع بشكل خفي، وتحلل أعمق المواضيع بصورة رمزية، لكن ما نجده متداولا اليوم بوصفه كوميديا هو ليس سوى فن ساذج يريد تغيير معنى الكوميديا الحقيقي، هو التعدي على الآخر بصورة مستفزة وغير مقبولة، ونستطيع أن نرمز لهذا النوع من السخرية بأنه «الاستهزاء»، وليس هذا من الفن في شيء سوى أنه لون من ألوان الضحك..يقول الدكتور غازي القصيبي «اعلموا أيها القراء الكرام أن السخرية ثلاثة أنواع: السخرية من الذات وهي سخرية المتواضع، وسخرية من الأقوياء وهي سخرية الشجعان، والسخرية من الضعفاء وهي سخرية الأنذال».
نستطيع ملاحظة نمو هذا النوع من الفن –الفن الساخر- الواعي في المجتمعات التي تمتلىء فيها أفواه أفرادها ماء فلا هي تبتلعه ولا هي قادرة على لفظه. يذكر أن فنان الكاريكاتير السوري علي فرزات حين عرض لوحة له تفسر بشكل أو بآخر شكلا من أشكال السياسة العراقية في معرض باريس في الثمانينات، طالب السفير العراقي بنزعها، واحتجاجا على ذلك وقّع عدد من الفرنسيين خلف تلك اللوحة دفاعا عن الفنان ودفاعا عن الفن «الساخر».
إن الفن الساخر يشبه في طريقته الكشاف الذي يستخدم في المناجم ليلقي ضوأه لاستخراج ما هو خفي، وهذا ما تحدثه السخرية فهي تلقي الضوء على عيوب المجتمعات، عن بؤس الواقع والحياة وما فيها من مشكلات أخلاقية، في اللحظة التي قد تكون ظاهرة ومتفشية ولكنها مستورة بستار ما، فيأتي الفن الساخر للحديث عنها بجرأة وجدية بين قوسي الهزل، حتى نجد أنه لا يستدعي فينا الضحك بقدر الرغبة في البكاء.
بحسب ما قيل عن هذا الفن، فإنه أحد سبل المقاومة، مقاومة اضمحلال القضايا وذوبانها، ومقاومة الأوجاع، حيث لا يعدو الحديث الساخر خاليا من أفكار جوهرية، بل حين تظل تلك النكات متداولة بشكل مستمر فهي تظل تغذي الفكرة بعدة شروحات وتحليلات متناولة بطريقة التهكم الواعي. فالفن الساخر هو الوحيد الذي يحلل القضية بصمت ولا يوجه للنخبة بل يمرر على أكبر شريحة من المجتمع، حتى تصبح بعض القضايا بكثير من تحليلاتها واضحة بأقل الكلمات للجميع، بل قد تختصر في رسم صامت.
لو نتتبع التاريخ سنجد أن الفن الساخر فن حاضر بشكل أو بآخر إلا أنه بدأ في الانحسار. وهذا الانحسار لا يعني انعدامه، فنستطيع أن نلحظ كم النكات والسخرية التي تفشت في الثورة المصرية في 25 يناير، لكن هذا الفن يحتاج لموهبة خاصة فهو ليس مجرد سرد، ولكنه تعرية للقبح، فهو يضع قبح المجتمعات والسياسات في قالب أقرب ما يمكن وصفه بأنه قالب الوداعة.
وأخيرا نقول ما قاله أحمد خالد توفيق «تكون السخرية على الأفكار، انظر مثلا كيف تُعلمنا السينما أن نسخر من الأحوال أو من يتأتئ في الكلام». ومن هذا المنبر نستطيع القول: إن كنا نريد أن نستعيد هذا الفن فلنعده في قالبه الصحيح وليس لمجرد الضحك.

عن تاريخ الموسيقى الكردية

ens

* نشر في ساقية

نلاحظ أن أكثر الشعوب المتمسكة بتراثها الفني خاصة في موضوع الموسيقى والغناء، هي تلك التي تكون تحت الاضطهاد أو النفي. كي لا تموت هي تمد صوت موسيقاها وتعليه في أي وضع كانت، وفي أي مكان تحط رحالها فيه. الموسيقى هي كاشفة للبعد الاجتماعي لشعوبها، تكشف عن مدى سعادتها أو شقائها أو حالتها القائمة، فنستطيع ملاحظة بعض الموسيقى التي تحمل في طبيعة تكوينها الموسيقية صوت ثائر أو صامد أو متأهب للقتال، ونلحظ بعض الموسيقى تحمل لون حزين يحوي لغة نداء ورجاء لاستجلاب السلام بعد القلق، الموسيقى لا تنفصل أبداً عن رحلة الحقيقة، ولهذا نستطيع أن نسمع صوت الأكراد جلياً عبر موسيقى تحمل معاناة إنسان.

الشعب الكردي في حقيقته شعب محب للموسيقى وخالق لها لأن الموسيقى بالنسبة إليه آداة التعبير عما يحتويه وجدانهم وعن فيض شعورهم، ونستطيع أن نلحظ تفاعل موسيقاهم وتداخلها مع موسيقى من حولهم من الشعوب حين احتوت المقامات الموسيقية الشرقية على مقامين كرديين هما “مقام كرد، ومقام نهاوند“. فيقول الباحث الدكتور أحمد خليل:

للموسيقى الكردية الشعبية طابعها الخاص، شأنها في ذلك شأن موسيقى بقية الشعوب، وكل من له خبرة بموسيقى شعوب غربي آسيا، يمكنه تمييز الموسيقى الكردية عن الموسيقى الفارسية والأرمنية والتركية والعربية، على أن ذلك لا يعني أن ثمة قطيعة بين الموسيقى الكردية وموسيقى الجيران، ففي المناطق التي يتجاور فيها الكرد مع جيرانهم، نجد تمازجاً بين موسيقى أولئك وهؤلاء، وثمة ألحان كردية دخلت موسيقى الشعوب المجاورة للكرد، على أيدي الملحّنين الكرد الذي عاشوا بين تلك الشعوب، ولا سيّما في تركيا وبلاد الشام.

رغم تداخل موسيقى الأكراد بالتركية وغيرها إلا أنها تنفصل بعمق أغانيها عنها جميعاً وتتفرد في صورتها فتقول الصحفية منى كريم:

هنالك ثلاثة أنواع من المؤدين في الموسيقى الكردية: المنشدون، رواة القصة والشعراء. وقامت الموسيقى الكردية الكلاسيكية على نوع معين يتعلق بالمحاكم الكردية يؤدى بين الحشود خلال فترة المساء. بالإضافة إلى العديد من الأغاني والملحميات التي تعكس الطبيعة الكردية الجميل كـ’اللاوكس’ الشعبي وهو عبارة عن أغنية أو ملحمة شعبية بطولية تعيد سرد حكايات الأبطال الأكراد، والـ’هيرانس’ أو أغنية الحب الشهيرة التي تتحدث عن كآبة الفراق أو الحب المستحيل. وهناك موسيقى دينية (اللاوجي) وأغاني الخريف (بايزوكس) والأغاني الإيروتيكية التي تتحدث عن الحب والجنس وتفاصيل حياة الإنسان الكردي البسيط.
أما بالنسبة للآلات الموسيقية فهي البزق (شكل آخر من العود) والمزمار والناي في شمال وغرب كردستان، بينما ينتشر الناي الطويل والطبل في الجنوب والشرق.

نلاحظ أن الأغنية لا تأتي دائماً مصحوبة بموسيقى تغذي كلماتها، بل أحياناً الغناء وحده وصاحب الحنجرة التي تؤدي هذا الغناء كفيلة بأن تؤثر فيمن يسمعها دون أن يتفهم حرفياً لما يحمله المعنى التفصيلي حين تختلف اللغة بل المعنى عالجملة و حسب النظرة العامة للتاريخ يستطيع أن يستخرج ويصيب في فهم المعنى العميق، لكن هل الأغنية الكردية تأتي منفردة وبمعزل عن الموسيقى؟ يجيب الباحث الدكتور أحمد خليل بذكره لبعض الملاحظات عن الموسيقى :الكردية، فيقول

الملاحظة الأولى: تُسمَع الموسيقى الكردية منفردةً، من غير مصاحبة الغناء، وعندئذ تبرز خصائصها الصوتية والسيكولوجية على نحو أفضل، ويحتاج تذوّقها إلى قدر عال من رهافة الحس الجمالي الموسيقي، وإلى قدرات تأملية متقدمة، لذا يجد هذا النمط رواجاً عند النخب الكردية المثقفة، أكثر من رواجها عند الجماهير الشعبية. وتُسمع الموسيقى الكردية مصاحبة للغناء، والجماهير الشعبية أكثر إقبالاً على هذا النمط، وتكتسب الموسيقى حينذاك أكبر قدر من الروعة حينما تتناغم معها نبرات صوت المغنّي، ويا لبؤسها حينما تكون هي في واد ونبرات صوت المغنّي في واد آخر.

الملاحظة الثانية: الموسيقى- سواء أكانت منفردة أم مصحوبة بالغناء- عميقة الجذور في الميثولوجيا الكردية، وما زلنا نرى إلى اليوم حضور الموسيقى في المناسبات الدينية عند الكرد الكاكَه ئي والكرد الأيزدي، وما يثير الانتباه أن الطابع الغالب على الموسيقى في تلك المناسبات ليس كئيباً، وإنما هو طابع تغلب عليه الحيوية والإشراق؛ وهذه الظاهرة في حد ذاتها جديرة بالدرس والتمحيص.

الملاحظة الثالثة: لا أزعم أنني استمعت إلى الموسيقى في جميع مناطق كردستان، لكن لاحظت- في حدود ما سمعت- أن الموسيقى الكردية التراثية أكثر تطوراًً وفنّية في جنوب وشرقي كردستان إذا قيست بالموسيقى في شمال وغربي كردستان، 
والدليل على صحة ملاحظتنا أن آلة السَّنتور، بألحانها المتنوعة العذبة الرقيقة، حاضرة في الكَوْرس الموسيقي عند كرد الجنوب والشرق، إضافة إلى آلة الكمنجة، في حين لا نرى لهاتين الآلتين حضوراً في الكورس الموسيقي عند كرد الشمال والغرب، أما الكمنجة المستطيلة الصندوق المستعملة عند بعض كرد الشمال فالأرجح أنها دخيلة على التراث الموسيقي الكردي، وأحسب أنها مقتبسة من التراث الموسيقي التركماني، لذا ثمة تنافر واضح بين أنغام تلك الكمنجة ونبرات الصوت الكردي عند الغناء، وأظن أن المنطقة التي تُستعمَل فيها الكمنجة المستطيلة الصندوق هي منطقة حصل فيها تجاور كردي- تركماني منذ عهد السلاجقة.

لا تستطيع أن تستمع إلى الموسيقى الكردية دون أن تلحظ ارتباطها بالحزن والألم، بل ربما يتفشى داخلك المعنى الانساني حين تتأمل رسائل البسطاء من الأكراد خلال أحزانهم، لهذا يقال بأنها الموسيقى الشرقية الأكثر إثارة وخصوصية.

للاستماع إلى بعض الأغاني والموسيقى الكردية  :
http://www.youtube.com/watch?v=Zr64dPqw8J4

روابط للاستزادة حول الموسيقى الكردية وتاريخها : [1]، [2]، [3]

الموهبة عصية لكنها تأتي بالممارسة

*نشر في صحيفة مكة

الكل يعرف تقريباً استناداً إلى ما يقوله مطورو الذات بأن أي فعل يريد المرء تحويله إلى عادة يلزمه الاستمرار عليه مدة 30 يوماً فيتحول من فعل نادر الحدوث إلى عادة يومية. لكن فكرة «العادة» هنا بالنسبة للمقال مجرد المدخل للخوض في الحديث عن الموهبة التي يفتقر كثير من الناس متعة حضورها فيهم، وهذا ليس لأنهم غير موهوبين بل ربما لأنهم لا يحسنون استخدام موهبتهم بالطريقة الصحيحة أو ربما فقط لخوفهم من الإخفاق والفشل. ما علاقة العادة إذن بالموهبة؟
كنت قبل فترة قد واجهت تساؤلا حول السر الذي يجعل الموهوبين متمكنين من موهبتهم سواء كان ذلك في الرسم أو الكتابة أو غيرها، فوجدت أن الأمر يطلق عليه السهل الممتنع حيث إن تمكين الموهبة يتطلب أمراً مهماً جداً وهو «الالتزام»، وهنا يأتي حس المسؤولية الفردية فيما يخص هذا الالتزام، فالموهبة تكون عصية أحياناً لكنها تأتي بالممارسة، حيث إني قرأت ذات مرة بأن الكاتب عبدالرحمن منيف كان يخصص لنفسه يومياً ساعة أو أكثر من ساعات الصباح الأولى ليكتب، لكن لك أن تتخيل أن عبدالرحمن منيف كان قد مارسها ليس لعام واحد بل لأعوام وأعوام حتى أصبح كاتباً.
فالطريقة العملية لتفعيل الموهبة إذن هي ممارستها بشكل يومي. ومن حديثنا البسيط عن الكاتب عبدالرحمن منيف واقتران الموهبة بالممارسة والالتزام نستطيع استلهام فكرة ما تمكن الفرد من موهبته، كأن يقوم كل شخص يجد في نفسه موهبة ما بمشروع فردي بسيط وهو أن يحدد عدد أيام معين سواء كان 100 يوم أو 365 يوماً لممارسة موهبته أياً كانت – كتابة، رسم، تصوير وغيرها- خلال تلك الفترة دون الاستسلام لأي عذر. ونستطيع القول بأن ثمار هذا العمل وهذا المشروع لن تتحقق دون معاهدة النفس على «الالتزام»، ويجب أن يكون هذا الالتزام مفعلاً دائما وحاضراً مهما كان صوت مزاجه ومهما كان ضيق وقته، ومهما شعر بالملل وأراد التوقف عنه، وإن اختلط الشعور بمعنى الجدوى حيث يحدث دائماً أن صوتاً داخلياً يحرضنا على التوقف ويسائلنا في جدوى ما نفعل فليس من الجيد الخضوع له بل إن قهر النفس في هذه اللحظة سيكون مطلوباً لاستمرار الهدف الذي تحدد مسبقاً، إذن دعونا نتفق أن هذا المشروع ربما لن يكون أكبر من عمر السنة الواحدة وقد لا يحدث التطوير المرجو على المستوى العام للشخص الموهوب بطريقة واضحة، حيث إن سنة واحدة بالتأكيد لن تصنع منه عباس محمود العقاد ولا فان جوخ، لكن بلا شك سيتخرج الموهوب من ذلك المشروع منجزا ومكتسبا ثقة أكبر في ذاته، وفي النهاية سيكون قد حقق مشروعاً واحداً على الأقل انعكس عليه بعدة جوانب إيجابية كتطوير موهبته وغرس قيمة مهمة تتطلبها الحياة في جميع مناحيها ك»الالتزام».
صحيح أن هذا المشروع لن يكسبه مالاً أو شهرة وتركه أيضاً لن يكون بمثابة خسارة وظيفة مهمة يعتمد عليها لكنه حتماً سيكون فخوراً بما حقق خلال السنة لأنها حتماً ستكون سنة غير عادية وقد يتغير بعدها صاحب المشروع إلى الأبد. وسيشعر لحظتها أنه اكتسب الكثير الذي لم يحسب له حساب، كشرف المحاولة أمام نفسه، وطعم الإنجاز الذي أصبح حاضراً فيه، بالإضافة لمشروع جديد يضفي لمشواره العظيم ويرفعه درجة أو النصف، إضافة إلى أن هذا المشروع البسيط جداً والذي قد يراه غيره غير مهم إطلاقاً، سيكون جزءا لا يتجزأ من مشوار حياته الطويل الذي كان قد خطط للوصول إليه في خارطة ذهنه وربما على ورقة حياته المكتوبة التي آن لها أن تكون تطبيقاً عملياً مثمراً.

الرواية لغة يتفرد الشخص في خوضها

نشر في صحيفة مكة

يقول علي عزت بيجوفيتش «الشعر هو معرفة الإنسان، والعلم هو معرفة الطبيعة». إن الفنون معرفة لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال، مهما حاولت عقولنا الاستخفاف بأهميتها فإن شيئا ما داخلنا يتوق إليها باستمرار. هذا الشعور ليس سخيفاً أبداً، بل هي خاصية متعلقة بالإنسان في خلق الحياة خلال روحه، وهذا لا يتم إلا عبر الفن وأحد أشكاله.
أتذكر مقولة قالها أحد المثقفين وهي أن «الرواية لا تبني عقلية المثقف، بل هي شيء جانبي ليست له قيمة علمية، لا تضيعوا أوقاتكم في قراءتها». نستطيع الاتفاق معه في حين تعاملنا مع الرواية كأي كتاب آخر، أي إذا أردنا قيمة علمية معينة أو الخروج منها بحصيلة معلوماتية رهيبة، وأظنه أخطأ حين نصح بتجنبها، ونحن نخطئ كثيراً في حق أنفسنا قبل الخطأ في حق الرواية إن استمعنا لنصيحته دون أن نرى الجانب الآخر في الرواية، فالرواية ليست إلا عملاً فنياً. والفن يستوجب علينا أن نعطيه حيزاً لا يستهان في أوقاتنا لأنه الجمال الذي نتعب دونه، بالإضافة إلى أن بعض الباحثين وجدوا أن أدب الرواية تحديداً له تأثير على المهارات الاجتماعية كالتعاطف والقبول الاجتماعي والذكاء العاطفي وغيرها من القيم الإنسانية وبنائها. كما أن بعض الدراسات أشارت إلى أن الروايات تعزز من عمل «نظرية العقل»، وذلك يعني أنها تقوي قدرة الإنسان، حيث يستطيع تخيل وفهم الحالات الذهنية للآخرين، وربما نستطيع أن نلحظ أن قراء الروايات تحديداً هم الأكثر تعاطفاً وفهماً لإنسانية الآخرين، وذلك لكونهم يرتبطون عاطفياً بأحداث الروايات. وأنا أركز هنا على أن الروايات حتى وإن كانت لا تحتوي على كم معرفي كبير لكنها لا تتجرد كلياً من كونها سجلا تاريخيا أو وثيقة كما يسميها البعض حين يعيد الروائي كتابة أحداث معينة وتاريخ محدد بطريقته النقدية، وأحياناً قد تحمل الرواية معنى موسوعة، لأنها تتسع فعلياً لعلوم إنسانية مختلفة خلال صياغة الكاتب لها بطريقة فنية تعبيرية مختلفة.
الرواية يستحيل علينا أن نعتبرها هامشا، بل هي تجربة يتفرد الشخص في خوضها، فلنتصور أن أحداً يقف أمام لوحة تشكيلية نستطيع ملاحظة أن مدة الوقوف أمام اللوحة تختلف من شخص لآخر، وهذا ليس فقط لأجل الخلفية التي يعرفها عن اللوحة فقط ولا بسبب المعلومات المكتوبة بجانب اللوحة، بل هذا يدخل فيه تجربة الإنسان الفردية حيث إنها قد تثير فيه عواطف تختلف منه لشخص آخر، تماماً فهذا ما تفعله الرواية، فهي لا تستخدم عقلك بقدر أنها تقبض على عواطفك وتحاول أن تربطها بذكرياتك ومشاعرك وتجاربك وتصل لأبعد من ذلك، حيث إنها قد تترك فيك عمقاً وأثراً لا يزول أثره سريعاً، فهي تستفيض فيك وتحتل الروح، وهذه من أعظم القيم. اعتبروا الرواية كأنها الطين الذي مزجته مشاعر الكاتب بماء روحه فأخرجها متسعة ليستطيع القارئ خلالها وبين فواصلها أن يندس بمشاعره وأفكاره ويقيس تجاربه فيها حتى إننا غالباً كقراء لا ننتهي من قراءة رواية ما دون أن نترك أجزاء منا مدسوسة فيها، وما إن نعود إليها بعد زمن حتى نلتقي بشيء منا كنا قد نسيناه أو طويناه مع الأيام في صفحاتها. وهذا ينطبق على الفنون بشكل عام. العلاقة بيننا وبين الفن علاقة تبادلية، تقرؤنا ونقرؤها ونتبادل أطراف الحديث معا، الفن في النهاية هو السؤال والجواب، الحقيقة والخيال. والرواية بصورة خاصة تستطيع أن تصنع فوهة معينة في عقولنا ثم تتسرب لتغربل طريقة تفكيرنا فينعكس ذلك في رؤيتنا العامة للحياة، فبعض الفنون تحكي دون تعبير لكن الرواية والقصة والسينما هي التعبير عن فصول معينة مرت أو لم تمر بعد في حياتنا حتى لو أنا لا نريد أن تكون كذلك.
إذاً فالفن لا يقل أهمية عن العلم، لأنه يفسر الحياة الجوانية والعلاقة الإنسانية، والتعقيدات النفسية. بل هو يستطيع ببراعة إظهار الجمال، وتصوير الغموض في مستوى جمالي حتى وإن صعب على العقل تفسيره لحظتها. يقول هويزر في تعريفه للعمل الفني «إن العمل الفني شكل ومضمون، اعتراف ووهم، لعب ورسالة، هو قريب من الطبيعة وبعيد عنها، هادف ولا هدف له، تاريخي ولا تاريخي، شخصي وفوق شخصي في الوقت نفسه».