ما سبب هذا الترتيب للآلآت الموسيقية في الأوركسترا؟

يبدو السؤال وكأنه سيتضمن إجابة مبنية على معادلة رياضية، غير أن الإجابة متعلقة بقائد الأوركسترا “ستوكوفسكي”.

بدايةً، كانت الأوركسترا بشكل عام محصورة على فئة معينة من الجمهور، تُلعب في قصور الطبقة البرجوازية، لم يكن يتعدى حينها عدد عازفي الاوركتسرا كاملًا، الاثنى عشر عازفًا. توسعت فيما بعد وأصبحت تُعزف على جمهور عريض في مسارح كبيرة وضخمة، يصل أعداداهم مائة وأكثر، وصار وقتها لازمًا أن يكون لهؤلاء العازفين قائدًا يرشدهم، يلهمهم، وينظم العزف بشكل أو بآخر كما يفعل المخرج تمامًا في المسرح ، فظهر عندها دور “قائد الأوركسترا” الذي لم يكن موجودًا من قبل. بل صار كل قائد بالضرورة له لمسته الخاصة في التوجيه لإظهار العمل الموسيقي كاملًا وعظيمًا.

لكن، ما سبب هذا الترتيب للآلآت الموسيقية في الأوركسترا؟

قبل 100 عام تقريبًا لم يكن شكل الاوركسترا كما هي بشكلها الكلاسيكي الحالي، كانت تقام على طريقة التفاعل، أو التخاطب. لم يكن عازفو الكمان يجلسون متجاورين كحالهم الآن.
في الأساس، ينقسم عازفو الكمان إلى قسمين، قسم يجلس في الجهة اليمنى من القائد، وقسم في الجهة اليسرى، ولا يعزفون لحنًا واحدًا دفعة واحدة، بل كان يجلس النصف الذي يعزف الكمان أولًا – First Violin- مقابلاً لمن يعزف ثانيًا -Second Violin- ،و يشكل هذا الترتيب حوارًا بين الكمنجات، وهي الطريقة التي كان يوزع على أساسها موزارت مقطوعاته، كالسيمفونية 14 “Jupiter”:

و في بداية القرن ال20 ظهر قائدًا للأوركسترا يدعى توكوفسكي، غير مجرى اللعبة، والطريقة والأسلوب،وتراتيبية عازفي “عائلة الكمان”،فقد قسم عائلة الكمان الأربعة بأنواعها (كمان – فيولا – تشيلو- الكونترباص)، في مواقع تختلف عما كانت على سابقتها ..

جَمَع عازفو الكمان – ذو حجم 60 سم- الذين يعزفون أولًا، أو ثانيًا، في جهة واحدة، أي على الطرف الأيسر من القائد، أما عازفو الفيولا – بحجم 90 سم- يتوسطون المسرح أي متقابلين مع قائد الأوركسترا نفسه، ويجلس في الطرف المقابل لعازفي الكمان أي في الجهة اليمنى من قائد الأروكسترا عازفو التشيلو و الكونترباص.

وقد اخترع ستوكوفسكي هذا الترتيب كما رآه مناسبًا  بعد التجريب لأكثر من طريقة، لرأيه أن هذه الطريقة تحديدًا، هي التي تعطي الصوت تناغمًا وانسجامًا أكثر، بل وتوزيعًا جيدًا، حتى صار أسلوبًا عالميًا وشكلًا إلزاميًا يلتزم به كل من يكتب الموسيقى لأي أوركسترا ممكن أن تعزف.

ألم يفكر أي قائد أوركسترا أن يغير هذا الترتيب بعد ستوكوفسكي؟ أم صار هذا التريتب هو المعادلة الرياضية الصوتية الأجدى في المساحات الكبيرة والضخمة؟
ربما، إلاّ أن هذه التراتيبية لم تعطي تكاملًا للصوت فقط، بل للمنظر الجمالي في حركة عازفي الكمان،وهذا سبب وجيه لأن يكونوا في المقدمة. كما وأن هناك فائدة للعازفين أنفسهم حيث قال ستوكوفسكي : أن عازفو الكمان حين يعزفون من جهة واحدة، فهم يسمعون بعضهم البعض بشكل أفضل، وأكثر وضوحًا، وهذا الأمر الأهم.

 

وجه للوحدة

النص السابع من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

وقفت في مقدمة طابور الانتظار، كان الهدف أن تحظى بالمقعد الاول عند النافذة باعتبار أن المحطة التي تصعد منها هي الأولى أي أن الأمر ليس في غاية الصعوبة. كانت امرأة جميلة جدا، بعينين زرقاوين، وجهها يحمل ملامح متناسقة ، هادئة، وصغيرة، تلبس فستانًا أسود قصير مرقط بلون أصفر، شعرها الذهبي منسدل على كتفيها، جلست على المقعد الذي أرادته بعد صعودها الباص فورًا، وضعت حقيبتها على حجرها، مدت يدها على شعرها ثم رفعت نصفه، أخرجت نظارتها الشمسية من علبتها ووضعتها على عينيها، ثم أخيرًا أغلقت أذنيها عن العالم وضجيجه بسماعتها .. ربما كان المشهد متكررا حتى اللحظة، إلا أنه لم يكن كذلك بالنسبة لي، حيث أني رأيت فيها نموذجا استثنائيًا من الراكبين، وكأنها لم تصعد هذا الباص وفي هذا الوقت المزدحم جدًا لأنها تريد العودة للمنزل، أو مقابلة حبيب، أو للذهاب في نزهة، بل لأجل غرض آخر ..
كان الباص مكتظًا بالكادحين الذين انصرفوا للتو من أشغالهم،غير أنها الوحيدة منهم أدركها شعوري، والتفت إليها إحساسي، ففي اللحظة التي كنت أشعر بنفسي اختنق في هذا التكدس، توقفت عيني عندها طويلًا، فقد كان فيها ما يُلفت النظر، إذ رأيتها تميل برأسها على النافذة، ثم تحاول أن تدس وجهها بأكمله على الزجاج، ظننتها في بادئ الأمر أنها تحاول أخذ غفوة لطي المسافة والتعب، لكن الحقيقة أنها لم تفعل، استمر رأسها مائلًا، وجسدها بأكمله مدفوعاً إلى جهة النافذة. بدأتُ ألمح حركة على وجهها، كعضها لشفتها بانكسار، وتحول وجهها الصامت جدًا إلى وجه حزين، كانت ترفع يدها بشكل متكرر لمسح شيء ما على خدّها.. عندها عرفت، وتبين لي أنها دموع، فما أن تخرج تلك المُلُوحة عن إطار النظارة حتى تعاود تمرير أصبعها بسرعة لتكفكف وتمسح وتخفي. إنها تحاول إخفاء حزن يخلع قلبها من مكانه. كانت قد اختارت الوقت والمكان الذي لن ينتبه إليها فيه أحد، فكل القاعدين والواقفين لاهم لهم -في تلك الساعة-  غير الوصول إلى منازلهم بعد تعب نهار كامل، عداها، لم تكن تأبه لأي محطة، ولا تلتفت لتلك الكثرة، بل كانت غارقة تماما في بكاءها ودموعها التي تظن بأنها لا تُرى، كان من الملاحظ أنها قد حسمت أمرها بممارسة تعاستها ووحدتها في هذه الظروف، ربما لأجل أن لا تبكي وحيدة في سريرها، فصخب المكان قد يخفف عن نفسها وطأة الوجع، أو ربما هاربة! هاربة مع دموعها وبصحبة غصتها من محيط معروف لمجهول، باحثة عن خصوصيتها -التي لا تستطيع ممارستها في بيتها الخاص- في أكثر الأماكن عمومية، أرادت البكاء دون أن تكون مجبرة لتبرر لأحد سبب ذلك، فغالبًا في الباص لن يسألها أحد لمَ تبكي، ولن يمد أحد يده للمساعدة، ولن يكون الأمر بذاك الاغراء للتطفل أو الفضول، عدا أن يكون شخص نبيل جدًا وإنساني جدًا، حد أنه لن يهتم بشيء في تلك اللحظة، سوى بفتاة تجلس على مقعد غير آبهة بأحد، وتبكي!

ثرثرة من مقعد في مقهى ..

مر وقت طويل جدا جدا عن الكتابة في صفحات مدونتي، لا أعرف حقيقة السبب الذي كان يعيقني عن فعلها أو اقترافها أو حتى التسلية خلالها، غالبًا ليس هناك سبب محدد عدا أنه لا مزاج لي !
والآن ولدي هذه الرغبة الجارفة والمجنونة بداخلي، ماذا عساي سأكتب؟ أو بماذا سأبوح؟
هل أتحدث عن أحد فتياتي التي يعشن داخلي؟ ربما سأحب ذلك .. وأقول ربما لأني لطالما لم أكن واثقة من أي شيء .. وكل شيء ..

أجلس الآن في شرفة أحد المقاهي في اسطنبول، أمامي أشجار لاتنتهي، وخضرة تجعل الروح طيبة، وسماء ممتدة بزرقتها، متناثرة في نواحيها بعض السحب القطنية التي تتمنى لو تقفز على أحدها وتتمدد فيها وتمضي معها إلى حيث تتلاشى ولاتعود موجوداً ، أي تنتهي كما تنتهي غزل البنات في يد الاطفال.. لنعود لاسطنبول، أسكن اسطنبول نعم، لكن ليست تلك التي يعرفها الجميع، بل التي تزيد كيلومتراتها بعدًا عن المنطقة القديمة قرابة ال 40، هذا على أقل تقدير .. ساكنيها أتراك بلاشك، تجد فيها جاليات صغيرة مختلفة من العرب مثلي.. تستطيع أن تصادفهم، تبتسم لهم وتمضي .. إن كنت سأتحدث عن الحياة، وعن نفسي تحديداً ، فأنا هنا اكثر انسجامًا مع حياتي .. مهما كبرت مخاوفي فلازلت في إطار الحياة، عفواً ربما لا أحد يعرف أن الحياة في مكان آخر بالنسبة لي أكثر اختناقًا وحدّة إلّا من صداقات قليلة لولاها لكان كل شيء أكثر سوءً ..
أسير في شارع طويل، أركب الباص، أتوقف في المحطة التي أريد، أكرر مواصلة المشي للمكان الذي أريده .. نعم بهذه البساطة .. ثم أني لا أملّ الحدائق التي تعيد إلي توازني في كل مرة أتمدد فيها على العشب، أو أحرر خلالها قلبي من عوالقه .. أفعل بقلبي مايُفعل بالأشجار تماما ، أشذّب أطرافه ..
مالذي أريد أن أقوله من كل هذا؟ لاشيء .. عدا أني أحاول العودة لأماكني تدريجيًا.. فأنا لم أعد في أي مكان، لا أنتمي حتى لنفسي .. كيف يعيش الإنسان مشرداً في داخله ؟ وحيدًا دون أن يجد ملاذه في نفسه؟ هذا الضياع كثيراً مايجعلني أكثر اضطرابًا مما أبدو عليه.. الروتين الذي يكرهه الناس، هو حقيقةً الأجدى للانجاز، والفعل المتواصل، و من يعرف كيف ينسجم مع روتينه بذكاء، فهو محظوط جدًا .. لست أقدّم أي نصيحة لأحد، لأني فعلاً أكتب لنفسي، لأجل أن أترك قلبي يتحرر من قيود لا أفهم كيف قيد نفسه فيها..
لطالما آمنت بالمحاولة ، والمحاولة، والمحاولة ، حتى اسميت نفسي بشكل سري “محاولة” فحين أسأل: من أنا؟ أجيب في نفسي: محاولة! لكن المصيبة هي أن محاولاتي بقيت في إطار ضيق، وهذا ماتم اكتشافه بشكل متأخر جدًا .. أدور في دائرتي المريحة ربما ، حتى إذا ماخرجت منها شعرت بنفسي أسقط عميقًا.. رغم أن كل سقوط أعود منه في النهاية وأقف ولابأس .. لكن الحقيقة أننا نخسر كثيرًا في سقوطنا .. نخسر في أحيان كثيرة أطراف قلبنا حتى لا يعود يعرف كيف يمضي ويسير ويحلق.. لكن أصبحت أفكر أنه ربما ولا بد من الخسارة على أي حال، إذا أردنا أن نكسب شيئًا غالبا سنخسر آخر، وإذا لم نرد الخسارة أبدًا فإننا ربما لن نحضى بشيء.. معادلة بسيطة؟ بديهية؟ لا أعرف!
لقد تعرفت على معاني مقابل معاني حتى إذا ماكنت واثقة منها بدأت أتشكك في وثوقيتها كالتخلي على سبيل المثال .. فأنا قد تخليت كثيرًا عن علاقات، صداقات، حتى ماعدت أطيق فكرة “التخلي”، كان دائمًا في سبيل أن أكون أكثر انطلاقًا وتجاوزًا لمناطق انحبست فيها طويلًا .. والآن أتساءل ماذا عن الأحلام والأمنيات والذين نحبهم ؟ مثلاً رحلتي الطويلة في أرجاء العالم! هل حقًا تخليت عنها؟ لا أعرف.. لا أعرف مطلقًا .. فأنا لم أعد أفكر في الأمر كما كنت أفعل من قبل .. وهذا تحديداً يجعلني أتساءل، ماذا عمّا نريده حقًا؟ ألا نتشبث؟ ألا نتمسك؟ ألا نحارب؟ ألا نناضل؟ أم أننا نمضي و نترك للحياة أن تدور وتعيدنا إذا كان لنا عودة؟

لن أجيب على أي من الأسئلة، ولن أطرح المزيد، ولن أقول بأن الفتاة التي كتبت عنها بالأعلى هي أنا.. ربما هي طيفي، خيالي، أو جزء أصيل مني أو لست أنا أبدًا.. لن يعرف أحد ذلك .. وربما حتى أنا لن أعرف مطلقًا ..

رتابة

nicola

النص السادس من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

ولا أظن أنها كانت نائمة، إلاّ أن بزوغ الشمس هو دليل يفصل بين يوم وآخر. تحسست فضاء سريرها البارد، انزلت أحد أقدامها لتلامس الارض، ثم ألحقت رجلها الأخرى بأختها .”بدء روتين يومي آخر” هذا مارددته في نفسها، جلست على السرير عدة دقائق. ثم مشت بخطى غير مستعجلة إلى المطبخ، سخنت القليل من الماء، سكبت قهوتها في فنجانها المعتاد.. أخذت تقرأ أول كتاب سقط نظرها عليه. رشفت رشفتين من القهوة ونسيتها حتى بردت. صنعت كوبا اخر، حاولت الكتابة، كتبت أشياء مبعثرة على قصاصات ممزقة كما هي العادة، بردت القهوة للمرة الثالثة، صنعت كوباً آخر و جلست على مكتبها هذه المرة. مدت يدها لحزمة الأوراق المبعثرة أمامها و سحبت أحدها وأخذت تنظر ثم أطالت النظر في النص المكتوب كان النص يحاول مخاطبة أبطالها المغمورين الأحياء بقوة داخل قصصها! كانت السمة التي تطبع أجواء يومها وحياتها، البرود، الصمت، الوحدة. لا تتظاهر بالسعادة ولا تتظاهر بالحزن، لا تتحدث إلى أحد سوى افتعالها المحادثات التي تبدأها مع شخصيات قصصها الناقصة، كأن تقول لبطل قصتها: أنت أحمق، الحياة ليست من هذا الاتجاه!
أحياناً تتبادل الحديث أو الشتائم عبر تعليقاتها في هوامش كتّاب قد ناموا تحت الارض منذ زمن بعيد. هي تعيش بهذه الطريقة دون أن تشعر بالضجر. قد سئم الضجر ملاحقتها بعد أن أعارته اهتماماً في وقت مضى في عدة فصول من حياتها، أما الآن لم تعد تراه أو تحسه. تعيش دون إحساس تقريباً. لاتشعر بأية آلام سوى تلك الأوجاع التي تطولها من عدم نومها على وسادتها بشكل صحيح.. وآلام ظهرها التي تزورها بعد أن تعيد ترتيب البيت.. وتنظيف النوافذ والجدران.. تلك الأوجاع التي تأتي من الجسد.. لكأن أوجاع الحياة قد انطبعت على قلبها حتى أنها ماعادت وجعا.. صارت الوجه الأحادي لقلبها.. باختصار لم تعد تشعر بشيء يرتبط بإحساسها الداخلي!

كان يمضي اليوم والاخر وهي تعاود تكرار الأشياء ذاتها.. لا تتداخل عليها الأيام بل تأتي منسابة، لا تحاول أن تعيش بعكس الاتجاه، لاترفع صوتها على أحد، لا تشتم الأخبار، لا تعترض على السياسية. لم تعد تعرف ولا تكترث لرغباتها، تعيش كما تدعي وفقاً للضروريات.
يحدث أن تتجرأ على الخروج من حصنها، منزلها، أو قصرها المذكور في شعر نزار والذي لطالما رددته “حبيبة قلبك ياولدي نائمة في قصر مرصود” كما أنها ذكرته في أحد القصص التي كتبتها. كانت تجبر نفسها على المشي في الشارع الذي يرفض خطواتها لتزور البقالة كريح مسرعة مرة كل أسبوع، وتعود.. كان يعرف السيد صاحب البقالة مالذي ستشتريه وكم ستنفق خلال هذا اليوم بل حتى خلال الشهر! حاول أكثر من مرة أن يحدثها كأحد الجيران لكنها لم تكن لتهتم بحديثه ولا سؤاله: مرحبا ياسيدة.. كيف حالك؟
عقلها قد تبرمج على أن هذا الحديث العابر يخرج من لسانه بشكل عفوي دون تميز أو تخصيص، حديث غير مهم، سؤال تافه لا جواب له، ولهذا لا تجد الرد يخرج منها ولاتكترث لعادته في السؤال!
لا يغريها شيء.. لا تنتظر أحداً.. لا تعتبر أي النهايات كما يتضح من قصصها الناقصة والمتروكة هي نهايات حقيقية.

كانت قبل أعوام تكتب نهاية قصة وجودها على زاوية الجدار وذيلته بتاريخ، ثم كتبت ، الساعة “الموت”. نعم كان أملها أن تموت في تاريخ ووقت ترتبه هي وأملت في تحقيق أمنيتها الوحيدة لتقف على النهاية اخيرا، وصلت لليوم المحدد.. لكنها الحياة أصرت إلا أن تعاندها، فبدل أن يقترب منها الموت الأعمى كان قد قادها في نفس الوقت الذي كانت قد خططت فيه تشييع جنازتها، حضور مراسم العزاء لجارتها في الشقة المجاورة. عدم موتها ضمن الخطة التي رسمتها كانت خيبتها الأخيرة.

عاشت، بلاحياة! ثم عاشت أكثر تحاول الحياة..

أغنية أبدية

gramophone-katia-kimieck

النص الخامس من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

كانت تمشي في أزقة تلك المدينة، توقفت عند محل صغير يقع في زاوية الشارع، لا اسم واضح عليه. في واجهة المحل فتاة تشبه دمية صندوق الموسيقى إلا أن لها ملامح مألوفة، ورجل محني رأسه ممسكاً بعود عتيق، اقتربت من الزجاج، اسندت يديها وكاد أن يخترق وجهها تلك الواجهة لقربها منها، أمعنت النظر وأطالت حتى قررت الدخول. بوابته أصغر حجماً منها بقليل، انحنت ووضعت رجلها فأصابتها قشعريرة لا تعرف سببًا واضحاً لها، أغفلت مشاعرها على الفور ودخلت..
لم يكن هناك أحد، كان المحل ضيقاً لدرجة أن لا أحد باستطاعته الوقوف داخله أكثر من أربعة أشخاص مما يعني ثمانية أقدام بالتمام. كان فارغا إلا من رفوف تراكم فيها عدد كبير من اسطوانات موسيقية ضخمة، رُتبت بعشوائية، ارتكزت أربع أرجل إضافية لطاولة صغيرة بجانب الجدار ليصير إجمالي الأقدام الممكن تواجدها في تلك المساحة اثنا عشر قدماً..
كان المنتصف مرتفعا قليلاً، مُشكّلاً دائرة صنعت من الفسيفساء وألتصقت على الأرض. كأنها منصة للرقص، وإن كانت كذلك فهذا يعني أن هذا المكان لايتسع في الحقيقة إلا ل4 أقدام راقصة. كان الجدار معتقاً، والرفوف خشبية ومزخرفة، توجد في الزاوية مخطوطات اكتست أوراقها لوناً بنياً.. على تلك الطاولة المركونة في الزاوية مشغل اسطوانات عمره لا يقل عن التسعين. لم تستطع أن تتعرف على شكله بدايةً.كان مذهبا رأسه، ومنفرجاً، يشبه الفم في طريقة غنائه موالاً لا ينتهى مداه.. أو كوجه دائري بعنق صغير يحاول أن يكون حكّاءً.
كان يخرج من ذلك البوق -لو حاولنا انصافه وصفاً- لحناً لم تسمعه هي من قبل.. وكلما اقتربت منه كانت تسمع غناء خافتاً يتخلل تلك الموسيقى، بلغتها الأم.. تلك التي نسيت أنها عرفتها يوماً، كانت تحاول أن تفهم تلك اللغة بصعوبة؛ لم تعرف.

رفعت ابرة القراءة عن الاسطوانة لأن ذاكرتها دخلت في عاصفة من  الأفكار بعد التلامس الذي حصل بين الماضي والآن.. أخذت تقلب عينيها في المكان بإمعان، لأن حميميته استدعت ذلك، هل المكان موجود في ذاكرتها المنسية؟ أخذت تتأمل في الأرفف طويلاً إلى أن وقعت عينيها على أسطوانة من الواضح أنها موضوعة بطريقة أكثر عناية من غيرها؛ في صندوق خشبي محكم إغلاقه. أخذت الصندوق دون حذر، وفتحته.. وضعت الاسطوانة بسرعة وكأن الوقت يساومها على تلك اللحظات إن لم تستغلها بشكل سريع ستنتهي إلى اللاشيء. غنت على وقع تلك الموسيقى غير المعروفة وبدأت الرقص في تلك المساحة المكللة بالألوان والمزخرفة بدقة وجمال يفوق الوصف.. حكم شعورها عن تلك اللحظات بالأبدية..
رفعت أحد قدميها ووقفت على أطراف اصابعها و أثنت قدمها الثانية ثم رفعت يدها نحو البعيد ودارت حول ذاتها.. ناصبة رأسها إلى الأمام متتبعة اللحن.. مبتدئة تلك الرقصة بدندة مع التغني بشعر تفجر معناه في لحظتها، لم تكن تعرف هل كان محفوظاً مسبقاً في الذاكرة أم أنها اخترعته حينها.. لم تكن تعي أنها كانت تصنع في تلك اللحظات أغنية أبدية، وأبديتها في كون أن ذلك الغناء يسجل على الاسطوانة دون أن تعرف.. فكم من أحد سيعبر هذا المكان لاحقاً وسيسمعها؟ كانت الاسطوانة الضخمة قد سجلت صوتها.. همساتها، شعرها وأغنياتها.. كانت تتدرج النوتات تباعا بتناغم فريد بين شعرها والسلالم الموسيقية.. صولو الكمان يتداخل مع القانون ويقاطعهم الناي أحيانا لتتشكل المعزوفة الكاملة.. أما البيانو فلم يكن موجوداً في تلك اللوحة.
كانت تتراقص كدمية أحيانا.. ترتجل حركاتها بعينين مغمضتين.. مستعيرة تلك الخفة من ذاكرتها القديمة.. تلك المتطبعة بالعادات التي اكتسبتها في رحلتها الطويلة بعيداً عن مسقط رأسها.. فتحت عينيها.. رأت صورتها منعكسة على مرآة لم تلحظها منذ البدء.. كانت صدمتها قوية حين رأت ملامحها في سن تجاوز الخمسين وقد امتلكت تلك الروح الشابة التي من شبابها كانت قادرة أن تصوغ الأبدية في كل لحظة.. كانت قد شكت في أنها تسكن ذلك المكان أبداً ولم تغادره منذ شبابها.. لكنها مخطئة.

أصالة الفن العربي؛القدود الحلبية

img_20161107_205830* نشر في ساقية
إن أردنا التحدث عن الفن العربي الأصيل في الطرب والنغم، فلابد لحلب أن تكون المعنية والمقصودة بهذه الأصالة من حيث اللحن والكلمة. فمنذ سنين طويلة اهتم أهل حلب بالموسيقى بشكل لافت، فلصوت أهلها حلاوة، ولأناملهم جهود في صناعة اللحن، وما لا نختلف عليه هو أن أهل حلب متذوقين وسمعيين غير تقليدين. وبرعت حلب في الموسيقى الدينية وعرفت بشكل خاص بالقدود الحلبية حيث نشأتها. ومن المعروف أن القدود الحلبية هي أكثر أنواع الفنون التي استطاعت أن تحافظ على الإرث الموسيقي العربي لأنها كانت قادرة دائماً على أن تكون ذاكرة شعبية، و متواجدة في أغلب المحافل كالموالد إن أشرنا للمناسبات الدينية، أما الدنيوية فلا يكاد يكون هناك مسرح من مسارح حلب الطربية لا تتغنى بهذا اللون الطربي العريق. ولا نستطيع أن نفصل الطرب الحلبي عن الموشح الأندلسي والقصيدة، الموال، الأغنية الشعبية، فيقول الفنان (عيسى فياض):

مع ضعف السلطنة العثمانية تنامت حركات تحررية وتنويرية عديدة وازدادت وتيرة الوعي القومي وبدأت مرحلة نهضوية شاملة عملت على التخلص من الهيمنة الثقافية التركية فتنادى المفكرون والأدباء والشعراء إلى التأليف والتعريب لتأكيد الهوية العربية المفقودة , وأغلب الظن أن “القدود” قد عرفت بشكل جلي في تلك الفترة (أي منتصف القرن الثامن عشر) إذ من العسير جداً تحديد تاريخاً مؤكداً لنشوء “القد“، أما مصادر نشأته الأساسية فهي:

  1. الموشحات الأندلسية والأناشيد الدينية؛ الموالد والأذكار.

  2. الأغاني والموشحات الأعجمية؛ تركية، فارسية.

  3. الأغاني الشعبية والتراثية ذات السوية الشعرية المتدنية.

في فترة من الفترات انتشر أن تعريف القد مأخوذ عن قد المرأة من حيث الرشاقة والجمال، لكن أغلب الباحثين ينفون هذا التعريف، بل عرفوا القدود على أنها منظومات غنائية أنشئت على أعاريض وألحان دينية أو مدنية بمعنى أنها بنيت على قد ،أي  على قدر أغنية شائعة إذ تستفيد من شيوعها لتحقق حضورها. أما الفنان (عيسى فياض) فقد قال نقلاً عن الباحث الأستاذ (عبدالفتاح قلعة جي):

كلمة “قد” تعني المقاس. فالألحان الدينية كانت تخرج من الزوايا الصوفية لتبحث عن كلمات فيها الغزل وفيها القضايا الاجتماعية، فيبقى اللحن الذي كان أساساً أنشودة دينية وتصوغ وفقه كلمات تدخل في الحياة اليومية فهذه على قد تلك ومن هنا نشأ القد.

أما من الناحية الموسيقية فالقد ليس قالباً موسيقياً بحد ذاته، لكنه يأخذ شكل القالب الأساسي الذي نشأ منه، فإن كان بالأصل موشحاً بقي كذلك، وإن كان طقطوقة أو أغنية بقي كذلك أيضاً من هنا نرى أن القدود اشتهرت بأسماء مؤلفيها وليس بأسماء ملحنيها (المجهولون على الغالب) فالذين ألفوا القدود هم شعراء لكنهم يمتلكون ذائقة موسيقية جيدة ومنهم من كان موسيقياً أيضاً.

إن حلب سيدة الموشحات، وقد بنت لنفسها ولتقاليد القد الحلبي قواعد وأساس، وقد فصّل في هذا الموضوع الباحث (محمد قجة) حين قال:

وخلال القرون الخمسة الماضية كان هذا الفن يتطور في حلب ويتفاعل مع عناصر البيئة المحلية. وأصبح للموشح الحلبي صورته الفنية المستقلة بالإيقاع والضرب والأداء والكلمة. وتجاوزت ضروب الموشح الحلبي بفروعها وتفاصيلها المائة. وأصبحت لها قواعدها وأسسها وتقاليدها وبلغ هذا التطور ذروته في القرن الماضي نصا ولحنا وغناء.‏ ولا يمكن الفصل بين الموشح والألوان الغنائية الأخرى، فكلّها قد نضجت وتطورت في مدينة حلب. القصيدة ـ الموّال ـ الأناشيد الدينية ـ الأغنية الشعبية ـ النوبة الأندلسية … الخ . وفي الواقع فإن الزوايا والتكايا الصوفية التي عرفت حلقات الذكر والأناشيد الدينية كان لها دور كبير في تطوير فن الغناء في مدينة حلب. ولا تزال “الزاوية الهلالية” التي يرأسها اليوم الشيخ (جمال الدين الهلالي) مستمرة في عطائها الصوفي والفني منذ أربعة قرون . وقد تخرج منها عدد كبير من أعلام الإنشاد والموسيقا من أمثال:‏

  1. الشيخ (مصطفى البشنك) في القرن الثامن عشر (ت 1765) . وقد تتلمذ على يديه عدد من أئمة الفن الموسيقي.‏
  2. الشيخ (محمد الوراق): الشاعر والملحن والمطرب. وصاحب الموشحات والقدود والقصائد. وهو الذي أعطى الشكل النهائي لفصل “أسق العطاش” المشهور. ومن موشحاته المعروفة:‏

    زارني المحبوب في رياض الآس‏

    روق المشروب و ملا لي الكاس

  3. الشيخ أبو الوفا الرفاعي الشاعر والوشاح والزجال – ومن أجمل موشحاته:‏

    يا مجيبا دعاء ذي النون في قرار البحار‏

    استجب دعوة المحزون قد دعا باضطرار‏

ومنهم أيضًا: الشيخ (أحمد عقيل)، الشيخ (صبحي الحريري)، (عبد اللطيف تنكجي)، (فؤاد خانطوماني) وصولاً إلى المرحلة المعاصرة مع كبير المنشدين (مسعود خياطة).‏

وعلى مستوى آخر كانت هناك مدرسة الفن الموسيقي القائمة على أسس علمية منهجية يمثلها الشيخ (علي الدرويش) الذي يعتبر أستاذ عدة أجيال في سورية ومصر والعراق وتونس في مجال التأليف والتلحين الموسيقي. وفي مجال إحياء التراث الأندلسي والمشرقي والربط بينهما.

وإن ذكرنا لفظ “القدود” فيما يتعلق بالطرب، فإن القدود الحلبية، و(صباح فخري)، و(صبري مدلل)، (حمام خيري)، (محمد قدري) دلال هي ما تأتي على البال، فيقول الفنان (عيسى فياض):

إن ارتباط القدود بمدينة حلب دون غيرها فمرده إلى أمرين اثنين:

  1. احتضان حلب للعديد من الفنون الموسيقية الوافدة إليها بسبب موقعها التجاري والفني الهام، ومن تلك الفنون قدود الشيخ (أمين الجندي) الذي جاء إلى حلب برفقة (إبراهيم باشا) عندما زحف إلى سوريا العام (1831)م وجعل من حلب قاعدة لعملياته العسكرية، وقد كان الجندي من المقربين إليه وجعله من خاصة مستشاريه، وخلال إقامة الجندي في حلب واحتكاكه بأهل الأدب والفن تم التعرف على قدوده وانتشارها من هناك في حين اقتصر غناء قدوده في حمص على الجلسات والسهرات البيتية والنزهات على ضفاف العاصي.
  2. وهو الأهم، نشوء الإذاعة في حلب مما ساعد على توثيق وتسجيل العديد من تلك القدود ضمن وصلات الغناء التراثية التي سجلتها وبثتها الإذاعة وتعرف عليها المستمع بأصوات عدد من المطربين الحلبيين الكبار والذين اشتهروا بغناء هذا اللون أمثال: (صباح فخري)، (محمد خيري)، (عبد القادر حجار)، (مصطفى ماهر)، (سحر)، (مها الجابري). فأضحت تلك القدود جزءاً أساسياً ضمن الوصلة الغنائية الحلبية، وكان قد أدرج عدد منها في نهاية الفاصل الشهير “أسقالعطاش“.

حين تأصلت فكرة القدود عن حلب، وانتشرت تلك المعرفة، وصارت عالمية، نتج عن ذلك أن انتسبت الكثير من الموشحات والطقوقة لمسمى “قدود” نظراً لأن مشاهير الحلبيين قد غنوها، فيقول في ذلك الفنان (عيسى فياض):

هناك مسألة فنية تتعلق بالقدود يجب الإشارة إليها، حيث يتم إدراج العديد من الموشحات والأدوار والطقاطيق لعدد من الفنانين العرب تحت مسمى “القدود” من مثل:

  1. موشح حبي دعاني للوصال“، “طقطوقة سيبوني يا ناس“، “طقطوقة حرج علي بابا” لـ(سيد درويش).
  2. طقطوقة يا مسعد الصبحية“، “أغنية يا مال الشام“، “أغنية يا طيره طيري يا حمامة” لـ(أبي خليل القباني).
  3. موشح ملا الكاسات“، “دور أصل الغرام نظرة” لـ(محمد عثمان).
  4. طقطوقة صيد العصاري“، “دور بين الدلال والغضب” لـ(داوود حسني) وغيرها من الأعمال الموسيقية.

لذا أرى أنه علينا الإشارة إليها كقوالب مستقلة عن القدود، وهنا لابد من الإشادة بالفضل الكبير للدور الهام لمدينة حلب وفنانيها في حفظ وتوثيق وإشهار تلك الأعمال الموسيقية ؛ “قدود – موشحات – أدوار – طقاطيق” سواء بتسجيلها إذاعياً أو بغنائها ضمن الوصلات الغنائية الحلبية، كما ويجب التنويه إلى الدور الريادي الهام لمدينة حلب في المجال الموسيقي وما أبدعته من موشحات وأغانٍ أثرت المكتبة الموسيقية العربية بكنوز نادرة أنتجها كبار الفنانين الحلبيين أمثال: (عمر البطش)، (بكري الكردي)، (علي الدرويش)، (أحمد الأوبري)، (نديم الدرويش)، (عبد القادر حجار)، (بهجت حسن)، (صبري مدلل).
إضافة إلى بعض القدود التي تم ذكرها سابقاً، هناك العديد من قدود (الشيخ الجندي) التي لا تزال تغنى إلى الآن في حمص منها:

  • ما العمر إلا مدة الربيع” – نغم صبا.
  • إن لم تشهد ذا المشهد” – نغم بيات.
  • يا من عقدت طفلاً” – نغم حجاز.
  • “للأغيد الألمى” – نغم بيات.
  • “يا غصن بان يسبي” – نغم راست.

وإضافة لذلك فإننا يجب أن نعرف جيداً أن حلب لم تشتهر فقط بالقدود بل بالمواويل أيضا، من حيث أنها تراث أصيل، وفن له محبين، وقد ذكر في ذلك الباحث (محمد قجة) حين قال:

لقد تحدث كثيرون من الباحثين والمؤرخين واللغويين عن هذه الكلمة، ونجد هذا الحديث عند (ابن خلدون) و(الأبشيهي) و(البستاني) و(شوقي ضيف) وعدد من المستشرقين. وتكاد تنحصر الآراء في أن أصل الكلمة يعود إلى “مواليا” وأن نشأة الموال تعود أواسط العراق منذ القرن الثالث الهجري، وتعيد بعض الدراسات هذه النشأة إلى ما قبل الميلاد حينما كان الأسرى العرب لدى الآشوريين ينادون‏

اليلي” ومنها صارت يا ليلي!‏

لقد استقر الموال إيقاعياً على وزن البحر البسيط، وهو في جميع اللهجات العربية على هذا الوزن سواء أكان حلبيا أم بغداديا أم مصريا أم فلسطينيا … الخ.

والشكل الذي أخذه في حلب ـ على الأغلب ـ هو السبعاوي الذي يسمى أيضا‏.

الشرقاوي” وتأتي أشطره الثلاثة الأولى على قافية ثم الثلاثة الأخرى على قافية، ثم تعود القافية الأولى في الشطر الأخير. ومن أمثلته:‏

عينك تنام و عيني ساهرة ليلى‏

و من يوم فقد الولف ما دقت الهنا ليلى‏

أنا كسيح درويش و الحق ظعنهم ليلى‏

لا تفتكر يا وليفي بيناتنا ماضي‏

و سيوف لحظك لجوات الحشا ماضي‏

و أن كان أصلك ذكي اتفكّر الماضي‏

يا جامع الشمل تجمعني بهم ليلى‏

وعرفت حلب الموال الأربعاوي والخمساوي والتسعاوي والعشراوي والتنعشاوي بنسب أقل بكثير من السبعاوي. وعادة ما يقال الموال ارتجالا في السهرات والأمسيات الغنائية وله زجالوه المشهورون الذين يتبادلون الحوار والمناظرات بالمعاني والأغراض المختلفة.

نلحظ من خلال تتبعنا لهذا الفن أنه حتى وإن وجدت مدرسة له، فإننا نعرف أن كبار ورواد هذا الفن أخذوه مشافهة أي بالتلقين المباشر، والتواتر إن صح التعبير. وقيل أنه الطريقة تكون كالآتي، أن يجتمع الراغب في أخذ هذا الفن لدى الأستاذ مع مجموعة من الأصوات الواعدة فيأخذون النص مقطعاً إثر آخر مشفوعاً بإيقاعه بعد التعرف على مقامه او  أن يتم بحضور المتلقي مرات متتالية لسماع مجموعة من النصوص اللحنية ثم يحاول غناءها وعندما يتأكد الحفظ ينضم الى مجموعة المرددين الى أن يصبح عضواً في فرقة الإنشاد ويبدأ طريقه الخاص .

(صباح فخري):

(صبري مدلل):

(حمام خيري):

https://www.youtube.com/watch?v=Ha818Z0b0Ug


المصادر: [1] – [2] – [3] – [4]

حديث بحر، ضجيج قوارب

apr2012a-014-550

النص الرابع من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

كانت تسير محاذاة البحر بعفوية، دون تحديد وجهتها، إلى أن وصلت قبيل الغروب لمساحة خاوية تماماً من البشر. كل القوارب الصغيرة تصطف هناك، عارية من الأشرعة.. رمت بجسدها على كرسي قد تلبس سطحه البرد، فارتجفت حال ماتلامس جسدها بذلك السطح المتجمد.. التزمت الصمت والهدوء، ففضاء المكان لم يكن يتسع لأصوات البشر، كلماتهم، لغتهم، حماقاتهم، شتائمهم وسبابهم. شعرت نفسها في تلك اللحظة بأنها تقف من خلف الباب وتنظر من الفتحتة الصغيرة كطفل فضولي يحاول معرفة مايجري خلف الجدار.. إنها تحاول فك رموز الصوت الآتي من احتكاك الجماد بالطبيعة!
في حركة الأمواج تربيتة للقوارب العارية، هكذا كانت تسير الأفكار داخل عقلها، فكلما زادت الحركة كلما استفاضت القوارب في اعترافاتها، كانت تستمع بصمت و تصر في نفسها بأن أزيز القوارب هو حديث مهم منها للبحر. تلك القوارب تحاول في كل مرة أن تفشي للبحر كل الأسرار البشرية، وماعلق فيها من آثام تخصهم، كذلك أحاديثهم السافرة المتروكة وراءهم. كان حديث البحر أحياناً يزيد من ضجيج القوارب، ذلك حين يكونان أكثر وفاقاً ربما، أو أكثر تعارضاً. ففي النهاية يجب أن لا ننسى بأن القوارب كآلآت مصنعة ليست إلا نتاج عقلية ذلك البشري، ولابد أن تكون ممتنةً أحياناً لذلك الخلق..
أما عن التفسير الوحيد لهبوط النوارس من السماء لتقف على وجه البحر ثم بسرعة خاطفة تعود لبطن السماء، هي أنها تريد القول بأنها ممتنة لأجنحة مكنتها من الهرب. الهرب من معتقل الإنسان الذي يعشق السيطرة على العالم والآخرين.. إن هذا الكائن البشري لا يقترف الآثام تجاه من يشبهه فحسب، بل شره يطول من لا يشبهه أيضاً.. ربما النقيض والضد هم الأكثر عرضة من أن يكونوا تحت الإغتيال وأقرب للكراهية.

تنهدت تلك الفتاة الجالسة على كرسيها،وهزت رأسها بقوة محاولة تشتيت أفكارها المزعجة، لأنها عرفت بعمق أكثر أنها مصابة بداء الواقع، فعقلها لم يسعفها لتأمل الكون بصورة متسعة، تأملت الحياة من منظورها الواقعي لتسقطه على عالم آخر لا علاقة مباشرة له فيه.. اقتربت وصعدت على أحد القوارب.. لم يشاهدها أحد.. أخذت فيه جولة سريعة وفي أثناء ماكانت تنزل من القارب، سمعت صوتاً يأتي من الخارج، كان صوتاً حميمياً أقعدها مدة أطول.. كان لحناً دافئاً يخرج عن أوتار البزق.. أسندت ظهرها وتركت نفسها تغيب عن الواقع لساعتين متواصلة بل أكثر.. كانت خلال تلك الساعات تغسل دواخلها سبعاً ليزول البأس راجية أن يكون جمال ذلك الصوت تمهيداً لسعادة أبدية.

مخاطر العقلانية من وجهة نظر إدوارد سعيد

Edward_Said

*نشر في ساقية

إدوارد وديع سعيد (1935 – 2003) مُنظر أدبي فلسطيني وحامل للجنسية الأمريكية. كان أستاذا جامعيا للغة الإنكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية ومن الشخصيات المؤسسة لدراسات ما بعد الكولونيالية. كما كان مدافعا عن حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني، وقد وصفه (روبرت فيسك) بأنه أكثر صوت فعال في الدفاع عن القضية الفلسطينية.

20152809212815

تحدث كتاب (إدوارد سعيد من تفكيك المركزية الغربية إلى فضاء الهجنة والاختلاف) عن دراسة تحدثت عن أحد أمثلة مخاطر العقلانية التي تحدث عنها (إدوارد سعيد) وكان “الاستشراق” موضوعها بأنها:

يتميز تمثيل الشرق الذي نقله مجمل الإنتاج العلمي للمستشرقين في القرن التاسع عشر بتماسكه وعقلانيته كما يقول (سعيد). بفضل الوضعية العلمية، أصبح العالم الشرقي الغريب والفوضوي مفهوماً للقارئ الغربي، ووفر لرجال السياسة لغة جعلت خطابهم ممكناً وذا مصداقية. هذا الترابط المنطقي، يقول (سعيد)، بأنه وهمي واستيهامي. ليس هذا الترابط المنطقي سوى نتيجة لتأثير أنتجه أسلوب التصنيف، هذا النظام المغلق الذي يُعطي الشعور بالاكتمال والموضوعية العلمية، لكنه يخفي المحتوى الأيدلوجي للخطاي الاستشراقي والثغرات والتحيز الذي يستند إليه. إن كتاب (المكتبة الشرقية) للمستشرق (هيرلبوت) الذي نشر في 1697، والذي سيكون بمثابة نموذج لكتاب وصف مصر يقدم، حسب (سعيد)، مثالاً على هذه المعرفة التي تخفي عقلانيتها وتنظيمها الأبجدي “أساطير إيديولوجية“.

في كتاب علمي مثل (المكتبة الشرقية) الذي هو نتيجة لدراسات وبحوث منهجية، يفرض المؤلف نظاماً على المادة التي اشتغل عليها، بالإضافة إلى ذلك، يريد أن يفهم القارئ جيداً بأن هذا الكتاب عند طباعته يمثل حكما منظماً ومنضبطاً عن هذه المادة “الشرق“. ماينقله كتاب (المكتبة الشرقية) هو الفكرة القائلة بأن قوة الاستشراق وفعاليته تذكر القارئ في أي مكان أنه من الآن فصاعداً لكي يفهم كنه الشرق، يجب عليه أن يمر عبرالخطابات والرموز الثقافية التي قدّمها المستشرق الأوروبي.

هكذا، خلق الاستشراق ، حسب منظور (سعيد)، تحت ستار التبحر العلمي الممنهج، نظاماً ممن التمثيلات الوهمية عن واقع قائم أساساً على وحدة جغرافية وثقافية ولغوية وإثنوغرافية، في حين أن هذا التقليد الأوروبي “الاستشراق” يستند إلى تشظي وتقسيم تعسفي لهذه الوحدات. بسبب وهم الترابط المنطقي لظاهرة الاستشراق والسعي إلى فهم فوضى الشرق، سيطر الغرب على الشرق، لكن هذا الشرق لم يكن في غالب الأحيان سوى تسلية واستجمام للمستشرقين لأن محتوى الدراسات الاستشراقية يستند حسب منظور (إدوارد سعيد) إلى “أساطير إيديولوجية“. لدعم وجهة نظره، يستند (سعيد) إلى أمثلة التعامل مع اللغة العربية وتمثيل (النبي محمد) الذي اعتاد كتاب (المكتبة الشرقية) إنتاج صورته كدجال على شاكلة الصورة التي كانت موجودة من قبل العصور الوسطى أو العمل الشهير (الكوميديا الإلهية) للكاتب الإيطالي (دانتي).

في هذا المستوى من التحليل أيضاً، من الواجب التلويح بعدد من التحفظات. يخص التحفظ الأول مرة أخرى الطابع المنهجي لتحليلات (سعيد) الذي لاتميل إلى المتون العلمية الغزيرة التي اشتغل عليها فيه إلى إبراز الاختلافات والفروق الدقيقة لفكر الكتّاب، بل تسعى إلى إثبات تواطؤ لغتهم والنفاق الواعي أو المستتر لنواياهم. على شاكلة العلماء الذين كان إنتاجهم موسوعياً وغزيراً، تبنى علماء اللغة مثل (إرنست رينان)، وعلماء النحو مثل (سيلفستر دو ساسي)، نظام تصنيف، يؤكد (سعيد) أنه فتّت المعرفة وأصابها بالتشظي، وخلق بالتالي فجوات ملائمة لتطوير الأساطير الايديولوجية.

إذا كانت أعمال المؤلفين الذين تم الاستشهاد بهم تنقل صورة سلبية عن الإسلام والشرق -وهو المناسبة ليس الشيء نفسه، لكنه يتطابق عن قصد في منظور (سعيد)- فإن هذه الصور لا تنشأ بالضرورة من هذا الوعي بالتفوق الغربي واحتقار الآخر والايدولوجيا الاستعمارية. إن أراء (دانتي) و(سلفستر دو ساسي) و(إرنست رينان)، إذا كانت تطلق أحكاماً سيئة عن الدين الإسلامي أو الثقافة الشرقية، فهذا لا يعني بالضرورة أن تفكيرهم تهيمن عليه إيديولوجية قديمة تحصرهم في اجترار الخطاب نفسه والأحكام نفسها واستنساخهما.

إن التصور الذي نملك،على سبيل المثال، العبودية والعنصرية والاستعما، لم يعد يخضع للمعايير نفسها. إذا فشل المستشرقون في التخلص من الايديولوجيا الاستعمارية التي تبقى موضع تساؤل، فإن العمل الهائل الذي قاموا به، وبعيداً عن خلق صورة وهمية خيالية عن الإنسان الشرقي، قدّم لهذا الأخير مجموعة هائلة من المعلومات تسمح له بتشكيل تاريخه وثقافته. هل في وسع المرء اليوم أن يُنكر إسهام (شارل أندري جوليان) و(جاك بير) في البحث التاريخي في المنطقة المغاربية؟ ماهي المواد العلمية التي  استخدمها (ادوارد سعيد) عن الشرق، إن لم تكن كما يبين ذلك جيداً كتابه سوى أعمال المستشرقين؟

ومع ذلك، إذا كان كتاب (ادوار سعيد) كان قد خلق ضجة في أوساط المستشرقين وأتاح للأوروبين تغيير نظرتهم للشرق، فإنه عزز لدى المثقفين العرب رفض الآخر، ورسخ بشكل عميق الكولونيالي، ومنح قاعدة فكرية للأفكار الأصولية؛ باعتماد لغة جدلية في حدتها، وتقييد حقل الدراسة في غايات إيديولوجية.

حدث متخيل ..

who-am-i

النص الثالث من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..

جلست على أريكتها المفضلة أمام شاشة التلفاز. وقبل أن تضغط جهاز التحكم لتتابع مسلسلها الذي سيبدأ بعد 3 دقائق، رأت نفسها على الشاشة، شغلها الأمر كما لم يشغلها من قبل.. انعكاس مألوف، عادي، وطبيعي. فهي تجلس كل يوم في مثل هذا الوقت، في نفس هذه الأريكة وبنفس هذه الطريقة ولا تأخذ هذا الانعكاس الظاهر لنفسها على الشاشة كمرأة على محمل الجد. قد مضت أيامها ضمن هذه المعرفة البديهية دون أي ارتباك، أي أنها لم تستوقفها تلك المعرفة للمحاسبة والسؤال من قبل.. فلماذا اليوم؟ وهذه الساعة تحديداً؟

أخذت تراقب نفسها، تحرك يديها، ترفع قدميها، تبتسم، وتبكي، وحولت تلك المراقبة لبضع مشاهد هزلية وجادة في الوقت نفسه. كانت قد تخيلت أنها تستطيع أن تؤدي الأدوار ببراعة وإتقان ضمن سلسلة طويلة من الانفعالات. وبعد تأمل نفسها لنصف ساعة قررت أن تؤدي مشهداً عابراً، علّ الشاشة الذكية تلتقطه دون علمها. فبدأت تمثل دور توأمين هي على أرض الواقع، وتوأمها الظاهر في الشاشة.
كان التوأمان قد انفصالا لسنين طويلة، ولم يلتقيان لعدة سنوات، وحال ما رأى كل منهما الآخر، بدأت بتقمص الشخصية، وحاولت أن تظهر تفاصيل الصدمة من رؤية توأمها الجاثم أمامها بشكل ملفت ومتقن جداً، كانت تحاول فعلياً أن تمثل الدور على أكمل وجه. كانت تقف وقد اتسعت عيناها من هول المفاجأة، وانفرجت شفتاها عن بعضهما في ذهول بعد أن كانتا مطبقتين. أخذت تقترب إلى انعكاسها ونفسها، وتوأمها كما يبدو، ببطئ، بل ببطئ شديد.. كما أن الآخر بدوره -الانعكاس- كان يقترب إليها في ذات الوقت، كانت طريقة الاقتراب المتبادلة لطي المسافات تثير اهتمامها في تلك اللحظة. فعَبر سؤال على ذهنها يقول: ماذا سيحصل لو أننا والآخرين اللذين نحبهم نطوي المسافات إلى بعضنا بذات الطريقة على الواقع أيضاً؟! لم تجعل السؤال يشغلها، فقد كان اللعب على هذا الدور أهم في نظرها من أي شيء آخر الان.. رؤية نفسها تؤدي دوراً درامياً مختلفاً بشكل جدي ويحمل أطناناً من المشاعر المختلفة أمر لا يتكرر، وربما لن يحدث مرة أخرى!
كانت تقوم بتفعيل تلك المشاعر المتراكمة داخلها من وحي السنين داخل ذلك المشهد، تلك المشاعر التي لا تعرف كيف تظهرها على نحو طبيعي أمام من تحبهم من الأصدقاء، بل وحتى أمام أخوتها في الواقع! كانت تفعل ذلك أمام نفسها بجرأة كبيرة بل برصانة وعمق.. حتى أنها كانت تعيشه بحواسها كاملة كما لو أنه حدث حقيقي .. كان لقاءً كما يبدو عن قرب -أي من داخلها- حميماً وصادقاً و لكنه من زاوية الواقع ليس كذلك. فهي تعرف جيداً أنهما شخص واحد على أي حال، أي ليس هناك لقاء على وجه الحقيقة. ورغم ذلك فعند وصولها نقطة الإلتقاء بتوأمها، أخذت تبكي بعمق شديد، بشكل هستيري لم تفعله من قبل! خصوصاً وأنها كانت لا تستطيع الانتقال إلى نفسها فعلياً ولا احتضانها بعد هذا الفقد الطويل، ذلك الفقد غير الواضح أو المبرر. لكنها عاشت تلك اللحظة من جذورها، ثم أكملت التمثيل من بعد كل ذلك السيل الجارف من المشاعر الحقيقية، بمشاعر من أستطاع أخيراً أن يصل إلى توأمه، دون وصول.
أدت المشهد بشكل يفوق الوصف، متقن لدرجة أن يوماً ما بعد عدة سنوات، عاشته مرة أخرى وقد تقمصت فيه ملامح حُفرت فيها كثير من المشاعر المختلطة. دفعتها لتمسح للآخر دموعه بمدها يدها إلى وجهه، كانت تمثل ذلك بصمت يحمل الكثير من التعابير إلا من رجفة بكاء تحاول عدم التعري، وعند اللحظة التي اقتربت فيها لتخترق بيدها الشاشة على أمل الوصول إلى نفسها وتوأمها المقابل بشكل حقيقي.. في تلك اللحظة بالذات صفق الجمهور، صفق بشكل متواصل! كان جمهوراً حقيقياً، على مسرح حقيقي. كان يصفق بحماسة وبإعجاب شديد لأنها أدت دورها بشكل مدهش ومتقن.. كانت تؤدي الدور على المسرح بشكل استثنائي، فستحقت تلك التحايا، واستحقت ذلك الجمهور.

رسائل بين تولستوي و الإمام محمد عبده

%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d9%87-2

*نشر في ساقية

كان الأديب الروسي (تولستوي) والإمام (محمد عبده) يعيشان في نفس العصر، فـ(تولستوي) عاش بين الفترتين (1828م-1910م) وكان الإمام أيضاً قد عاش بين الفترتين نفسهما (1828م-1910م).
وقد كان الاثنان كل منهما “كاتباً” يقر مكانة الكلمة ويعتبرها وثيقة آدميتنا حتى لو كان (تولستوي) نبيلاً إقطاعياً.. والإمام داعية إسلامياً.

هناك رسالة كان قد كتبها (محمد عبده) إلى (تولستوي) وهي موجودة حالياً كمخطوطة عربية في متحف (توليستوي) قال فيها:

أيها الحكيم الجليل مسيو (تولستوي)، لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكننا لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس العقلاء ونفسك، هداك الله إلى معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها، ووفقك إلى الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعبأ ترتاح به نفسه، وسعيا يبقى ويرقى بها جنسه.
شعرت بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة، استعملوا قواهم التي لم يمنحوها ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم، وزعزع طمأنينتهم، نظرت نظرة في الدين، فرقت حجب التقاليد، وصلت بها إلى حقيقة التوحيد ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ماهداك الله إليه، وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه.
فكما كنت يقومك هادياً للعقول، كنت بعلمك حاثاً للعزائم والهمم. وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي به الضالون، كان مثالك في العمل إماماً اهتدى به المسترشدون. وكما كان وجود توبيخاً من الله للأغنياء، كان مداداً من عنايته للفقراء.
هذا وأن نفوسنا لشيقة إلى مايتجدد من آثار قلمك، فيما تستقبل من أيام عمرك والسلام.

(محمد عبده، مفتي الديار المصرية 2 أبريل 1904).

854

كان لـ(تولستوي) رداً على تلك الرسالة.. فقد تجاوب مع الإمام بشكل لائق كما ترجمت في كتاب (ورثة تولستوي)، مبتدئاً رسالته بـ”صديقي العزيز“:

لقد تلقيت رسالتكم الطيبة الحافلة بالمديح وها أنذا أسارع بالرد عليها مؤكدا لكم أولا السعادة الكبرى التى أعطتنى إياها إذ جعلتنى على اتصال برجل متنور.. حتى ولو كان ينتمى إلى إيمان يختلف عن إيمانى الذى ولدت فيه وترعرعت عليه.. ومع هذا فإنى أشعر بأن ديننا واحد ـ لأنى أعتقد أن ضروب الإيمان مختلفة ومتعددة. وإنى لآمل ألا أكون مخطئا إذ أفترض ـ عبر ما يأتى فى رسالتكم ـ بأننى أدعو إلى الدين نفسه الذى هو دينكم.. الدين الذى يقوم على الاعتراف بالله وبشريعة الله التى هى حب القريب ومبادرة الآخر بما نريد من الآخر أن يبادرنا به.. إننى مؤمن بأن كل المبادئ الدينية الحقيقية تنبع من هذا المصدر والأمر ينطبق على كل الديانات.. وإننى لأرى أنه بمقدار ما تمتلئ الأديان بضروب الجمود الفكرى والأفكار المتبعة والأعاجيب والخرافات.. بمقدار ما تفرق بين الناس بل تؤدى إلى توليد العداوات فيما بينهم.. وفى المقابل بمقدار ما تخلد الأديان إلى البساطة وبمقدار ما يصيبها النقاء تصبح أكثر قدرة على بلوغ الهدف الأسمى للإنسانية ووحدة الجميع. وهذا هو السبب الذى جعل رسالتكم تبدو لى ممتعة وفى النهاية ارجو أن تتقبلوا يا جناب المفتى تعاطف صديقكم .. تولستوي.


[المصدر]