مزيج : 2019

تجربة في موقف !

لا أحب تصنيف التجارب، ولا الحكم عليها، لأن كل ما أعرفه خلال نفسي هو أن التجربة ماهي إلا حكاية خاصة جداً، تخصك وحدك، بمعنى أني لا أصدق بيقين تام أن التجارب هي تلك فقط التي تنحاز للمخاطرة بتسلق جبل ما، أو النوم في الصحراء .. التجربة بالنسبة لي، هي تلك التي تحرك فيّ شيئًا، تثريني وتنمي تحت جلدي شيئًا يخصني، فأتحول في هذا الجزء والتفصيل الصغير من كائن تنظيري لكائن تجريبي وأفهم المسألة ليس بعقلي المجرد، إنما بروحي وكياني كاملاً، وهنا أنا لا أبالغ، ربما أكون حساسة تجاه الكثير من الأشياء بشكل مبالغ، لكن هذا أمر حقيقي فعلاً، حتى في أتفه الأمور، فمثلاً لطالما كان المشي، المشي الطويل جدًا والإصغاء لكل شيء أمر به من خلال عيني، وقلبي، وروحي، وأذنيّ، ويدي، وأفكاري التي تتكاثر وتتبلور، هي تجربة. ربما ستسخر مني وأنا أتحدث بهذه اللهجة التي تبسط المعنى. لكن هذا شيء تلمسته خلال هذه الفترة من حياتي .. أمشي مسافات شاسعة باستمرار، ولا أعتبر هذا المشي، هو الانتقال من نقطة لأخرى، بل هو عملية للتأمل، وللمراقبة، والانتباه، وربما حسب ماشعرت فقد تلمست شيئًا شبيهًا لما أتحدث عنه. ذات مرة قطعت أكثر من  20 كيلو متر في نواحي اسطنبول خلال نهار واحد، صافح قلبي خلالها أزقتها الصغيرة، تلفّتُ لما كتب على جدرانها القديمة، تركت لعيني بأن تعبر عيون المارة وتلحظ أرواحهم. وأنا أمشي، قررت بشكل مفاجئ الدخول ل أحد المحلات للبحث عن أسوارة لابنة أختي، قلبت كل القطع قطعة قطعة، كنت أحاول أن أجد شيئًا يشبهها تمامًا، شيء يبهجها عميقًا، خلال انشغالي بالبحث عن هذه القطعة الفريدة ، حدثني صاحب المحل قائلاً: تبدين من اندونيسيا ، فلك ملامح تشبههم. التفت إليه وقد ظهرت على وجهي علامة تعجب كبيرة وصمت غريب، ربما لأني لم أظن يومًا بأن أحد غريب، في شوارع مدينة غريبة، يلمح هذا الدم القديم في وجهي، أظن بأني تلفتُ حولي لأتأكد أن الحديث موجه لي، بحثت في أرجاء محله الصغير عن مرآة لأنظر لنفسي، وكأني أريد أن أتأكد بأن ملامحي تلك قد انحفرت أكثر مع الزمن، لكني اختصرت الأمر وهززت رأسي موافقة على كلامه، لكن عيناي ظلتا تتسع من المفاجأة، نظرت فيه، ابتسمت، وشكرته وخرجت، فأنا لا أطيل الأحاديث مع أحد أبدًا، أطويها واختصرها قدر الإمكان، وهذا دعونا نقول بأنه ليس بالأمر الجيد، لكن اعتدته مع الوقت، وربما أدمنته، وقد صار يميزني عند البعض، ويبغضه آخرون، على أي حال، أكملت طريقي الطويل بعدها دون وجهة محددة، وخلال عبوري أحد الشوارع، استوقفتني بائعة أزهار متجولة تقف على الرصيف المقابل، نظرت إليّ مبتسمة، و حال ما حطت قدمي على الرصيف الذي تقف فيه مدت لي يدها بمجموعة من الأزهار، طلبت مني بلغتها البسيطة بأن اشتريها، حاولت أن أجد عذراً مقنعًا بأني لا أحتاج أن أقطع المدينة خلال عودتي وأنا أحمل أزهارا في يدي، إلا أنها في أثناء ذلك، باغتتني بسؤالها: من أين أنتِ؟ ولا أخفي عنكم أن هذا السؤال كان قبل تلك اللحظة مزعج بشكل ما، مؤذي أحيانًا، وعنصري دائمًا، ابتسمت لها ابتسامة لا أعرف كهنها لكنها الأنسب في حين أني لا أحبذ أن أجيب عن هذا السؤال إلا في مواطن محدودة ورسمية. تركت لها التخمين الذي يعجبها، و في اللحظة التي حدثت نفسي فيها، بأن أدفع حق الأزهار، وأعيد إهدائها إليها، ادهشتني قائلة: سودانية، أو ربما صومالية؟! فابتسمت ابتسامة تكاد تشق وجهي من اتساعها، ولا أخفيكم أنه أعجبني هذا التصنيف غير المحدود لملامحي -فقد كنت قبل ساعة من ذلك اندونيسية- ولطريقتي، فاكتشفت أن دمي كثيف وأنا كثيرة وأشبه كل أحد ممكن .. ثم أن جغرافية قلبي – كما تبدو هنا- هي أوسع من أن تقتصر على جنسية واحدة أو عرق واحد كما ولّفتها منذ زمن بعيد.. عندها شعرت بأني اكتسبت موقفًا تحول داخلي إلى تجربة أصنفها بأنها روحية، لأنها ظلت ترافق ذاكرتي في كل مرة أتعرض بشكل اجباري لهذا السؤال من عابر فابتسم بقلبي ممتنة لخليط ملامحي ودمي وسمرتي قبل كل شيء.

محاولة استقلال، ربما

أعتدت منذ سنوات على السفر إلى اسطنبول لعدة أشهر، وغالبًا ما كانت بصحبة أهلي إلا القليل، أما هذه السنة، فقد كانت مختلفة كل الاختلاف، لقد عشت غالبيتها دونهم، بدأت الرحلة تقريبًا نهاية فبراير، لم تكن خطة سلسة على أي حال، لكنها بُنيت بشكل منطقي جدًا، وظروف كثيرة ساعدت ليحدث ما حدث، هي بشكل أو بآخر قرار كنت قد اتخذته من قرارة نفسي، فنحن في فترة ما نحتاج لأن نكون على مسافة من كل من نعرفهم طوال حياتنا، نحاول في هذه المرحلة أن نستكشف أنفسنا وكل روابطنا الظاهرة والخفية تجاه تصرفاتنا ومانحب ومانكره في الحياة..

قضيت 300 يوم تقريبًا بصحبة نفسي، ومن الصعب أن أحكي عن المقدرة للوصول إلى صحبة النفس لأن حديثها طويل، ولا يبدو لي أني سأتحدث هنا عن كل شي مررت فيه، فأنت حين تمضي إلى نفسك، لن يكون طريقك أخضر، وهذا تحديدًا ما لن أفصح عنه، أو أحكيه إلّا حين أكون قادرة تمامًا لخوض هذا الحديث المطوّل. لنعود لصحبة النفس، فقد غادرت موطن طفولتي، من أحبهم، حاولت فصل شعوري وروابطي بجميع الناس، رأيت كل مساوئي جلية أمامي، بصعوبة خلعت عني ماليس مني، لأجردني من كل ما ألقته الأيام على كاهلي، من تلك الأوجاع التي لم أوافق لأن تنزرع تحت جلدي، كان لازمًا علي فعل ذلك لأرى تفاصيل روحي وأتعامل مع شؤوني الداخلية بشيء من الصدق  والتجرد.. 
غادرت كل أحد وحاولت أن أجدني في هذا الطريق الطويل .. وتأكدت إننا في الحقيقة لن نعرف أنفسنا بشكل كامل مطلقًا، والإيمان بذلك في رأيي مطمئن لحد ما، للحد الذي يجعلنا لا نتفاجأ بأنفسنا بشكل جارح حين يظهر لنا ماخفيّ عنا منا ذات يوم، نحن في النهاية نتغير باستمرار.. واستمرارية هذا التغير دعنا نقول بأنها، تنجينا .. واخترت النجاة كمحاولة مني لأن أهدئ من هلعي أمام نفسي.. وأنا أكتب، صدقوني، يأتيني صوت بعيد، من خلف رأسي ليسألني: متأكدة؟ هل أنت تتغيرين؟ حقيقة لا أعرف، لكن المواقف ستهدينا الجواب، فنحن تغذينا الظروف، ويتسرب إلينا ما نحاول دائمًا الهروب منه، ويلتصق بنا ما نظن أننا قاومناه، وتجاوزناه ، لكنه يظل يظهر كالظل عند انتصاف شمسنا، ونهارنا، فننكسر ونتأوه .. ولا نعود نعرف التعامل بالشكل المناسب، ولهذا دعنا نسمي التغير المستمر ب عملية “الوعي”، والوعي هنا، يكون بمحاولتنا المستمرة في معرفة لماذا، تصرفنا بهذا الشكل؟ فتبدأ الرحلة، ويبدأ البحث عن أصل الفعل، وتداعياته علينا، وعلى مواقفنا، وعلى الأشياء والأشخاص الذين تورطوا معنا في ذلك الموقف! في الحقيقة، نحن نتنازع بين عقلنا الباطن، وبين مانحاول إصلاحه باستمرار، والخطأ من الجميع وارد، لكن الاعتذار عن الخطأ، وتحمل مسؤولية الخطأ والاعتراف به، هو الفارق بين الناس، وأظن بأني شخص يحاول دائمًا أن يحمل أوزاره على كتفيه، ويعتذر ويأسف عن أفعال لم يتقصدها، فلنحاول بأن لا نجعل وعينا يكون علينا وضدنا ، بل يكن معنا وإلى جانبنا .. وهذا ما أرجوه من نفسي، لنفسي ..
هناك تجارب، ليست من جنس “الصح أو الخطا” إنما هي تجارب، وتجارب فقط، هي التي تجعلنا نفهم النجاح والفشل، تعلمنا التمسك والتخلي، وتشرح لنا أسباب البقاء أو الهروب، تصيغ الحب في قلوبنا وتشكّله، تربكنا بفكرة المسافات والتواجد والحضور والتلاشي .. من خلال قراءتنا لها، قد ننقذ أنفسنا أوقد نهوي، لكنها دليلنا في ليالينا حالكة السواد .. دليلنا، لأيام أكثر تسامحًا مع أنفسنا على الأقل، وأكثر هدوءً ..

أصدقائي في العزلة، كتبي، والغروب، والبحر

أعيش في جنوب غرب إسطنبول، وأعتبر أن هذا الجزء من اسطنبول يشبه الهدوء النسبي، على الرغم من أن المنطقة مكتظة بطبيعة حال أي مدينة ضخمة، إلا أن وجهتي لساحل بحر مرمرة وجلوسي على الرصيف، ومراقبة الصيادين إلى ان يحين الغروب، وتأمل مساحات البحر الشاسعة، واستقبال أمواجه، وهواءه كان قد شكل بيني وبين المكان علاقة مترابطة ووديعة، فصار مناسبًا لمراقبة الشمس بشكل يومي .. وأحاديث داخلية طويلة وذكريات كثيرة، واشتياق لا يبرح قلبي وروحي، تنتهي جميعها بموجة كأنها تلقي بنفسها على قلبي فأشعر بها كتربيتة حنونة من الكون.. إنني في حالة من الجوع لمرحلة سكون عميقة، على الرغم من متطلبات الحياة السريعة ورغبة الإنجاز المجنونة، وتحقيق كل شيء في وقت قياسي، كنت أرغب بشدة أن أكف عن السرعة بكل أشكالها، كنت أجبر نفسي على البطء، وأتعلم كيف ألتقط أنفاسي، وأخرج كل مايفسد روحي مع كل موجة تقترب مني .. ولقد علمني البحر بأنه  لطالما تأخذ أمواجه السفن والقوارب وحتى رسائلنا وأصواتنا من موجة لأخرى وترتحل .. وكنت أتعامل بذات الطريقة، فأحمّلها كل أسراري وأرجوها بأن تقف على شاطئ يأبه التقاط سرّي لمن يكترث .. 
لست من النوع الذي يجلب معه كرسيا ليجلس أمام البحر، أنا أجلس على الرصيف، أقرأ كتبي وأُنزل قدمي على وجه البحر واستقبل الهواء كصديق عزيز، ما أن يلامس وجهي وجسدي حتى أشعر بشي من الراحة .. فأقرأ له بصوت عال جملة او اثنتين .. فأتخيل بأني أواسيه بعد أن دس أحدهم فيه دمعه قبل مروره أمامي .. لطالما تساءلت عن الشمس والسحب والبحر وتفاصيل السماء خلال تأملاتي.. تساءلت عن هذه العناصر التي تجعل من الغروب اليومي تجربة متفردة كل مرة، عن الألوان التي تتكاثف طبقاتها وفقا لدرجات الحرارة والبرودة كما أظن، فالسماء تكون أجمل ماتكون وهي تودع الشمس والضياء لتستقبل القمر والعتمة .. إنها تعلمنا أدب الغياب، أدب الوداع ربما ..

اسطنبولية أكثر مما كنت أتخيل ..

كنت أظن بأن حياة المدن لا تناسبني، ولهذا كرهت جدة طوال عمري، وحلمت دائما بمنزل ريفي في قمة جبل في منطقة جميلة وساكنة ، حتى اللحظة التي عشت فيها في إسطنبول المدينة الضخمة، مترامية الأطراف، لأكتشف أن الأمر ليس كما أظن، فأنا أجد إسطنبول بكل مساوئها أحب إليّ من جدة.. ثم عرفت بشكل أكثر وضوحا بأن ما أكرهه في جدة بشكل خاصة هو رتم الحياة وطبيعتها (وهنا يطول الكلام لكن لن أتحدث عنه الآن، ربما في وقت لاحق) أما في اسطنبول فلايعوقني شيء، اعتدت على المشي السهل في الحي، واستخدام المواصلات العامة. أخرج من باب البيت فأمشي دقيقتين لأصل لمحطة الباص الأولى، يأخذ مني الطريق قرابة ٢٠ دقيقة لأصل بعدها لمحطة الباص الذي يمر كشريان على امتداد الجزء الجنوبي ثم يتجه للوسط ويتعدى الجهة الاوروبية للاسيوية في غضون ساعتين على الأكثر وأكون بذلك قد وصلت لآخر محطة على هذا الخط.. وهذا الأمر يريحني لأنه لا يقيد حركتي مهما أخذ من وقتي.. ففالنهاية غالبا ما أستغل تلك الأوقات في القراءة، وتأمل الطريق والناس، وهنا سأتوقف قليلا وأتحدث عن شيء غريب حصل معي، فطوال حياتي كنت كثيراً ما أتمزق من شعور الغربة على الرغم من أني أعيش وسط أشخاص لايختلفون عني بشكل جذري على الأقل درسنا في نفس المدارس، تعلمنا بشكل متشابه، نتحدث نفس اللغة، ولطالما  استنكرت ذلك الشعور، بل كان شعور الغرابة يصيبني بمرارة عجيبة، بخلاف هذه الأيام في اسطنبول، فأنا متكيفة تماما وأنا أستقل عربة الباص دون اكتراث لأي أحاديث جانبية، أو حتى لما لا أفهمه من كلام، ربما الأمر له علاقة بالمقارنة وأنا لا أجد شيئا أقارن به نفسي مع كل هذا الجمع الغفير من الناس، فنحن نختلف كثيرًا، رغم التشابه، فربما الغربة الحقيقة التي لطالما شعرت بها، هي غربة اجتماعية. وهنا منفصلة عن المجتمع، لأن مجتمعي هو أنا، وعملي، وقلبي، وأفكاري، وكل ما أحاول القبض عليه ليقربني إليّ، فقد اخترت وحدتي فوق كل شيء، وهذا يؤكد على أن متطلبات الحياة الاجتماعية في جدة لاتناسبني وكلما خالطت وانغرست في المجتمع الذي يقدم لي قائمة من الطلبات لألتزم بها، يجعلني أصطدم بدواخلي أكثر فأنزع لا إراديا لإحساس الغربة ..
اسطنبول منحتني سهولة استقبال صديقاتي بأريحية، والتجول المفتوح، نلتقي عند نقطة، ثم ننطلع ونجوبها طولاً وعرضًا، والأمر الذي يستدعي التأمل هو كيف أني أعرف اسطنبول وأزقتها ودكاكينها، وشوارعها -رغم أني لم أسكنها إلا منذ سنتين تقريبًا – أكثر بكثير مما أعرف جدة، المدينة التي سكنتها 30 عامًا ! أظن لو تسألوا بحر مرمرة عني لنطق وأجاب، لكثرة ما كان رفيق أيامي .. لنعد لصديقاتي، ممتنة كل الإمتنان لدلال، وأسماء، ونوال، فقد عبروا بالمدينة، لكنهم أقاموا في قلبي أبدًا ..

عن الحب ..

ربما سيكون هذا الجزء الأصعب الذي سأكتبه خلال هذه التدوينة، فنحن نحلم طوال حياتنا بأن نحب، وأن نكون محبوبين، ولطالما عشت في أمل البلوغ للحظة حب عظيمة، وأحسب أني عشتها، وسأظل ممتنة لها طوال حياتي، إنها تلك اللحظة التي تحس خلالها أن الحياة للمرة الأولى تهديك المعنى منها واضحًا جليّا، ثم حين تضطر إلا الرحيل عنها، تشعرك بأن حياتك من بعدها فراغ هائل، لا تعود الدنيا هي الدنيا، تشعر بالبرد لأنك تعرف الآن يقينا أنك عشت طوال حياتك وحيدًا ، بينما الآن فقط ستمشيها وحدك. وها أنا أمشي هذه الأيام وحدي بعدما عرفت تجليات الأنس، والسعادة الفريدة. وأقول سعادة فريدة لأنها كذلك فعلاً، ربما ستصادف السعادة في وقت آخر لاحقًا، لكنها لن تكون بذات الشبه، ولا بذات العمق، ولا بذات التفاصيل، ستستقبلها، وأنت تعرف أن دمك أصبح مطعمًا بحزن نبيل، ذاك النوع من الحزن الذي تود للأبد أن يلازمك، لأنه القطعة الأخيرة من حبك العظيم .. أنه ألم الرحيل والفراق بعد الوصل والذهول .. لأنك ستكون  قد عرفت للمرة الأولى أنه لن يعوضك شيء بعد الآن .. وسترضى أن تبقي على هذا الألم كوجود نهائي لأصل ذاك الحب.. وتحفظ الذكريات كأثمن شيء يملكه وجدانك .. وتمضي حاملاً هذه الزوادة في أيامك القادمة .. وسيبقى الحب وإن انتهى الدرب ..

أمنيات تحقق نفسها في غير وقتها ..

كنت أجمع في دواخلي أمنيات كثيرة، بعضها نسيتها ، وبعضها اختلفت في عيني، وبعضها ظلت لها قدسيتها لأنها إن حدثت فستكون لحظة تحول لي في حياتي، وهي كذلك حقًا، لكنها حدثت في أشد أوقاتي حرجًا على صعيدي النفسي، ففقد كان لدّي اكتفاء من الحياة، ولست في مزاج يجعلني أعيش تفاصيل الأمنيات كما تخيلتها طوال حياتي، حققتها لأنها الفرصة التي لا أعرف متى ستعود وتتكرر، ولأني لم أنسى أنها كانت ضمن قائمة طويلة لم أعد اكترث لها بقدر ماكنت أفعل سابقًا، لكن لأجل أن تكون سويًا ومنصفًا لنفسك، ستحاول، وتجرب، و تصدق أنك فعلتها حتى دون تخطيط مسبق .. ستأخذها على احتمال أن الحياة لازالت تملك الرحابة والقدرة على إدهاشك من جديد، فتحاول بهذا الاحتمال أن تلتقط ماتحاول الأيام أن تضعه في طريقك علّها تكون مكافأة لك على صعوبات الحياة التي احتملتها طوالك عمرك .. أتذكر جيدًا، كيف دفعت تذاكر حفل ديفيد قارت دون أن أفكر مرتين، وأتذكر كيف اشتريت أول تذكرة لسفري وحدي، وأتذكر المرة الأولى التي انطلقت فيها وأنا أمسك بمقود السيارة، والمرة الأولى التي سكنت فيها ليومين في بيت أحدى صديقاتي، وأعرف جيدًا اليوم معنى أن يهاجر الإنسان أماكنه، وما أعتاد عليه، ومايحبه ومن يحبهم لأجل أن يجد نفسه أو يقترب منها ويفهمها على الأقل.. ويالها من حكاية طويلة هنا ..

مبسوطة؟

صار صعبًا علي أن أجيب على سؤال بسيط كهذا، فغالبًا يعتقد الناس بأن تجربة الانتقال لبلد جديد للعيش فيه والاستقرار هي تجربة تنقلك من الشقاء للسعادة، والحقيقة أن الأمر مختلف كلية، فأنت إذ تنفصل عن مكان مولدك ونشأتك لتبني حياتك من جديد ليس أمراً سهلاً بطبيعة الحال . لكن هناك جواب أحب أن أقوله وهو أني في هذه الفترة أحاول التأقلم، والارتياح، علّي أواصل “حلمًا ما” تراكمت عليه الأيام وتلاشى، فلدي مساحة أرحب لأبصر ما أريده، وأمضي بشكل واضح في الاهتمام بصحتي، ونفسيتي، وسلامة عقلي وجسدي .. ولأكون صادقة كل الصدق، فهذه المرحلة مرحلة العناية بقلبي .. مرحلة أن أكون كل شيء لنفسي في وحدتي.  

رسالة سيلفيا بلاث لأمها (مترجمة)

تقول سيلفيا بلاث وهي في عمرها السابع عشر في أحدى رسائلها لوالدتها:

بشكل أو بآخر لابد لي من الاحتفاظ بالسعادة والمتعة لكوني في هذا العمر “السابع عشر”. كل يوم هو يوم ثمين ومتفرد ولذلك أشعر بالحزن اللانهائي حين تعاودني فكرة أن هذا الوقت من عمري يذوب وأنا أكبر وأكبر بعيدة عن نفسي. لكن الآن، هذا العمر هو الأفضل بالنسبة لي.
أنظر في انعكاس أيامي الماضية وعمري الراحل، فأستطيع أن أرى بوضوح أن المآساة والسعادة تقفا جنبا إلى جنب وليس هذا مايهمني الان ويشغلني. مايهم هو أن نبتسم لكل ماهو غامض في هذه الحياة.
للآن أنا لا أعرف نفسي، وقد لا أعرف. لكن كل ما أشعر به هو أني حرة تماما من كل مسؤولية تعوقني عن الحياة.

في هذه اللحظة؛ أنا سعيدة. أجلس على مكتبي، أراقب الأشجار العارية المحيطة بمنزلي. دائما أريد أن أكون مراقب ومتأمل. وأريد أن اتأثر بالحياة في أعماقي لكن ليس لدرجة العمى حيث عندها لن أرى قسمتي من الوجود وياللسخرية! وقتها سأسخر من نفسي كما أسخر من الاخرين.

أخاف أن أكبر أكثر. أخاف أن أتزوج. اعفيني من طبخ ثلاث وجبات يوميا. اعفيني من الدخول إلى سجن الروتين و التكرار!

 

من أحجار داوود إلى دبابات جليات

* نشر في ساقية

خوزيه ساراماغو (1922-2010) روائي برتغالي حائز على جائزة نوبل للأدب (عام 1995) وكاتب أدبي و مسرحي وصحفي. مؤلفاته التي يمكن اعتبار بعضها أمثولات، تستعرض عادة أحداثا تاريخية من وجهة نظر مختلفة تتمركز حول العنصر الإنساني. من أبرز رواياته وأشهرها رواية (العمى) التي نُشرت في عام 1995.

في مجلة الكرمل، العدد ٧٢/٧٣ عام ٢٠٠٢، ترجم الأستاذ (سهير عصفور) مقالة للروائي البرتغالي، بعنوان “من أحجار داوود إلى دبابات جليات”، تحدث فيها عن القضية الفلسطينية، يقول فيها:

تؤكد بعض السلطات الدينية المعنية بالشؤون الإنجيلية أن سفر صموئيل الأول كتب في عهد سليمان أو بعده مباشرة، أي قبل السبي البابلي الشهير، بينما يؤكد فريق آخر من الباريسيين الذين ليسوا أقل كفاية أن سفر صموئيل الأول والثاني أيضاً كتبا بعد النفي إلى بابل، وإن البناء التاريخي والسياسي والديني للنصين يخضع لطريقة تقسيم الأحداث نفسها في سفر التثنية، من حيث التتابع والتسلسل: تحالف الله مع شعبه، خيانة هذا الشعب، عقاب الله، توسلاتهم ثم أخيراً عفو الله عنهم.

إذا كان النص المبجل ينتمي إلى عهد سليمان فيمكننا القول إنه مر عليه قرابة ثلاثة آلاف عام. وإذا كان من قاموا بتحرير هذا النص فرغوا منه بعد عودة اليهود من المنفى، فعلينا أن ننقص خمسمائة عام تقريباً من الثلاثة آلاف عام. إن هذا الاهتمام الشديد بتحري الدقة في تحديد التاريخ والزمن هدفه الأوحد هو لفت نظر القارئ إلي أن الحكاية الدينية الشهيرة التي تحكى عن المعركة بين الراعي داوود والعملاق الفلسطيني جليات-والتي انتهت قبل أن تبدأ- تروى للأطفال في شكل خاطئ من خمس وعشرين أو ثلاثين قرناً على الأقل. فعلى مر العصور أخذت الأجزاء المهمة في القصة، تتطور بما يتوافق مع الرؤية غير التحليلية لأكثر من مئة جيل من المؤمنين / المستعمرين من اليهود والمسيحين، وياللتزييف المضلل عن التباين القاسي بين حجم العملاق جليات الذي يصل طوله إلى أربعة أمتار والتركيبة الجسدية الهزيلة لداوود الأشقر الضعيف. لكن هذا التباين المفزع يتم تعويضه، بل الإفادة منه لمصلحة داوود الإسرائيلي، وذلك لأنه فتى ذكي، بينما جليات مجرد كتلة غبية من اللحم.

كان الفتى ذكياً فعلاً حين أخذ معه، قبل ذهابه لمواجهة الفلسطيني، خمس قطع من الحجارة الملساء، وجدها على ضفة نهر صغير قريب، فوضعها في الخرج الذي يحمله، أما الآخر فكان شديد الغباء إلى درجة أنه لم يدرك أن داوود أتى مسلحاً بمسدس. بالطبع سيستاء عشاق الحقائق العظيمة، ويجيبون مستنكرين بأنه لم يكن مسدساً، وإنما مقلاعاً بسيطاً متواضعاً كالمقاليع التي كان يستخدمها خدام ابراهام لرعي القطيع في الزمن المنصرم.

فعلاً… هذا صحيح فلم يكن مظهر سلاح داوود يشير إلى حقيقته كمسدس، فلم يكن فيه ماسورة، ولم يكن له مقبض، ولم يكنله زناد ولا ذخيرة. كان له فقط حبلان رفيعان شديدا المتانة، مربوطان من الأطراف بقطعة صغيرة ومرنة من الجلد. وقامت يد داوود الخبيرة في تجويف قطعة الجلد هذه بوضع الحجر الذي انطلق بدوره سريعاً وقوياً كالرصاصة قاصداً رأس جليات، فأصابه وأطاح به أرضاً فأصبح تحت رحمة حد السيف الذي أمسك به الرامي الماهر وقتله به.
إذا كان الإسرائيلي تمكن من قتل الفلسطيني وصنع النصر لجيش “الله الحي” وجيش صموئيل فإن هذا لم يتم لأنه أكثر فطنة وذكاء وإنما لأنه كان يحمل معه سلاحاً بعيد المدى، وكان يعلم كيف يستخدمه.

إن الحقيقة التاريخية البسيطة البعيدة من الخيال تخبرنا أن جليات لم يكن لديه الفرصة حتى ليضع يديه على داوود، أما الحقيقة الأسطورية الشهيرة، صانعة الأوهام، فتخدعنا منذ ثلاثين قرناً بهذه الرواية المبهرة التي تحكي انتصار الراعي الصغير على وحشية المحارب العملاق الذي لم يحمه في النهاية البرونز الثقيل المصنوعة منه درعه وخوذته. وأياً كانت العبرة التي نستطيع أن نخلص إليها من هذه القصة المسلسلة، فإن داوود في معاركه الكثيرة التالية التي جعلت منه ملكاً على يهود أورشليم، بل جعلت قوته تمتد إلى الضفة اليمنى من الفرات، لم يعد أبداً لاستخدام الخرج أو الحجارة. ففي السنوات الخمسين الأخرى نمت قوات داوود إلى درجة أنه أصبح من الصعب التمييز بينه وبين العملاق الشامخ جليات، بل نستطيع أن نجزم، من دون أن نسيء للوضوح المدهش للأحداث أن داوود تحول إلى جليات جديد ولكن جليات لا يسير محملاً بأسلحة مصنوعة من البروتز الثقيل ولا نفع له.

إن داوود الزمان القديم ذلك يحلق الآن في طائرات الهليكوبتر فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويطلق الصواريخ على الأبرياء العزل وداوود العصر المنصرم ذاك يقود أحدث دبابات العالم وأقواها، ويسحق ويفجر كل مايعترض طريقه. داوود الملحمي ذاك، أعيد تجسيده الآن، في صورة مجرم حرب يدعى  آرييل شارون يطلق في وجوهنا بكل تبجح رسالة شعرية دقيقة، مفادها أنه يجب القضاء على الفلسطينين أولاً، ثم التفاوضمع من يبقى منهم ثانياً.
إن هذه الفكرة تلخص تماماً الاسترتيجية السياسية لإسرائيل من ١٠٤٨ مع بعض التغييرات التكتيكية في بعض الأحيان.

لقد تسممت عقولهم بتلك الفكرة التبشيرية عن إسرائيل العظمى فتحول حلم التوسع في نشر الصهيونية النتطرفة إلى حقيقة. وهم ملوثون بهذا اليقين المفزع المتأصل فيهم، والذي يجعلهم يرون أنه في هذا العالم المفجع العبثي يوجد شعب مختار من الله، ولذا بالتالي فإن كل أفعال هذا الشعب مبررة ومسموح بها أوتوماتيكياً باسم أهوال المضي ومخاوف اليوم. تلك الأفعال يحكمها في المقام الأول هاجس العنصرية والتعصب. فقد تربى هذا الشعب وتشكل على فكرة أن أي معاناة سببها أبناؤه أو يسببونها للآخرين وتحديداً الفلسطينين فإنها ستكون دائماً أقل كثيراً مما عانوه هم أنفسهم في الهولوكوست.

واليهود لايكفون عن نبش جرحهم بأنفسهم كي لايتوقف عن النزيف، وكي يجعلوه غير قابل للشفاء أبداً، ويظلون يطلعون العالم عليه كما لو كان علماً لدولتهم.

نصب الإسرائيليون أنفسهم ملاكاً لكلمات الرب القاسية في سفر التثنية: “لي النتقام والعقاب”. إسرائيل تريد أن تشعر جميعاً بالذنب تجاه الأهوال التي رآها اليهود في الهولوكوست. إسرائيل تريدنا أن نرفض الاحتكام إلى أدنى مستوى من المنطق والعقل إزاء أفعالها. وأن نتحول كلنا لتابع مطيع، سلس القيادة يخضع تماماً إلى إرادتها. إسرائيل تريدنا أن نصدق بالقبول على كل جرائمها التي أصبحت بالنسبة لها أمراً واقعاً واجب النفاذ. إنها تريد الحصانة المطلقة.

ولايمكن أبداً من وجهة نظر اليهود أن تخضع أفعال إسرائيل للعقل، وذلك بسبب أبناءها عذبوا ووضعوا في غرف الغاز وحدقوا في معسكر اعتقال أوشفتز.

وإنني أتساءل لو أن اليهود الذين فقدوا حياتهم في مراكز التعذيب النازية تلك هولاء الذين ظلوا مطارين على مر عصور التاريخ، والذين انغلقوا على أنفسهم في إحياد “الغيتو” الفقيرة، ترى لو هذه الجموع الهائلة من البائسيين رأت الأفعال الدامية التي يأتي بها أحفادها الآن، ألن يشعروا بالخزي والعار؟ أوليسن المعاناة الشديدة هي دائماً أقوى دافع كي لا تتسبب في معاناة الآخرين؟

انتقلت حجارة داوود إلى أياد أخرى. فالفلسطينيون هم الذين يلقونها الآن. وأصبح جليات في الجانب الآخر. كما أصبح مسلحاً مجهزاً أفضل من أفضل الجنود في تاريخ الحروب أجمع. هذا بالطبع إلى جانب مساندة الصديق الأمريكي الوفي. ثم يتحدثون عن جرائم القتل الرهيبة للمدنيين اليهود! الجرائم التي يقوم بها من يسمونهم ” الإرهابين الانتحارين” وهي جرائم رهيبة من دون شك، ومدانة من دون شك، لكن من الموكد أن إسرائيل مازال لديها الكثير لتتعلمه إذا كانت غير قادرة على فهم الأسباب التي تحمل كائناً بشرياً على أن يحول نفسه إلى قنبلة.

الأشجار ومعنى الإنتماء والحياة (مترجمة)

* نشر في ساقية

هرمان هيسه (1877-1962) هو كاتب وشاعر وروائي سويسري، حاز على جائزة نوبل للآداب عام 1946.

في ترجمة حصرية لمقالة المدونة الشهيرة (ماريا بوبوفا)، حملت عنوان “هرمان هيسه وماذا تعلمنا الأشجار في معنى الإنتماء والحياة“، تقول (ماريا):

أستيقظت هذا الصباح لأكتشف أن أحد الشجيرات قد نبتت في وسط المدينة التي أسكنها، اخترقت الصعوبات لتمتد وتكبر وتتفرع وسط طوب المدينة وخرساناتها، صارت أشبه بحديقة، وكل مقومات نموها هي تربة صغيرة لا تصلح لتكون أساساً لهذا العيش. اندهشت لهذا الحدث الاستثنائي وقلت: يالهذه المعجزة، هي رسالة فحواها تقول أننا لا يجب أن ننتظر أذناً من الحياة لنعيشها.

هذا الحدث غير المعهود ذكرني بنص للعظيم هرمان هيسه كنت قد قرأته في كتابه : (الأشجار: تأملات وقصائد).

يقول هيسه: “بالنسبة لي، الأشجار عادة ماتكون المبشر أو الواعظ صاحب النظرة المخترقة للمألوف والنظرة البعيدة.

أقدس الأشجار حين تعيش وسط القبائل وفي الغابات والبساتين، وأقدسها أكثر حين تقف وحدها صامدة، وتعيش بمفردها، تشبه في ذلك الإنسان الوحيد. ليس في طبعها أن تكون كناسك خسر ذاته ونفسه وبقي وحيداً بضعف، بل تقف وحيدة كأولئك العظماء، والجنود الأقوياء، أمثال نيتشه و بيتهوفن.

في عالمها تحدث حفيفاً وخشخشة في أعلى مستويات أغصانها ارتفاعاً، كما أن في جذورها تلقى راحتها حيث عمقها اللانهائي. هي لا تخسر نفسها حيث تكون فتلك الأغصان والجذور تصارع وتناضل في حياتها لأجل شيء واحد فقط وهو أن تعيش ضمن قوانينها الخاصة، وأن تبني ذاتها على شكلها الذي تريد، لتكون مثالا لنفسها.

لاشيء أكثر قداسة ولا شيء أكثر مثالية من شجرة جميلة قوية. في اللحظة التي تقطع فيها تلك الشجرة فإن جرحها يتكشف عارياً لأشعة الشمس، حيث يقرأ تاريخها المرسوم في جذعها كحلقات مستديرة بضوء نوراني، جروحها، نضالها، معاناتها، وأسقامها، وسعادتها وكل حقائقها محفورة على هذا الجذع بكل السنوات الضيقة والفاخرة، وبصمودها أمام الهجمات والعواصف والكوارث.

إن المزارعين الشباب يعرفون جيداً أن أجود أنواع الخشب الذي تكون حلقاته ضيقة والذي ينمو ويكبر في أعالي الجبال حيث أنه كلما  وجدت تلك الأشجار وحيدة في مناطق نائية وخطيرة فإنها تكون أقوى وأكثر مثالية.

إن الأشجار معابد للذين يجيدون الحديث معها، ويجيدون الإصغاء إليها، هي تعلمهم الحقيقة. فالأشجار لاتدعي أنها ابنة الدين أو التعاليم، هي تعظ وتبشر خلال قانون الحياة القديمة دون أن تعترض للتفاصيل.

قالت شجرة: في داخلي يختبئ جوهر الحياة، البريق، الفكرة، أنا حياة ممتدة للحياة الأبدية. إن كثرة المحاولة والمخاطر الفريدة والمختلفة أخذتني للأبدية كأم. هي فريدة من نوعها كأنها أوردة ممتدة في داخلي، هي فريدة لحد أن تكون موجودة في ندبات أصغر الأوراق في أغصاني، هذا ما شكل الأبدية في تفاصيلي الخاصة الصغيرة.

قالت شجرة: أثق بقوتي، لا أعرف أي شيء عن أبائي، لا أعرف أي شيء عن ألف طفل أنجبته للربيع، أعيش بأسراري حتى النهاية، أثق بأن الخالق في داخلي. أثق بأن عملي مقدس، ولهذا أثق بأني أعيش.

في تلك الأوقات التي نصاب فيها بالمحن، حين نكون عاجزين للدرجة التي نشعر فيها أننا لن نصمد في وجه الحياة أكثر يجب أن نقف أمام شجرة، لأنها دائماً تحاول أن تقول لنا شيئا مثل : حاول البقاء، اصمد أكثر، بل أنظر إلي واصغي جيداً، الحياة ليست بتلك السهولة ولكنها أيضاً ليست بالصعوبة التي نظن، ماتمر به مجرد أفكار متطفلة، فالوطن ربما ليس حيث أنت وربما لن يكون في مكان آخر، لأن الوطن يجب أن يكون في داخلك وإلا لن يكون أبداً.

في الليل وحين أسمع الصوت الهارب من أوراق الشجر الناتجة عن حركة الرياح أصاب بشعور في قلبي كبكاء المشتاق. إذا استمع أحد ما لذلك الصمت فترة طويلة فإنه سيكشف عن معناه، هو ليس سبيلاً للهرب من المعاناة عالرغم من أنه يبدو كذلك، هو حنين إلى الوطن الأم، للحياة القديمة حيث أنه ليس دليلاً على استعارات جديدة للحياة. هو الطريق المؤدي للوطن، هو الخطوة لولادة جديدة، وربما خطوة للموت، وكل أرض وإن كانت أشبه بقبر فإنها في النهاية ستكون الأم التي تلدنا من جديد.

الأشجار لا تصدر صوتاً في المساءات التي نقف فيها قبالتها محملين بأفكارنا الطفلة كأن صمتها إنصات: للأشجار أفكار ممتدة بعمق جذورها وبطول أغصانها، لهذا فإن لديها نفس طويل لسبب أن حياتها تتعدى طول حياتنا، فالأشجار أكثر حكمة منا ونحن لا نستجيب لحكمتها لأننا نصم أذاننا عنها. لكن من يأخذ فرصة الإستماع إلى الأشجار فإن الإيجاز والتسرع الطفولي للأفكار سيحقق بهجة لاتشبه شيء آخر.

الذي يستمع للأشجار بتفكر وفهم لن يتمنى أن يصبح شجرة، بل سيبلغ مرحلة التقبل لنفسه كما هو، لأن نفسه هي الوطن وهي السعادة.

مقام الأذان

سأحدثكم هنا عن وثائقي جميل وعميق جداً شاهدته اليوم على الجزيرة الوثائقية.. الوثائقي الذي أثار في نفسي للمرة الأولى رغبة أن أرفع الآذان بصوتي في أحدى المآذن على مقام الصبا.

اسم الوثائقي: مقام الآذان

Screen Shot 1436-09-14 at 9.46.03 PMيحدثنا هذا الوثائقي عن طريقة العثمانين وتركيا الحديثة في تعاملها مع الأذان والمؤذنين كعنصر مهم يجب أن يعتنى به و كميراث عزيز كان قد ورّثه الرسول الكريم للبشريه. ولهذا كانت الدولة العثمانية قد أبتدعت طريقة منظمة لاختيار المؤذنين الذين ينادون نداء الله في المساجد. وكان لهذا التنظيم المبتكر آلية خاصة تعكس بطريقة أو بأخرى وجه من أوجه حضارتها. وحين تضآءلت شمس العثمانية وانحسرت وسطع عهد آتاتورك في الثلاثينيات أمر بتغييرات كثيرة كما نعرف و كان منها تغيير لغة الآذان. فبعد أن كان يصدح الآذان في مآذن تركيا العظيمة كلها بالعربية أصبح بعد أوامر آتاتورك يرفع باللغة التركية، ولم يكتفي بالأمر فقط بل قام بفرض عقوبات على من يخالف هذا القرار، وهذه ربما إحدى مظاهر القومية التي تمتع بها أتاتورك. واستمر هذا الوضع حتى١٩٥٠. على الرغم من أن هناك عرف تركي يقول: أن من يؤذن بغير لغة القرآن “العربية” فهو آثم، إلا أنه لا شيء تغير حتى مع وجود مقاومة كبيرة من مؤذني مساجد تركيا. تلك المقاومة استمرت إلى أن انتُخب “عدنان مندريس” كأول رئيس منتخب في عام ١٩٥٠. بعدها عاد الأذان إلى اللغة العربية ليصدح من جديد في سماء تركيا حتى أنه قيل: من شدة فرحة مؤذني اسطنبول صعد كل مؤذن إلى شرفة من شرفات المآذن وصار يؤذن، فلكم أن تتخيلوا مثلاً كم مؤذناً قد صعد في كل شرفة من شرفات مآذن جامع السلطان أحمد وبدأ الآذان؟! قد يتجاوزعددهم ١٦ مؤذناً.. وياللمبالغة!

كما نعرف فإن الدولة العثمانية اهتمت  بالمساجد اهتماماً كبيراً كواجهة للحضارة الإسلامية، ونرى أن هذا الاهتمام امتد باسمها حتى اليوم بشكل أو بآخر. فتركيا الحديثة مهتمة بشكل خاص بجمال صوت الأذان، و من المهم أن نعرف أن الأذان في تركيا اليوم لا يرفع بشكل اعتباطي أو بصوت عادي بل أنه لا يرفع إلا بصوت جميل مدرب على أحد المقامات. ولهذا السبب يوجد  مدرسة هي المسؤولة عن تنظيم الأئمة والخطباء والمؤذنين تدعى مدرسة “الأئمة والخطباء”. فعلى كل من يريد أن يصبح مؤذناً كان لزاماً عليه أن يلتحق بهذه المدرسة ويتعلم القرآن ويحفظه كاملاً، إضافة إلى ذلك يجب عليه تعلم التجويد ومخارج الحروف وليس هذا فحسب بل يتم اختياره بعد إخضاعه لفحص الصوت، حيث يجب أن يكون في طابعه الجهر والوضوح والصفاء، وبذلك يكون متناسباً مع إعتقادهم بأن الأذان لا يجب رفعه إلا بصوت جميل وطريقة جميلة وآداء كامل ومثالي. ولهذا فإنه يجب على كل مؤذن من مؤذني تركيا أن يتأهل في مدرسة موسيقية، يتعلم فيها المقامات الموسيقية على آلة الكمان والقانون والناي. ثم يتم تطبيق كل تلك المقامات على الآذان، ومالم يكن بالاتقان والجمال الذي يتناسب مع النداء إلى الله، فإنه يبقى تلميذاً حتى يتقن. فنداء الأذان بالنسبة لهم له قدسيته التي لا تسمح بأن يخرج ركيكاً أو ضعيفاً لأن الجمال لا يكون إلا قوياً ومبهراً وبذلك يكون الأذان أي “نداء الله” برداً و سلاماً على الأنفس بتنوع اعتقاداتها ومذاهبها.

Screen Shot 1436-09-14 at 10.21.17 PM

فيقول أحد المؤذنين : عندما أرفع الأذان أفكر في كلماته، ويتدفق الأذان كالماء فينفتح كل شيء أمامي حتى أن الكلمات تلامس وجدان الناس. ويقول آخر كناية عن أهمية الالتحاق بمعهد الموسيقى وتعلم المقامات وتحسين الآداء الصوتي والوجداني عبر الموسيقى: يجب أن تنطلق هذه الرسالة بصوت جميل ومقام جميل وموسيقى جميلة.

Screen Shot 1436-09-14 at 10.21.49 PMتعلم المقامات ليس أمراً عابراً بل ملحاً في تركيا، يتعلم كل مؤذن المقام والهدف الرئيس من هذا المقام وأي الأوقات هي الأنسب  ليشق طريقه إلى الآذان والوجدان فهم معتقدين تماماً أن الأذان لا يجذب من يذهبون إلى المساجد فقط بل يجذب حتى الذين لا يهتمون بالمسجد و الصلاة، أي أنه الصوت الذي يستعيد به كل إنسان روحه ويهديها كرسياً تتكأ عليه.
فقد خُصص في تركيا لكل أذآن مقام يتناسب معه فيقال: أن المقام الذي ينطلق منه أذآن الفجر يكون على مقام الصبا، والأذآن الذي يقام في منتصف النهار  أي في الظهر يكون على مقام العشاق واختير العشاق تحديداً للنهار تأصيلاً للجمال ودافعاً للعمل. أما أذآن العصر فيقوم على مقام الرست وحزمه. ولقصر الوقت بين المغرب والعشاء فإن أذآن المغرب يكون خفيفاً سريعاً متناسباً مع هذا القصر ولذلك اختير له مقام السيكاه. ولأن من طبيعة الأتراك سابقاً أنهم يغنون للأطفال الأغاني قبل النوم على نغمة الحجاز فإن أذآن العشاء يقام في تركيا على مقام الحجاز تناسباً مع عرفهم الجميل.
قد يرجع هذا الاهتمام باقتران الأذآن بالموسيقى لإهتمامهم العميق بالموسيقى الدينية بالعموم والصوفية بالخصوص، ويبدو أنهم يعتبرون الأذآن جزء لا يتجزأ من الموسيقى في معناها العلمي الذي يحتاج كل مؤذن لإتقانها وذلك بالخضوع للتعلم والتدريب ومن ثم الممارسة.

يؤسفني أخيراً أن أقول بأن أحرفي لا تستطيع أن تتحول إلى أصوات لتسمعكم تلك المقامات كما يتغنى بها أولئك المؤذنون، بل إن الأذآن على المقامات التي ذكرتها يجب أن تسمع خلال روح متمعنة وهذا ما سيحصل بمتابعتكم الوثائقي الجميل “مقام الأذآن”. اترككم الآن.

قصة صداقة وفن: مروان قصاب باشي.

مروان قصاب باشي، صاحب ريشة كثيفة وترسم بشيء من التجريد، تحاول أن تتفرد في رسم سر ما على الوجوه، كأنها طرق وعرة، وقسمات شوهها الواقع، أو ربما ظل المعنى في بطن شاعرية مروان الفنية. يطرح فنه بطابعه الدمشقي في صفوف برلين. طفت هويته في كل عمل له، و خلال خطواته الفنية شديد الثقة بما يملك من موهبة ربى فنه.

مروان دمشقي، درس في برلين، وكان يتمنى أن يبدأ فنه من باريس وخلال باريس.. لكن برلين من فتحت أبوابها متسعة له، ومع هذا لم يترك لبرلين أن تذيب مروان وتفاصيل هويتيه الدمشقية الدقيقة، فحتى الطبيعة التي رسمها كانت طبيعة شرقية.

يقول هو شخصيا عن سبب اهتمامه تحديدا برسم الوجه: أتصور أن الرؤوس والوجوه هي قصتي الذاتية على المستوى الفني. وقد قال عن فنه بشكل عام أيضاً: عن التجريد في عملي فهو كلام خطير لأنني أعتقد أن عملي ليس تجريدا بالمعنى السائد للتجريدية، وأنا أنطلق من واقعي الخاص وأسعى إلى تحويل الطبيعة العامة إلى طبيعة خاصة مرتبطة بضميري الفني، فالتجريد قد يفهم أنه العمل غير المفهوم، لكني أفهم التجريد أنه غموض موجود في كل شيء.

هنا بعض أعماله :

ds_10770

ds_10768

 

ds_10773ds_12318 ds_12319

لربما الطريقة التجريدية التي يستخدم فيها فرشاته تبعد تفاصيل شخصيته التي انعكست جلياً خلال رسائله مع عبدالرحمن منيف التي أصدرت في كتاب “في أدب الصداقة” لكن فنه يظهر حساسيته العميقة وثقافته. فقد قام مروان بعد وفاة الأديب الكبير عبدالرحمن منيف بجمع رسائلهما وطبعها في كتاب.  وهذا العمل يدلنا لأمر مهم، وهو أن مروان لم يكتفي باستخدام فرشاته ليعكس نفسه، بل هو أضفى لهذا الوجود حرفه الذي نمى بينه وبين صديقه، فقد كان شفافا وغزيراً، والأهم من ذلك أنه صادقاً، وتجلى فيه معنى أن تكون صديقاً لشخص فرقت بينكما الدروب وباعد بينكما الزمن.

في القصاصة بالأسفل كتب مروان لعبدالرحمن: ما أصعب البعد مع لهفة اللقاء والشوق..
ثم كتب في آخر القصاصة: هذه رسالة سريعة وللتعود على الكتابة من جديد.
حين كتب “من جديد” فإنه يذكرنا أنهما ليسوا على تواصل دائم دون انقطاع.
بل خلال الرسائل نلحظ كيف يحصل الإنقطاع المفاجئ للرسائل ثم عودتها مرة أخرى بكثير من النقاش والشوق دون الالتفات طويلاً لسبب الانقطاع ولا الوقوف عنده، فأحدى رسائل عبدالرحمن لمروان يتفقد فيها أحواله حين أطال في عدم كتابته الرسائل قائلاً: هذه بداية لعودة رسائلنا التحشيشية، أي نكتب كل مانفكر به… فالأصدقاء يسلمون كثيرا ويسألون وينتظرون.
ثم يرد مروان على رسالته: فرحت برسالتك ووضعتها في جيبي وأخرجتها أكثر من مرة لأستعيد الفرح.

wpid-20150325_200212-1.jpg

ومن الجميل التنويه على أن كل هذه المراسلات لم تكن بغرض النشر، وإنما هي قصة صداقة كما ذكر فواز طرابلسي في خلف الكتاب. فإضافة إلى أن مروان كان يثق بنفسه جدا على أنه فنان متفرد، فرسائله تشي لنا بأنه توافق بشكل ما مع أدب عبدالرحمن بقوة حرفه وغزير ثقافته.

هنا مقابلة مع مروان في الجزيرة نت ، وهنا أخرى في الاتحاد.

فنان منسي: حليم الرومي

 

لا تتشابه ألقاب الفنانة ماجدة الرومي والفنان حليم الرومي مصادفة، بل حليم الرومي يكون والد الفنانة القديرة ماجدة وصانعها الأول. ومن الغريب جداً أن قلة ونادرة جداً  في زماننا هم من يعرفون هذه الصلة، إلى جانب معرفتهم بمجد المطرب والفنان العظيم “حليم الرومي”.

حليم الرومي في الحقيقة، لم يعتني بتجربة ابنته ماجدة الرومي وصوتها وامكانتها فحسب ولم يورثها فنه وحيدة، بل وقف أيضاً إلى جانب أشهر مطربات لبنان، وهي السيدة فيروز، حيث كما قيل: التقى الموسيقار حليم الرومي بالمطربة فيروز في اواخر الأربعينيات حين تقدمت لامتحان القبول في إذاعة لبنان، اعجب بصوتها وقدم لها اول لحن «تركت قلبي وطاوعت حبك» عام 1950″. كما أنه قد عمل معها في دويتو “الورد”

8fa4a

بدأ حليم الرومي فنه من بلاد الشام (حبفا)، وأجازه معهد الموسيقى وهو في الرابعة عشر من عمره ليكون مطرب ناشئ، لكن شهرته التي أعطته لقب فنان هي مصر العريقة وأم الفن حين تبنت الإذاعة المصرية أولى حفلاته، وكما هو معروف فإن كل فنان يشرق من مصر ثم تنشر مصر شعاع اسم وفنه وموهبته في أرجاء الدنيا، إن مصر صانعة العظماء بلاشك. 

له عدة أعمال عظيمة، ووضع بصمة في إدارة الإذاعة اللبنانية، حيث عمل جاهداً لرفع مستوى الفن في لبنان في ذلك الوقت، وقيل أنه ساهم وطور فن الموشحات حيث قيل: عالج الرومي الموشح بطريقة جديدة وهي ترديد المجموعة أي ‘الكورس’ للبيت الأول منه وبعد كل جزء من أجزائه أو جزء من الخانات التي ينفرد فيها المغني أما أداء الخرجة فكان يؤديها، ‘الكورس’ مع المغني المنفرد. ولهذا قيل أنه جمع بين الأسلوب المصري والحلبي في أداء الموشحات. وأشهر موشح له هو “غلب الوجد عليه” وهي من كلمات الأديب محمود سامي البارودي. 

في الحقيقة أن حليم الرومي له إنتجات غزيرة جداً، فله مايقارب آلفي عمل، كما أنه خلال عمله في الإذاعة اللبنانية أستطاع تقديم الكثير من الأصوات الناجحة والمميزة، حيث أنه اكتشف تلك الأصوات ودربها وعاملها بإهتمام إلى أن اكتسبت تلك المكانة. تميزت أعماله في مجملها بالعمق والأصالة الفنية، وتناولت مختلف الألوان الغنائية والموسيقية المعروفة في الغناء العربي، وتميّز إنتاجه بالقصائد والموشحات والأوبريتات، أهمها قصائد: «إرادة الحياة»، «ومضة على ضفاف النيل»، «عطر» و«البحيرة»؛ وموشحات: «غلب الوجد عليه فبك»، «يرنو بطرفٍ فاترٍ»، «يا أهيل الحي» و«وجب الشكر علينا»؛ وأوبريتات: «القطرات الثلاث»، «مجنون ليلى» و«أبو الزلف»؛ وأغاني: «لا تغضبي»، «سلونا» و«هنا تقابلنا سوى». 

هنا بعض أعماله المتميزة : 
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
اسمع قلبي وشوف دقاته
غلب الوجد عليه 

وثائقي قصير يتحدث عن الفنان حليم الرومي
https://www.youtube.com/watch?v=haSMQRN_Y_g

خلود الكاتب عند بلقيس الكركي

 

* نشر في ساقية

تقول د. (بلقيس الكركي) في كتابها (إرادة الكتابة) حيث تصف صورة الكاتب لنفسه ومعنى خلوده خلال الكتابة،  في فصل “الرقباء: الذات” :

طالما أنك ستحيا الحياة على أي حال، فربما من الحكمة أن تلهي نفسك خلالها بانتظار شيء اخر غير الموت، بشيء تختاره أنت. طبعا قد يبدو من الغباء أن تختار العمر من أجل لحظات قصيرة تدرك فيها خلودك الحاصل أو المحتمل، إدمان المسير في طريق شائك يجرحك ويقتلك ويهدمك رويداً رويداً كل يوم، لكن الغاية تستحق، بلاشك، لسببين:

الأول (استغلال الموت): هو أن اللحظات القصيرة هذه في غاية الإغراء لأن فيها أقصى لذة ممكنة لبشر، لذة “كالأبد المؤقت في القصائد”، تجعل “طعم الموت” بعدها أخف وطأة لأنك عرفت طعم الأبد مؤقتاً. طبعاً قد تبقى حياتك غالية على قلبك، لكنها قد تصبح زائدة عن حاجة صورتك الخاصة إذا لم تعد الأخيرة مرهونة بما ستكتب لو عشت أكثر. أما الموت فيصبح عندها اكسسوارا مكملاً لما ألفت من نفسك، يصبح مجرد النهاية التي حضرت نفسك لها وحيداً، محض سطر قصير، حدث عابر أسفل الصورة، لكنه يكملها فيجعلها أجمل، تكون عندها قد هزمت الموت، لا بأن منعته، بل بأن غيرت دوره وجعلته في خدمة صورتك، فنحن نحب الموتى من العظماء أكثر.

الثاني (متعة الأوهام): هو أنك حتى لو لم تعش لحظات الأبد المؤقتة، فمتعة لابأس بها أيضاً هي الانتظار وتخيل اللذة التي قد تجتاحك فيما لو لم تفشل هذا  إن كنت تنهك نفسك حقاً في سبيل صورتك. فالانتظار احتمال، كل البشر ينتظرون أشياء ممكنة أو مستحيلة كي يحتملوا الحياة. طالما أن ملء نفسك بالأوهام والأحلام الوردية قد يقربك فعلا مما تنتظر فمثلا من يتوهم أنه شجاع قد يصبح حقاً شجاع، هذا سيجعلك تحتمل الحياة من أجل غاية مترفة تنتظرها بدل الموت و تعينك على ضجر العالم الرتيب. الإنتظار آداة تسيطر عليها وتستغلها  من أجل التأليف والوجود وزيادة احتمال الإحساس بمتعة الخلود.

شروط المثقف عند أنطون تشيخوف

1537064a67eefba5d87d7b

* نشر في ساقية

أنطون بافلوفيتش تشيخوف (1860-1904) هو طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي، يصفه البعض بأنه من أفضل كتاب القصص القصيرة على مدى التاريخ، ومن كبار الأدباء الروس. كتب المئات من القصص القصيرة التي اعتبر الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته كان لها تأثير عظيم على دراما القرن العشرين. تم تجميع عدد من رسائله العائلية في كتاب يحمل اسم (رسائل إلى العائلة)، يرد فيه (تشيخوف) في رسالة إلى أخيه (نيكولاي) حين أرسل إليه يشتكي بأن الناس لا يفهمونه، فقال له:

إن الناس يفهمونك جيداً، وإذا لم تفهم نفسك، فذلك ليس خطأهم.

ثم خلال الرسالة يحاول (تشيخوف) أن يشرح له أن هذا بسبب أمر واحد وهو الإخفاق الوحيد في نظره فقال:

لديك إخفاق واحد، ويعود إليه زيف وضعك، وتعاستك واضطراب أمعائك. ويتمثل هذا الإخفاق في افتقارك التام للثقافة. سامحني، من فضلك، لكن-كماتعرف- للحياة شروطها. فمن أجل أن تعيش نرتاحاً بين المتعلمين، ولتتمكن من معايشتهم بسعادة، يجب أن تحوز قدراً محداً من الثقافة. إن الموهبة لتدخلك في مثل هذه الدائرة، فأنت تنتمي إليها، لكن، يتم سحبك بعيداً عنها للتأرجح بين المثقفين والمستأجرين.

ومن ثم يبدأ تشيخوف بوضع شروط يجب أن يستوفيها المثقفين في ٨ نقاط وهي :

١) احترم الجانب الإنساني في الشخصية، ولهذا السبب هم دائماً ودودون، دمثون، ومستعدون للعطاء. إنهم لا يتشاجرون بسبب مطرقة أو قطعة مفقودة من المطاط الهندي، وإذا عاشوا مع أحد لا يعدون ذلك منحة منهم، ويرحلون دون أن يقولوا “ليس بوسع أحد أن يعيش معك”، إنهم يصفحون عن الضوضاء والبرودة واللحم المقدد والنكات ووجود غرباء في منزلهم.

٢) يتعاطفون، ليس فقط مع المتسوليين والقطط. وتتفطر قلوبهم لما يرونه أو لا يرون. إنهم يسهرون الليل لمساعدة شخص ما، ولدفق نفقات الأخوة في الجامعة، ولشراء الملابس لأمهاتهم.

٣) إنهم يحترمون ممتلكات الآخرين، ولهذا يسددون ماعليهم من ديون.

٤) إنهم مخلصون، ويخشون الكذب كما تخشى النار. إنهم لا يكذبون حتى ولو في الأشياء الصغيرة. فالكذب إهانة للمستمع ويضعه في منزلة أدني بالنسبة للمتحدث. لا يتظاهرون، بل لا يتغير سلوكهم في الشارع عنه في المنزل، ولا يتعمدون الاستعراض أمام رفاقهم الأقل منزلة. لا يثرثرون. ولا يثقلون على الآخرين بثقتهم بأنفسهم. واحتراماً منهم للآخرين، فإنهم يميلون إلى الصمت أكثر من الكلام.

٥) لا يحطون من قدر أنفسهم للحصول على شفقة الآخرين. ولا يلعبون على شغاف قلوب الآخرين، ليجعلوهم يتنهدون ويستحوذون عليهم. ولا يقولون “يساء فهمي” أو “لقد أصبحت شخصاً من الدرجة الثانية”، لأن كل ذلك ليس سوى سعي وراء تأثير رخيص، ومبتذل وتافه وزائف.
هم لا يعانون من الخيلاء والغرور. ولا يحفلون بتلك الماسات الزائفة (أقصد المشهورين)، ولا يأنفون من مصافحة السكير، وينصتون إلى صيحات إعجاب مشاهد مشتت في معرض للصور الفتوغرافية، ويترددون كثيراً إلى الحانات.

٦) وإذا أبرموا صفقة متواضعة، فإنهم لا يتباهون كما لو كانوا عقدوا صفقة بمئة روبيل، ولا يعطون لأنفسهم أولوية على الآخرين. إن الموهوب الحقيقي دائماً مايحافظ-دوماً- على اندماجه بين الجموع، وبعيداً قدر المستطاع عن الإعلان، وحتى كرايلوف، قال- سابقاً- إن البرميل الفارغ يصدر عنه صدى صوت أكثر من البرميل المملتئ.

٧) إذا كانت لديهم موهبة يحترمونها، وضحون في سبيلها بالراحة والنساء والخمر والخيلاء. إنهم فخورون بموهبتهم، وبالإضافة إلى ذلك من الصعب إرضاؤهم.

٨) ينمون الحس الجمالي داخلهم. ولايستطعون الذهاب إلى النوم بملابسهم، ولايتحملون رؤية الشروخ ممتلئة بالحشرات، أو تنفس هواء فاسد، أو السير على أرض عليها بصاق، أو أن يطهوا وجباتهم في موقد زيتي. ويسعون قدر استطاعاتهم إلى كبح جماح رغباتهم الجنسية والسمو بها. وليس مايرغبونه في المرأة أن تكون رفيقة فراش، ولايطلبون المهارة التي تظهر عبر المضاجعات المتتالية. إنهم يرغبون،- خاصة الفنانيين منهم- بالأناقة، والإنسانية، والاحتواء، والأمومة. إنهم لايشربون الفودكا طوال ساعات النهار والليل، ولايتشممون رفوف الخزانات، لأنهم ليسوا خنازير، ويعلمون أنهم ليسوا كذلك. ويتناولون الشراب-فقط- عندما يكونوا غير مرتبطين بعمل أو في عطلة.

ثم بعد ذلك يعقب (تشيخوف) قائلاً:

لا يكفي على المثقف أن يقرأ “أوراق بيكويك” أو أن يحفظ منولوجاً من “فاوست”، فإن مايحتاجه المثقف هو العمل الدائم، ليل نهار، والقراءة المستمرة، والدراسة، والإرادة، فكل ساعة هي ثمينة بالنسبة له.

Screen Shot 2014-11-23 at 2.33.14 PM

للاطلاع على الرسالة

لست كاتبة ولكني أكتب ٣

320px-Georg_Friedrich_Kersting_-_Die_Stickerin_-_1._FassungGeorg Friedrich Kersting لوحة للفنان الألماني

حين نمر على الأحداث الحاضرة بشكل سريع فإننا نجد في نفسنا شيئاً منها، و تختلف ردود أفعالنا ونظرتنا حيالها وتجاه الحياة والعالم، كلنا في الحقيقة نأخذ مايجري في العالم على محمل الجد لكن ليس كل أحد منا يتحرك إزاء أحداثها بشكل مباشر وبالطريقة ذاتها، بل ربما يخلق حياة جانبية أو حياة أخرى خاصة فيه تتقاطع مع كل ذلك الواقع بشكل مختلف ليواجه فيها صعوبة ماوقع في نفسه خلال أحداث العالم من حرب، ومجاعة،وآلام أخرى. إذاً فالسؤال القائم هو هل الكتاب يكتبون لأجل العالم ومايجري فيه من أحداث؟ أو لماذا يكتب الكتاب؟

يقول جورج أورويل صاحب روايتي مزرعة الحيوان و العالم ١٩٨٤وهو من أشهر وأعظم من كتبوا في الأدب السياسي، أنا أكتب لأجعل من الكتابة السياسية فناً، وعندما أجلس لكتابة كتاب أكتبه ذلك لأن هناك كذبة ما أريد فضحها،أو حقيقة ما أريد إلقاء الضوء عليها”

وإن قلبنا في سيرة كاتب آخر لنعرف أسباب رغبته في الكتابة فإننا سنشهد رؤية مماثلة لكنها تتجه باتجاه آخر، فأورهان باموك يقول: أكتب كي أشير أو أناقش بعض الآراء، أكتب لأنني غاضب منكم جميعا، من العالم كله”. ويشترك كثير من الكتاب في قولهم أنهم يكتبون لأنهم لا يحسنون فعل شيء آخر، لأن تلك هي رغبتهم، ولأن حركة العالم تصر عليهم ليقوموا بذلك الفعل، أي بفعل الكتابة.

على الرغم من أن الكتابة هي كشف عن أغوار النفس والعقل، وهي انكشاف على الآخر بطريقة أو بأخرى ،فإننا نجازف ونكتب ونسهب في طرح أفكارنا على الآخر اتفق أو اختلف معنا، مع أن الأفكار في الحقيقة قد تتغير، ونحن أنفسنا قد نتغير،لأننا لسنا ثابتين، ومع ذلك فإننا نكتب ونسجل تاريخ أفكارنا بطريقة معينة في لحظة معينة. ومن هنا نستطيع القول أن الكتابة هي إثبات وجود، فمن لا يظن أن حرفاً منه قد يجد طريقه للعالم ويؤثر فيه فهو لن يكتب، ومع معرفتنا بذلك فإننا نستبطن تلك الفكرة، ونصبح أكثر خوف بأننا قد نصبح في يوما ما حرفا في صفحة قد تنطوي إلى الأبد. ومهما تكابل الخوف من أن تكون أفكارنا هامشية، أو أنها لن تصنع فارق في العالم، فإننا لا نقف ولا نجرؤ على أن نرفع أقلامنا، بل إن الكتابة تصبح مع الوقت هي الوسيلة الوحيدة لنَصْدُق فيها مع أنفسنا ومع الواقع ونجد فيها ذواتنا واضحة جلية.

ومن أعظم الآثار التي تتركها الكتابة في الكاتب هي أنها تضيف له تلك المعرفة الصادمة بأن الكاتب في الحقيقة ليس دائماً يتفق مع كل أفكاره بل أنه قد يستاء لما يكتشفه عن بعض ما يكون مستتراً ومترسباً في لاوعيه، لكن الكتابة بحد ذاتها تعريه أمام نفسه وحينها يكون بين خيارين إما أن يقبل ذاته تلك ويتعايش معها أو أنه يحاول تغييرها.

فالكتابة في نهاية الأمر هي محاولة لكشف الحقيقة، حقيقة نفسك، أو حقيقة الحياة والعالم، أو أي حقيقة قد أدركت أنه يجب عليك البحث عنها. ولا نستطيع إلا أن نصدق بأن الكتابة هي موضوع متشابك بين الذات والآخر والحياة وثلاثية يلتزم بها الكاتب ما إن يبدأ بحرفه الأول إلى أن ينتهي، أي هي دوافع متلازمة ومتشابكة بين الأنا والموضوع. إذن فنحن نكتب، لأن الكتابة تحررنا من العوالق وتكسر نمطية تفكيرنا ، ونحن نكتب لأننا لا نحتمل أن نختبئ وراء ضمائرنا إزاء مايحدث في العالم ونصمت أكثر، ونحن نكتب لأننا لا نجيد شيء سوى الكتابة

ولكل تلك الأسباب وغيرها نحن نكتب.. ونكتب.. ونكتب.