المنفى: آخر جذور أندلسية

* نشر في صحيفة مكة

المنفى لا يشبه الهجرة، فالهجرة قد تكون نابعة عن إرادة الشخص للبحث عن سبل حياة أخرى أكثر مما هي متاحة له حيث يقيم، لينتقل بكامل وعيه وإرادته وحسب إمكاناته لبلد آخر، فقد قال إدوارد سعيد في كتابه تأملات حول الحياة في المنفى، إن المنفى هو «هوّة قسرية لا تنجسر بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلّب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع
وأيا كانت إنجازات المنفيّ، فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد»
قد لا يقتصر النفي على أشخاص معينين بل قد يتسع ليشمل أقواما ينفون بسبب اضطهادات سياسية، فيطردون من بلدانهم تاركين خلفهم إرثهم وحضارتهم، ليقيموا في بلدان أخرى اضطراريا، محاولين بذلك خلق حياة جديدة، مهما كبلهم اليأس والخوف والحنين
في 1609م اقتلعت آخر جذور أندلسية مسلمة من إسبانيا – الموريسكية- لتطرد ويكتب عليها النفي بعد أن أعلن مرسوم ملكي في 1502 م يخير فيه المسلمون بين اعتناق الديانة المسيحية أو النفي ومغادرة إسبانيا
مما اضطر كثيرا من المواطنين المسلمين للتظاهر بالمسيحية تجنبا للتعذيب والاضطهاد من قبل الحكومة والبقاء في وطنهم
فالموريسكيون هم المسلمون الذين أخفوا دينهم في صدورهم وأقاموا شعائرهم في منازلهم سرا، وكتبوا القرآن الكريم باللغة العربية مشروحا باللغة الخميادية وهي اللغة التي اتخذها الموريسكيون بعد أن مُنعوا من استعمال لغتهم العربية فعرفت «ألخميادو» على أنها لغة رومانية قشتالية تكتب بحروف عربية
وللموريسكيين إرث أدبي إلى جانب الحضارة العمرانية الموجودة حتى الآن في نواحي الأندلس، ففي جامعة بورتوريكو يوجد أكبر مختبر للأدب الألخيميادو، أنشأته العالمة «لوثي لوباث بارلت» التي نشرت نحو 20 كتابا تتحدث عن الأدب الموريسكي ومجموعة لا تقل عن 22 باحثا نشروا الكثير من المخطوطات والأدبيات التي تحدثت عن معاناة الموريسكيين
يقول د
عبدالجليل التميمي عن فترة التهجير القسري والحرق والتعذيب الذي لحق بالمسلمين «هي أول تطهير عرقي في الزمن الحديث لا يوازيه فظاعة إلا التطهير اليهودي»
هناك مئات الوثائق التي تحدثت عن معاناة الموريسكيين وعن محاكم التفتيش، وجدت بعد فترة لينكشف الكثير عن الموريسكيين، ومن بينها ما نُقل عن الدكتور عبدالجليل، أنه جاء في أحد الوثائق بأن خمسة أساقفة موريسكيين من كبار أساقفة غرناطة، قد أحرقوا أحياء بسبب افتضاح أمرهم، باعتبارهم مسلمين سرّا ومسيحيين في الظاهر! فقد كانوا غالبا محل شك من قبل محاكم التفتيش، مهما بدا لهم أنهم قد حولوا ديانتهم
إلى جانب معاناتهم التي فرضتها الحكومة الإسبانية من تعذيب وقهر، وهو ما نقلته بعض الوثائق التي كتبها العثمانيون في شأن المسألة الموريسكية، أي عن المعاناة والإحباط اللذين لحقا بالمورسكيين، وهو فشل الدولة العثمانية من تفعيل موقف قوي تجاه إسبانيا، فعلى الرغم من أنها الدولة الأقوى إلاّ أن الإمدادات التي حاولت إرسالها لإثارة ثورة داخلية في غرناطة وتجهيز أسطول بحري لم تكن ناجحة، فما إن وصل الأسطول مشارف إسبانيا حتى تراجع القائد خوفا من التهديدات التي وصلته من ملك إسبانيا، وانسحابه لم يزد أولئك الثوار إلا قهرا، فأخمدت الثورة داخل غرناطة وانتهت بطريقة بشعة
فخرجت أفواج من الموريسكيين، تاركين بلادهم مكسورين، يحملون في صدورهم حب الوطن، وبين ثنايا عقولهم فكرا وأدبا، وعرفوا أنهم أصحاب صنعة وحرفة، فاستقرارهم في تونس تحديدا كان له حضور بالغ الأهمية من نواح اقتصادية واجتماعية ومعمارية، أما عن الفئات الأخرى فمنهم من ارتحل إلى الأناضول ليتشبث بأستار الدولة العثمانية، ومنهم من لم يبتعد كثيرا، فانتقل إلى دول أوروبية مجاورة كإيطاليا
يقول إدوارد سعيد عن المنفى «المنفى لا يمكن أبدا أن يكون حالة رضى عن النفس، واطمئنان، واستقرار
المنفى هو الحياة خارج النظام المألوف
المنفي بَدَوي، غير متمركز»

جيم كرو والعنصرية العرقية

نشر في صحيفة مكة*

“قد حاول بعض المؤرخين في القرن الـ18 وفي القرن الـ19 أن يبرهنوا على وجود عرق متفوق هو العرق الأبيض الذي يمتاز عن العرق الأسود في الشكل والفكرغير أن أحد كبار أساتذة الطب المتخصص بالدم يؤكد عدم إمكان وجود عرق صاف وأن الاختلافات الاجتماعية والثقافية بين رجل صيني وآخر مالي وآخر فرنسي أكثر بكثير من اختلافاتهم التكوينية العائدة إلى العرق واللون”
هذا كان جواب طاهر بن جلون لابنته حين سألته عما لو كان هناك عرق يتفوق على عرق آخر
وحين كانت أمريكا تمارس العنصرية العرقية بشكل واضح ضد الأمريكان أصحاب البشرة السوداء في الفترة ما بين 1867 و 1965، تحت ظل نظام التفرقة والعنصرية العرقية «جيم كرو»، هذا النظام والقانون الذي حرم الزنوج حقهم في ممارسة الحياة اليومية، حيث لم يكن من حق أحد منهم اختيار الحياة التي يريد بل كان لزاماً أن يقيموا في أحياء معينة، ويدرسوا في مدارس حددت لهم مسبقاً، حتى وسائل النقل لم تكن متاحة لهم بشكل كامل
لكن تفوقت السيدة المناضلة «روزا باركس» في الدفاع عن موقفها ضد العنصرية التي مورست عليها بشجاعة
فالسيدة باركس كانت شرارة لمسيرة نضالية بلغت 381 يوماً للدفاع عن حقوقها وحق كل أسود، حدث ذلك حين رفضت ذات مرة تلك السوداء أن تترك مقعدها في الباص لرجل «أبيض» مخالفة بذلك القانون، عوقبت وغرمت بسبب ذلك ثم تلا تلك الحادثة عدة مسيرات وإضراب أجبرت وسائل النقل لتعديل القانون بعد الخسارة التي لحقت بها، و إكراماً للسيدة باركس لا تزال الحافلة موجودة حتى الآن في متحف هنري فورد للسيارات
ونستطيع القول أن الدكتور ديفيد بيلجرام – من أصول أفريقية- أستاذ علم الاجتماع في جامعة ميشيغان قد تفوق مرة أخرى في 2012 لتأسيسه أول متحف يتحدث عن تاريخ تلك الفترة بكل ما كان فيها من ظلم ثم نضال ثم محاولات للتسوية و أخيراً الوصول للرئاسة (رئيس دولة أسود)، وقد أطلق على المتحف اسم (جيم كرو) نسبة لتلك الحقبة وذلك القانون، يعرض في المتحف التاريخ وأشكال تلك الممارسات التي اختزلت في تذكارات وملصقات بدأ جمعها الدكتور ديفيد وهو لا يزال في عمر 12 سنة
تم تقسيم المتحف لعدة أجنحة بداية بملصق كبير يمثل شخصية «جيم كرو» التي مثلها رجل أبيض بصبغ وجهه بلون داكن ليطلق على ذاته «جيم كرو» كجزء من مجتمع أصحاب البشرة السوداء مع كلمات أغنية ساخرة أصبحت رمزاً ولفظاً ينعت به أصحاب البشرة الداكنة
حتى أن قانون التفرقة العنصرية قد رمز له أيضاً «بجيم كرو”
أما عن القسم الثاني فقد مثله في شجرة كبيرة وعلى جذعها حبل، حيث كانت تمارس العقوبات كالشنق وشتى أنواع التعذيب والعنف بربطهم في جذع الأشجار
وفي القسم الثالث علقت قصاصات لكاريكاتير ودعايات ومشاهد كرتونية لخصت سخرية المجتمع الأمريكي بتلك الفئة أي المجتمع الزنجي
ثم في القسم الرابع عرض الدكتور ديفيد وسائل المقاومة كعرضه لصور المناضلين وأفعالهم مثل مالكم اكسومارتن لوثر كنج
وفي القسم الخامس مثل مراحل إنهاء تلك القوانين «جيم كرو» بعرض صور لكثير من العلماء والسياسيين والناجحين من أصحاب البشرة السوداء ليصل لاستعراض وصول أوباما للرئاسة، ثم أسهب الدكتور ديفيد وقال: إن إنهاء تلك القوانين ساعد على تغيير سلوك المجتمع بطريقة أفضل
وأخيراً ينتهي المتحف عند قاعة صغيرة تتسع لما يقارب 20 شخصا للحديث والمناقشة عما تم مشاهدته وعرض وجهات نظرهم عن حياتهم المستقبلية كمجتمع أمريكي واحد (أبيض وأسود)
وجه الشبه كبير بين السيدة باركس والدكتور ديفيد رغم طول المدة التي تفصلهم والظروف التي عاشها كلا الطرفين إلا أن كليهما يدفعان بالظلم بعيداً، أحدهم كان الفتيل والآخر هو الوريث للشعلة، فوجود متحف يلخص تلك الحقبة التاريخية لأجيال حاضرة و قادمة يعني أن يقول أصحاب البشرة السوداء: إن نضالنا كان الجزء الرئيس في استعادة ما سلب منا من حق وإن تاريخنا في الكفاح ما زال مستمرا.

حكايا من قلب أوروبا

* نشر في صحيفة مكة

أتذكر هذه المعلومة جيداً حين حكاها لي العم السويسري «هايني» ونحن في طريقنا للتوغل داخل القرية السويسرية الصغيرة «أبانزل» قال: أبانزل تأخرت جداً في منح حق المرأة في التصويت، وتعتبر في التاريخ الأوربي هي الأخيرة. الحقيقة أن المعلومة هذه أخذتني للبحث عن تفاصيل هذا الحدث التاريخي، ربما لأني كنت أعتقد أن تسلسل الأحداث التاريخية في أوروبا وقع متسارعاً خاصة وأن الكثير من المعاهدات وقعت بعد الحرب العالمية الثانية، وتم تفعيل الكثير من المنظمات فلم أدرك أن سويسرا وهي التي تقع في قلب أوروبا تكون الأخيرة، وتكون هي الأكثر تمسكاً بقيود العادات من غيرها، لكنها كانت هذه الحقيقة، فالمرأة في قرية أبانزل لم تأخذ حقها في التصويت إلا خلال عام ١٩٩٠ وذلك بعد فرنسا بما يقارب ٤٦ سنة.

قامت المرأة السويسرية بمحاولات عدة مطالبة بحقها وذلك بإنشاء حملات للمطالبة ببعض حقوقها حتى إن شعار أحد الحملات كان عبارة عن نقطة سوداء في منتصف قارة أوروبا وذلك دلالة على عدم النضج السياسي للمرأة في قلب القارة -أي في سويسرا- مقارنة بالدول المحيطة بها كألمانيا وفرنسا. وفي ١٩٥٩ تم عمل استفتاء عام في سويسرا عن حق المرأة في التصويت وتم فرز النتائج حيث صوت ٦٧٪ بلا و ٣١٪ بنعم.
ربما كان هذا التصويت مخيباً لبعض النساء في ذلك الوقت، فأول من بادرت بمحاولة جادة كانت الحقوقية «كاترينا» وذلك عبر وضع صندوق اقتراع منفصل عن صندوق الاقتراع الذي وضع للرجال، تشجيعاً للمرأة السويسرية في ممارسة حقها إلا أن أصواتهن لم تؤخذ بالاعتبار لأن القانون لم يعطهن في ذلك الوقت هذا الحق بعد.
أما عن قرية أبانزل تحديداً فقد تم رفض ٩٥٪ من أهلها حق تصويت المرأة على مستوى المناطق رفضاً تاماً وقاطعاً. لكن هذه الفكرة لم تدم طويلاً في باقي المناطق -الكانتونات- فقد أُجري بعدها تصويت وكانت نتائجه عكسية، كان صوت غالبية الشعب السويسري الذي في الحقيقة لم يزد عن ٦٦٪ (بنعم)،و هذا يعني أنهم أخيراً قد تقبلوا فكرة حق المرأة في التصويت. ومن خلال ذلك نستطيع القول إن المرأة السويسرية أخذت حقها في التصويت رسمياً في ١٩٧١.
لكن ماذا عن أبانزل التي ذكرنا بأن ٩٥٪ منها قد عارضت هذه الفكرة؟ حتى بعدما تم تفعيل هذا القانون رسمياً كان غالبية رجال هذه القرية لا يزالون يرفضونه وكانوا يعتقدون أن باستطاعتهم إلغاءه مع الوقت وتم قسراً منع نساء أبانزل من مزاولة هذا الحق لفترة ليست بالقصيرة. و بسبب طول المدة في عدم منح نساء أبانزل حقهن في التصويت خلال الاستفتاءات على مدار سنين طويلة بالنسبة لما جاورها، قامت نساء أبانزل بالمطالبة بهذا الحق والدفاع عنه بأنفسهن ثم تم منحنهن إياه من قبل الحكومة، وبناء على ذلك تم تعديل الدستور وذلك بتفسير العبارة القانونية «كل مواطن» إلى «نساء ورجال» أي أنه تم منح الحق للنساء والرجال بطريقة متساوية في التصويت. وهذا يشرح و يفسر ما قاله مالك بن نبي: «إن الحقوق ليست هدية تعطى ولا غنيمة تغتصب، وإنما هي نتيجة حتمية للقيام بالواجب، فهما متلازمان، والشعب لا ينشئ دستور حقوقه إلا إذا عدل وضعه الاجتماعي المرتبط بسلوكه النفسي حيث أنه لا يحق لشعب مطالبته بحقوقه، ما لم يقم هو بواجباته.

التانغو: من بيوت البغاء إلى العالمية

tango2

* نشر في ساقية

رقصة التانغو في أذهاننا عبارة عن لوحة أرجنتينية يرسمها رجل أنيق يرتدي البدلة السوداء يراقص امرأة في كامل أنوثتها وأناقتها متشاركين اللحظة في صالون ارستقراطي فخم، ينسدل من سقفه ثريات مرصعة بالكريستالات ولها سلاسل مذهبة ، أو ربما أضواء خافتة تسلط فقط على تلك الأجساد التي تحكي قصة حب على إيقاعات معينة تاركة للأجساد حرية التعبير عن ذاتها بتبادل الحركات والإلتواءات وحتى الوقفات لتحكي وتروي قصصاً بخفة متباينة ونمط بديع ، في حين أن مجموعة كبيرة من عشاق تلك الرقصة يجلسون متحلقين وراء الكواليس وخلف الأضواء بصمت حتى تسحب الموسيقى نفسها وتتوقف، فيختفي الظلام عنهم لتكون نقطة النهاية بدلا من اسدال الستائر هي صفقات الحاضرين، وارسال ذبذبات سعادتهم عبرها امتنانا، ليرد الراقصان الإمتنان بلمعة في العينين وابتسامة.

لكن الصدمة وكل الصدمة حين تبدأ في القراءة عن التانغو لتكتشف بدايتها فيصيبك الذهول من تلك النقلة النوعية وتطورها.

بدأت موسيقا التانغو كما تقول أ. كارمن:

منذ 1880، سادت الموسيقى الهجينة العاصمة الأرجنتينية، بوينس آيريس. ويومها كانت المدينة في طور التوسّع والتمدد. وارتفع عدد سكانها من 210 آلاف نسمة، في 1880، إلى مليون نسمة ونصف في 1910.
في أثناء ثلاثة عقود، خلفت موجات الهجرة الكبيرة من أوروبا الى الارجنتين أثراً كبيراً في اللغة والعادات والتقاليد الموروثة من حقبة الاستعمار. وتدفقُ المهاجرين، ومعظمهم من الرجال، وقد أسهم ذلك في انتشار البغاء. وبلغ عدد فتيات الهوى نحو 30 ألفاً. 
وفي 1914، استقبلت العاصمة الأرجنتينية ربع سكان البلد. وحملت المضاربات العقارية المترتبة على التوسع العمراني، المهاجرين على النزول في أحزمة بؤس أو عشوائيات، وعلى الاقامة في مبان تطل شققها على باحات داخلية. وحضنت الباحات هذه علاقات التكافل والتضامن والاختلاط. وكانت هذه «البؤر» بوتقة انصهار الثقافات. واستقى التانغو كلماته وشخصياته منها.

رقصة التانغو وسيلة دفعت الكثير من الرجال بعد أن زاد عددهم عن النساء بالترويج لذواتهم عن طريق اتقان الرقصات فبذلك يشد انتباه النساء للمشاركة ليس لأجل الرقص ذاته بل لأجل المرأة والعلاقة الجسدية، فكثرت في تلك الفترة بيوت الدعارة لعدة أسباب ومن بينها اليأس فذكرت أ. كارمن :

التانغو هو رقص الافكار الحزينة، هي أشبه بأحزان راقصة. هو رقص التأمل في المصير البائس. وعلى خلاف الموسيقى اللاتينية الفرحة، ينقل التانغو معالم هويتهم الأساسية، مثل الإحباط والحنين والنقمة، ومعنى الوجود المأسوي.

وأولى الإشارات إلى التانغو الحديث تعود إلى سبعينات القرن التاسع عشر. وحاكى رقص التانغو مسيرة عسكرية اسمها «أل كويكو»، أي بيت البغاء. وخطوات هذه الرقصة مليئة بالإيحاءات. فالجنود يرقصون مع فتيات «الثكنة».

ثم بعد الحرب انتقل هذا الفن وانتقلت تلك الموسيقى وغزت صالونات الارستقراطيين في مدن عريقة كباريس وتطور التانغو في معناه وفحواه الذي كان لصيقا ببيوت الدعارة ليصبح مظهرا من مظاهر الترف حتى لا تعود طبقة برجوازية لا يعرف أفرادها التانغو وربما منذ تلك اللحظة تغير مفهوم رقص التانغو وتغيرت أغراضها وباتت ملجأ الحب ووسيلة المحبين ذات الطبقات العريقة لينسجوا عبرها رواياتهم، فتقول أ. كارمن:

غزا التانغو الصالونات الأريستوقراطية والشعبية في أوروبا، وبلغ روسيا القيصرية، في عهد نقولا الثاني. وفي بوينس آيريس، انتقلت الرقصة من بيوت الدعارة إلى الأماكن الراقية. وبلغ الشغف بموسيقى التانغو ذروته بأوروبا عشية الحرب الأولى، وحذفت منها الكلمات التي تخدش الحياء البورجوازي. وفي 1917، كتب كارلوس غارديل أغنية «ليلتي الحزينة» ولحنها. وغلبت على الاغنية مفردات عاطفية، وغاب عنها عالم البغاء ومفرداته. ومايؤكد كلماتها هو فرناردو الذي ذكر في مقاله مراحل تطور التانغو ومنها هي أن مجموعة من محترفي رقصات التانغو الأرجنتينية بعد الحرب أقاموا جولة حول العالم يؤدون رقصاتهم بإحتراف حتى صار لها حيزها من الشهرة والمعرفة.

أما عن الموسيقى ذاتها فهي تعتبر من جذور أسبانية أوروبية ثم تطورت وتغيرت حتى أخذت بعض مظاهر موسيقى الجاز ببعض إيقاعاته، وقد قيل أن فرق التانغو تتكون من ستة عازفين يعزفون على عدة آلات أساسية وهي الكمان والبيانو والباص والأكورديون والهرمونيكا إلى جانب إضافة الفلوت أو الكلارينيت يقول فرناردو  أن الأوربيين والأمريكان أعادوا صياغة موسيقى التانغو وكان من أهم أولئك المحدثين هو بيزولا piazzolla حيث جعلها أكثر ملائمة للطبقات الوسطى فقد بسطها وأضاف بعض جمل موسيقية من الجاز بحيث تصبح وسيلة ليستمتعوا بها وأداة للرقص بعد أن كانت الموسيقى الكلاسيكية للإستماع فقط

الموسيقى وتاريخها هي روايات الشعوب السياسية والإقتصادية والإجتماعية أيضاً، هي حياة الشارع وانعكاس الوقت ومرآة الشعب و هي الوثيقة المفصلة لردود الأفعال الشعبية البسيطة التي غدت مع الوقت رمزا ثقافياً

وهنا بعض المقاطع للمشاهدة

http://www.youtube.com/watch?v=5PXgmNrIJqI

للإستزادة :

التانغو أول موسيقى تعولمت من غير أن تنفك رمزاً للأمة الأرجنتينية
عاشق التانغو
E L  T A N G O at a glance
Dancing to the music of love in Buenos Aires

موسيقى المارياتشي، صبغة عشق وفرح

Mariachi

* نشر في ساقية

الموسيقى تصبغك جمال وجلال في جميع الأحوال وتستشف المشاعرالإنسانية بوضوح، فكما أن الموسيقى تستطيع أن تحكي الحزن وتفاصيله، فهي تصيغ الفرح وتحتويه وعرف عن موسيقى المارياتشي المكسيكية هذه الميزة فقد خلقت لتعلن عن زفاف العشاق وفرحتهم في ساحة غاريبالدي في مدينة مكسيكو .

اختلف في تسمية مرياتشي حيث قيل أنها من “مارياج” وأنها انحدرت من اللغة الفرنسية ومعناها الزواج، وقال آخرين أنها تعني بالمكسيكية مجموعة من الموسيقين الشعبيين أو المكان الذي يرقص فيه في الهواء الطلق، فقد قال الأستاذ محمد الخطابي عنها :

يشير بعض العلماء المختصّين فى تاريخ الموسيقى المكسيكية أنه عثر على وثيقتين سابقتين لتاريخ 1860 وهو تاريخ دخول الفرنسيين إلى المكسيك مستغلّين إنشغال أمريكا الشمالية بحربها الأهلية ،وترد فى هاتين الوثيقتين كلمة “مارياتشي” ممّا يؤكّد حسب رأيهم انّ هذا المصطلح كان له وجود قبل دخول الفرنسيين للمكسيك ، ويذهبون أيضا أنّ لهذه الكلمة عدّة معان عندهم فهي تعني مجموعة من الموسيقيين الشعبيين ، كما أنها تعني المكان الذي يرقص فيه فى الهواء الطلق ، ويزعم هؤلاء كذلك انّ كلمة مارياتشي تعني إسم شجرة ، ثم أصبحت تعني هؤلاء الذين يتجوّلون أو يهيمون على أنفسهم فى القرى،والضيع، والمداشر، والبوادي وهم يشيعون الفرح والحبور فى قلوب المنكوبين أو المهمومين .

لكل موسيقى صفة معينة وتأخذ هذه الموسيقى حيزها من الجمال وغالبا الموسيقى تحكي بين طيات حكاياها قصص شعوب قد هاجرت من أماكن مختلفة حتى استقرت في وطن واحد، وهنا حين نتحدث عن المارياتشي فنحن بذلك نتحدث عن المكسيك وكم المهاجرين الذين انتقلوا إليها ومنهم كثيرين كانوا في الأندلس لذا نلحظ الكثير من التفاصيل المشتركة بينهم ومنها الموسيقى إلا أن موسيقى المارياتشي تطورت وأصبحت ذات ملامح مستقلة، ويعرف أنها تناقلتها الأجيال بالممارسة من جيل لجيل فليس هناك أكاديميات تخرج عازفي المارياتشي إلا حديثاً فيقول الأستاذ محمد الخطابي :

عرفت المكسيك هجرات متوالية فى فترات متواليىة من تاريخها الطويل، وقد حملت هذه الهجرات على إختلافها معها العديد من العادات والتقاليد والمظاهر الثقافية والحضارية والفنية واللغوية والموسيقية وسواها، ويتغنّى المارياتشي المحترف بمقطوعات شعرية جميلة من الفولكلور الشعبي المكسيكي ، كما انّ هناك نوعا آخر ليس له طابع خاص مميّز على أنه يلجأ إلى التقليد حسب المناسبات والظروف فيتغنّون بمقطوعات مارياتشي الأرياف والمدن على حد سواء وغايتهم من ذلك هو كسب قوت العيش وإرضاء جميع الاذواق. وهناك أسماء فرق يربو عمرها على ازيد من قرن من الزمان حيث يحل الأبناء محل الآباء ثم الأحفاد وهكذا ، فيغدو بالتالي هذا الفن متوارثا بين الاسرة الواحدة .وأقدم فرقة من هذا القبيل أسّسها ” غاسبار برقاش”عام 1898 (ويلاحظ أصل هذا الإسم الأندلسي الأمازيغي الذي ما زال موجودا ومنتشرا فى المغرب والأندلس حتى اليوم) وما زالت هذه الفرقة التي تحمل إسم مؤسّسها وهي من أشهر واكبر وأغلى فرق المارياتشي فى المكسيك . وفى عام 1921 تولّى رئاسة هذه الفرقة النجل الأكبر للسيّد برقاش أو بركاش سيلفيستري -الذي مثلما قام ” زرياب” عند وصوله إلى الأندلس بزيادة وتر خامس إلى العود – عمل برقاش على زيادة آلات موسيقية جديدة مستحدثة إلى هذه الفرقة وهي البوق أو النفير حيث غلبت هذه الآلة الموسيقية على الآلة التقليدية فى هذه الفرق وهي آلة “الفيولين” التي كانت تعتبر الأداة الرئيسية عند المارياتشي إلى جانب أدوات أخرى وتريّة وآلات النقر والنفخ.

موسيقى المارياتشي تتميز بأن أفراد فرقتها يرتدون الزي المكسيكي المزركش ذات القبعات الخسف الكبيرة فهي مميزة بطابعها الشعبي الذي لايزال حتى الآن، فقد قال الأستاذ الخطابي :

هناك أنواع عديدة من فرق المارياتشي، وهم يتباينون فى أزيائهم حيث تكون غاية فى الإتقان والتنسيق ،أو ربما كانت أزياء بسيطة ولكنها مع ذلك تكون مثيرة تسير فى نفس الخط العام المميّز لهذه الفرق ،كما يختلفون فى أنواع وأحجام قبّعاتهم المزركشة ،وتضاهي أحذيتهم أحذية رعاة البقر الأمريكيين ، وهم يستعملون أحزمة جلدية سميكة مرصّعة بالنقود المعدنية الفضية والمذهّبة ، ويعتزّ أفراد فرق المارياتشي إعتزازا كبيرا بنوعية الغناء الذي يؤدّونه وهم يعتبرونه إرثا فنيا رفيعا ورثوه عن أجدادهم ،ولهم فيه نوابغهم وأفذاذهم الذين أجادوا هذا الفن وبرعوا فيه واخلصوا له على إمتداد الاجيال.

فلكل عاشق مذهبه في العشق حتى عشاق المكسيك لهم تقليد خاص، فعشقهم يتصل اتصالا وثيقا بفرق المارياتشي، حيث يصطحب العاشق فرقة مرياتشي ذات ليلة ويقف تحت نافذة محبوبته ويغني لها ماشاء من أغاني الحب فإذا أضاءت مصباح غرفتها فهي بذلك تكون قد أعلنت له عن مبادلتها له بهذا العشق فيقول الأستاذ الخطابي :

من عادة أهل المكسيك الجميلة أن يصطحب العاشق المغرم إلى منزل محبوبته فرقة من المارياتشي وتسمّى هذه العادة عندهم “سيريناتا” وهي لحن يعزف ليلا لإستعطاف المحبوب والتغنّي بجماله ومحاسنه ، وخصاله ومحامده، وتقف فرقة المارياتشي وإلى جانبها المحبّ قبالة منزل محبوبته فى ساعة متأخّرة من الليل ، وتبدأ فرقة المارياتشي فى الغناء والطرب معبّرة عن مشاعر الحبّ التي يشعر بها العاشق الولهان نحو حبيبته فى أنغام حلوة ومؤثّرة تحطّم سكون الليل وخلوته، فإذا قامت الفتاة وأوقدت نور الغرفة وأطلّت من شرفة منزلها فمعنى ذلك أنها قبلته وتبادله نفس مشاعر الحبّ ،وبالتالي يمكن لهذا الشاب أن يأتي إلى منزلها متى يشاء ليطلب يدها من ذويها بصفة رسمية ،وإذا لم يضاء النور، ولم تطل المحبوبة من غرفتها فمعنى ذلك أنها غير راضية بحبّه والزواج منه ، عندئذ يطلب الشاب من المارياتشي الإنسحاب بعد أن يدفع لهم أجر عملهم ،ثم يعود هو منكسر الخاطر،شارد البال، حزينا متحسّرا يجرّ أذيال الخيبة والفشل ،وما زالت هذه العادة قائمة ومنتشرة فى مختلف المدن والقرى المكسيكية حتى اليوم.

هذه عينات من أغاني المارياتشي

https://www.youtube.com/watch?v=h9KQbbheFcM

https://www.youtube.com/watch?v=eBdlRY31jyo

للإستزادة: المارياتشي.. صوت المكسيك في أفراحه وأتراحه / تاريخ المارياتشي

الفلامنكو.. حينما يلتقي السحر الغجري مع الطرب العربي

*نشر في ساقية

raycoiacarlota121503

حين نقلب صفحات التاريخ لنتعرف على سبب نشأة وعراقة بعض الموسيقى نجد أن السبب الحقيقي الأول هو الإضطهاد وما الموسيقى والغناء والرقص إلا أدوات للمطالبة بالحرية والتخلص من شر العبودية. والفلامنكو الفن الاسباني العريق أحد أنواع الموسيقى التي بدأت كمزيج من أحزان وآلام أقوام مهزومين (وهم المسلمين) مع أقوام تائهين عابرين للقارات (وهم الغجر من شمال الهند) وأخيراً الأسبان أنفسهم (وهم الذين كان يحكمهم ملك ظالم يسمى “فريدناندفي”، حيث أمر بأن يغير أهل أسبانيا جميعهم ديانتهم ويوحدوها تحت ديانته الكاثوليكية).

هكذا تكونت موسيقى الفلامنكو عبر التاريخ خليطا من ثقافات مختلفة ونغمات منسجمة تعلن عن نفسها بعذوبة. فحين تستمع إلى عازف الجيتار وهو يضرب بأنامله الأوتار، تجد أن الموسيقى قائمة على نوتات شرقية أساسية، أما باقي الملحمة فهي تحتوي على شعر غجري منتظم يحكي الظلم ويفسر المعاناة الإنسانية التي يعيشها كل منهم. يقول محمد فايد في حديثه عن موسيقى الفلامنكو :

أعلن الفلامنكو عن نفسه في القرن 18 وعلى الرغم من أن العديد من تفاصيل تطوره مفقودة اليوم فإن جل الدراسات تشير إلى أن هذا الفن مرتبط بالغجر وبثقافات أخرى تعايشت في المنطقة ومن بينها الثقافة المورسكية ذات الأصول العربية الإسلامية إضافة إلى الثقافة الاسبانية المحلية. وتطور بفضل اجتهادات الغجر الذين لم يتخلوا عنه ولا عن لغاتهم وثقافتهم الأصلية خلال ترحالهم عبر ربوع الأندلس وغيرها من البلاد، فقد جلبوا موسيقاهم الخاصة لتمتزج مع ما هو قائم في البلاد التي احتضنتهم. ومازال الفلامنكو يحتفظ بعلامات تدل على أصوله الشرقية بشكل واضح، كاعتماد الحنجرة في الغناء، والطابع الشرقي في التأليف الموسيقي الذي يعتمد الهارموني العربي، مثلما هو شائع في العزف العربي على العود وغيره من الآلات التي تعطي التون ونصف التون، كما أن التشابه القائم بين مقامات الفلامنكو ومقامات الغناء العربي بارز العيان.

ذلك المزيج لم يتوقف عند تلك النقطة فقط، بل تموج تأثير الفلامنكو بين بحري العرب والغجر. فكلما أوغلنا في تفاصيل الفلامنكو من حيث تركيبة الموسيقى والكلمة نجد أن بعض المؤرخين أمثال بلاس انفانتي أرجؤوا معنى “الفلامنكو” لأصل عربي وهي “فلاح منكم”. كما قال البعض أيضا أن “Ole – أولي”  الكلمة التي يقولها جمهور الفلامنكو لفرط إعجابهم الشديد بالعرض والموسيقى على شكل صرخات هي في حقيقتها كانت “الله” تأثرا بالموركسيين لكنها تغيرت مع الزمن إلى “أولي”. حيث يفصل محمد فايد :

ولقد اختلف الباحثون والمؤرخون في تأصيل تسمية الفلامنكو فهناك من ينسبها إلى طائر الفلامنكو الوردي الراقص المهاجر وآخرون أرجعوها للكلمة العربية «فلاح منكوب» أو « فلاح منكم» وطبقا لبلاس انفانتي يرجع «فلاح منغو» إلى «فلاح من غير أرض» وهم الفلاحون الموريسكيون الذين اضطهدوا وأصبحوا بدون أرض فاندمجوا مع الغجر وأسسوا الفلامنكو كمظهر من مظاهر الألم التي يشعر بها الناس بعد إبادة ثقافتهم.

لاينتهي جمال الفلامنكو هنا.. بل إنه لا يكتمل إلا في عنفوان راقصات الفلامنكو، أولئك اللواتي يعلن ثورة ضد الألم حين يضربن بأرجلهن أرضاً ثم يحركن أيديهن معلنات عن الحياة والحرية. فنلاحظ هنا أن الفلامنكو رقصة لا تتمحور حول قصة رومانسية بقدر أنها ملحمة إنسانية شامخة.. يواصل محمد فايد :

فن الفلامنكو يعكس بجلاء تقاليد وأعراف التنظيم الاجتماعي الغجري الذي يحتل فيه الذكور المكانة البارزة بينما تحتجب المرأة وراء أدوارها التقليدية. ولكن في حفل الرقص تبدو الطقوس مخالفة لهذا العرف متحررة منه. فبداية الرقصة تكرس بشكل قوي هيمنة النساء وتحكمهن في حلبته، بعد ذلك يلتحق الرجال بالحلبة بشكل تدريجي. ورقص النساء يستحث المغني على التفنن في تلاوة قصائد الغزل التي تتغنى بجمال وأنوثة الراقصة حيث يتيح حفل الرقص للغجريات فرصا كبيرة ومهمة لتغيير وضعهن الاجتماعي. تلبس الراقصة لباسا زاهيا ملونا عريضا فضفاضا على غرار لباس الغجر بينما يلبس الراقص قميصا ضيقا ملونا أو أبيض وسروالا أسود ضيقا أيضا وينتعل الذكور والإناث أحذية قوية تحدث فرقعات مسموعة خلال ضرب الأرض بها. وكان سلفهم يلبسون أحذية ذات كعوب عالية لإحداث الصوت القوي المسموع ويضعون على رؤوسهم قبعات تقليدية لم يعد يستسيغها الراقصون ولا المغنون اليوم. وهي تختلف عن الرقص الهادئ المتمايل كالرقص الشرقي أو الكلاسيكي حيث تعتمد راقصة الفلامنكو في حركاتها على قوتها الجسدية هذا بالإضافة  إلى حركات ذراعيها وقدمها بعنف مما يترجم الثورة على القيود. ويختلف أداء الراقصة عن أداء الراقص ببعض الحركات العنيفة عند الراقص التي تعبر بقوة عن هذا العنف مما يجعل الراقص الماهر يثير الإعجاب على الرغم من مكانته الثانوية في حفل الرقص في ظل مكانة المرأة التي تهيمن عليه تعبر راقصة الفلامنكو في رقصها عن الكبرياء والأنفة من خلال حركة الذراعين والقدمين مترجمة أحاسيسها الداخلية بحركات سريعة وقوية كالتصفيق والضرب بالقدمين والإغناء السريع للجسد وشموخ الهامة في كل الايقاعات.. وتعتمد الراقصة على حركة الأطراف (الأيدي والأرجل) وهذه الحركة لا تتجه نحو الهدر والرومانسية بقدر ما تتجه نحو التصعيد الحركي أو الدينامية المتنامية.

هنا تجد بعض فقرات رقصة الفلامنكو الإسباني الغجري ، كما تستطيع الاستماع لسحر جيتارها



للإستزادة: ورقة محمد فايد عن الفلامنكو بعنوان (الفلامنكو.. الغنائيات والعزف والراقصات) من دورية الثقافة الشعبية / مقال عن (تاريخ موسيقى الفلامنكو) من أكاديمية الفنون

غناء البلوز: خطوة نحو الحرية

* نشر في ساقية

BBKing_36x48_120002

البلوز هو نوع من أنواع الموسيقى والغناء نشأ في ولاية المسيسيبي على يد الزنوج حين كانوا تحت حكم الأمريكان ذات البشرة البيضاء، حيث كانوا يرددون الأغاني بطريقة صيحات يبدؤها واحد ويردد خلفه الباقيين. تتبع صيحاتهم أصوات الفأس لتعطي نغماً موسيقيا متناسقاً. كان هذا الغناء في بدايته تعبيرا عن الغضب وطمعا في الحرية، وكان أحد سبل الخلاص. أما عن الكلمة، فكثيرا ما نسمع تعبير “بلو” على المزاج الحزين، وكذلك هي أغاني البلوز تحمل طابع الحزن والألم بقدر المعاناة التي عاناها الزنوج في تلك المرحلة. ولعل هذا التعبير له علاقة مباشرة بأغاني البلوز فقد قيل أن البلوز يعني “ممسوس بعفاريت زرق” أي الشخص الواقع تحت تأثير العفاريت التي تسبب الحزن والألم. وربما لا علاقة للون الأزرق بالتعبير (بلو) المعروف بالإنجليزية عن المزاج الحزين، لكن نستطيع القول أن “بلو” مصطلح أدخله الزنوج للغة الإنجليزية تزامنا مع غناء البلوز حيث كلاهما يعبران عن الحزن. تقول رشا عبدالمنعم :

ولا يعرف على وجه اليقين من الذي قام بإدخال هذا المصطلح “البلوز” إلى قاموس اللغة الإنجليزية، ولكننا نعلم أن أصول المصطلح ترجع مباشرة إلى الأميركيين الأفارقة الأوائل الذين نظموا كلمات هذه النوعية من الأغاني، وكذلك رجال الدين السود الذين ترنموا بهذه الأناشيد التي غلب عليها طابع الحزن. موسيقى الأحزان ويجمع بين أصول هذا النوع من الغناء أنها كلها كانت من أهم صور التعبير عما يجيش بصدور هؤلاء الفئة المضطهدة ولاسيما في الأعوام الأولى التي عاش فيها السود في أميركا بعد هجرتهم القسرية إليها، ومن ثم تأثر الموسيقيون والمغنون السود بقصائد الشعر الغنائية الاسكتلندية، والترانيم الكنسية لأصحاب مذهب الميثوديست والمعمدان.

تطور هذا الفن بعد تحرر الزنوج ولكن لم ينتهي الألم بعد قصدهم الحرية ونيلها، بل ظلوا يعانون من الفقر والجهل الشديدين، لكن غناءهم أخذ منحنى جيد بعد دخول آلتي الهرمونيكا والجيتار ومن ثم لاحقا البيانو.. حتى أصبح من أشهر أنواع الغناء الأمريكية.

وللبلوز طريقته وأسلوبه الفريد، فقد ذكرت رشا عبد المنعم :

تُؤدى موسيقى البلوز التقليدية في شكل 12 فاصلة موسيقية، تنقسم إلى ثلاثة مقاطع ويتكون كل مقطع من أربعة فواصل موسيقية. وتتألف معظم كلمات أغاني البلوز من العديد من المقاطع الشعرية كل منها مكون من ثلاثة أسطر. ويكون السطر الثاني من كل مقطع تكرارا للسطر الأول، ويعبّر السطر الثالث عن جواب للسطرين الأولين. وتعكس معظم الكلمات الشعرية لموسيقى البلوز الوحدة والحزن، ويعكس البعض الآخر ردود الفعل الساخرة والتحدي لمشاكل الحياة. وتعتمد موسيقى البلوز على الصوت والموسيقى ( آلة الغيتار تحديدا ) وعلى ما يسمى بالـ blue nots وهي النوتات المنخفضة والتي هي أساس موسيقى البلوز والجاز وهو الاسم الذي أخذته واحدة من أهم وأشهر شركات الإنتاج Blue Note والتي تخصصت في إنتاج البلوز والجاز ولها فضل كبير في نشر هذه الموسيقى في أنحاء العالم ودعم معظم الموسيقيين الذين أصبحوا أعلاما في تاريخ الموسيقى.

ومن أشهر موسيقي البلوز هي قطع كريستوفر هاندي الموسيقية التي نشأت عام 1912، وأحد هذه القطع هي “ممفيس بلوز” وأول تسجيل لها كان عبارة عن ٣ دقائق فقط.

ولعل الأكثر شهرة في هذا الغناء اليوم هو بيبي كنغ (المولود في 1925) حيث حازت ألبوماته على توزيعات هائلة وشهرة كبيرة. (للاستماع)

للاستزادة : تقرير من بي بي سي الانجليزية عن مقطوعة كريستوفر هاندي “ممفس بلوز” / «البلوز» .. موسيقى حصاد الزنوج زمن العبودية وصيحات الانعتاق” بقلم رشا عبد المنعم في صحيفة البيان

موسيقى الفادو : حياة وتاريخ

* نشر في ساقية

tumblr_m9rgzoIdNs1qfbkomo1_500

فادو لون غنائي برتغالي يلخص مفهوم المعاناة والألم نشأ في عام 1820 
أو ربما قبل ذلك. يستخدم في هذا اللون من الموسيقى آلة الجيتار لكنها تحمل في صوتها وطريقة العزف عليها الطابع الأفريقي والأندلسي العربي قليلاً وذلك لتأثرها بالموسيقى الإسبانية والفلامنكو. فادو لشبونة يعتبر اليوم من التراث البرتغالي الذي يحكي تاريخ البرتغال والثورات ومنها ثورة القرنفل التي عرف أنها حدثت في القرن الماضي حين وضع الشعب زهور القرنفل في فوهات بنادق الجنود حتى أنها كانت الأكثر سلمية على مر تاريخ البرتغال.

يحمل هذا الفن في طياته لوعة وحزن وشجن ويتمحور حول كلمة (saudade) البرتغالية، والتي قد تعني الحزن الممزوج بالأمل، أو ما يتفجر لحظة لقاء المحبوب، وربما كانت تعني (الوجد) أو (الشجن) والذي هو مزيج عجيب من مجموعة مشاعر متضاربة من العشق و الحزن و الأمل. تقول رجاء عالم

يذهب البعض للقول بأن الفادو موسيقى جاءت كرقصة من أفريقيا في القرن 19 ، و تبناها الفقراء في شوارع مدينة لشبونة ، أو ربما بدأت في البحر كتراجيع الأمواج لحنين و أغاني البحارة الحزينة . و مهما كان مصدر الفادو فلقد التزمت مواضيعه القدر ، و الخيانة و اليأس و الموت ، و يقال إن حفل الفادو لا يُعَدُّ ناجحاً مالم تهمي دموع الجمهور . و في أوائل القرن العشرين كان الفادو هو موسيقى المأزق الأرضي ، موسيقى معجونة بتراب و عرق الأحلام المستحيلة للطبقة العاملة ، واشتهر مغنوه بالفاديست ، ينتشرون أزقة أقدم أحياء برشلونة ، و في حاناتها و ملاهيها الطافحة بالفقراء ، تصدح حناجرهم بالغناء مع المساء و تخترق جوف الليل كختام ليوم عمل شاق و تنفيث لهمومه ، هو التوق الذي لا يُشبع على هذه الأرض ، بينما يستحضر الفادو للمهاجرين البرتغال الوطنَ الذي خلفوه وراءهم.

كسائر الموسيقى الشعبية، تعتبر الفادو لغة الروح للروح؛ لأنها تحكي البحر والموج والفقد. لدرجة أنه ذات مرة حاول أحد رؤساء البرتغال التضييق على هذا الفن واخراجه في شروط معينة دون ابتذال. ولأن الفادو أحد ثروات البرتغال استمر هذا الفن ونمى بين أجيالها حتى غدا اليوم هو الإحساس بالحياة.

وأما الطقوس، فللفادو  طقوسه أيضاً. فإلى جانب أنه حكايا إنسان ومعاناة وطن، فلحضوره هيبة عند جمهوره في الإصغاء. حيث أنه لمجرد أن يبدأ العزف على الجيتار ينغمس الجمهور إنغماسا كليا ليشاهد الصورة كاملة في السواد الذي يغطي كامل جسد مغنيات الفادو العريقات، ويرى في طريقة الغناء ولغة اليد خاصة قصة إما بوضعها خلف الخصر ليخرج الصوت من العمق أو أنها تكون بمحاذاة مقر الألم حيث القلب!

ولرجاء عالم وصف لطقوس اميليا رودريغوس التي تعتبر هي ملكة الفادو والعزفيين المرافقين لها حيث تقول

يبدأ العازفون الثلاثة منكبين على جيتاراتهم ، برؤوسهم منحنية على أجساد الآلات التي يضمونها و يغوصون بأصابعهم في أوتار قلوبهم ، لينبعث جيشانها موقِّعاً لوعته على حبال حنجرة صوت كريستينا ، و التي بدأت بيديها خلف خاصرتها ، و ترتعد مع كل اختلاج للحن .. اليد جزء من طقس الفادو ، فهي إما خلف الجسد مثل ركيزة لتسمح للحنجرة و الصدر بالانبثاق في الهواء ليرسل الصوت طليقاً من أسفل الجذع البشري ، أو هي عصافير جنة تُحَلِّق مرتعدة قليلاً في الهواء و لا تلبث أن تغوص منغرسة في الصدر ، تضرب عليه لتشق أبوابه للقلوب المنصتة..

من هنا يمكن مشاهدة ملكة الفادو اميليا رودريغوس وهي تغني إحدى أغانيها ، كما يمكنك الاستماع إلى مجموعة أغانيها في اليوتيوب من هذه القائمة.

وهنا يمكنك مشاهدة أغنية أخرى لهذا الطابع من الفن.

للاستزادة :

الفادو تروي حنين القنفل / مقال “الفادو” للكاتبة رجاء العالم / موسيقى الفادو إحساس بالحياة

أرجوحة الحياة !

n4a54477

أتصور أن لكل أحد فينا أرجوحته ، فالحياة تكمن على الأرجوحة وهي السر فعلاً، إن ركوبنا الأرجوحة هي أول مؤشر على أننا بدأنا مغامرة الحياة! ألم تكن الأرجوحة ونحن صغار هي دليل على أن ذلك الصغير بدأ يكبر وأصبح بطلاً حتى أنه لم يعد يخشى الركوب في الأرجوحة؟! انها كذلك الآن ايضاً.. فركوبنا يعني إرادتنا للحياة.

لا أحد ليس لديه أرجوحته الخاصة، إننا ندفع الأرجوحة محاولين الحياة..  قد لا تتحرك أول مرة فنعرف أننا نحتاج ان دفع ونحاول أكثر وأكثر، وحين نتأمل  من حولنا نكتشف أن منهم  من يعرفون كيف يقتربون للسماء، بعضهم قد أتقن ذلك بعد ان تعرف على أبجديات الدفع بشجاعة وبعضهم فعلها بمساعدة آخرين!

الأرجوحة هي أن نحاول مراراً حتى نتقن اللعبة جيداً فننتشى ونصرخ وتعلو قيمتنا في أنفسنا ومن حولنا. فنظل نحاول إن نبتكر طرقاً جديدة في الدفع واللعب. وسرعان ما نحلق عالياً ثم نهوي.. ويا للخيبة! لكن ليس لأننا أخطأنا أو أننا لم نتبع قوانين اللعب بل لأن القانون الوحيد هنا هو أن نعلو ونهوي، نرتفع ونهبط حتى نعرف حركة الحياة، فتصبح اللعبة أكثر إثارة!

هناك من يتعبه تكرار الهبوط فقد يتوقف ويجلس مقابل الأرجوحة ويمعن النظر فيها! وهناك من يطمع بأن يعلق في السماء دون العودة للأرض!! ياصديقي، إن الحياة أرجوحة تعلو بنا تارة وتهو بنا تارة ورغم هذا نحاول ونبتسم 🙂

ملامح !

اللغة العربية للإستخدام اليومي “اليوم الرابع”

كانت الساعة الثالثة صباحاً عندما رن الهاتف لأول مرة ولكنه توقف، وما أن وضعت رأسي من جديد لأنام حتى سمعت بعض الطرق على باب غرفتي…
بحثت بين أنفاسي عن حبل شجاع أتمسك بطرفه لأتأكد هل الطرق كان واقعاً أم محض حلم! مشيت خطواتي على أطراف أصابعي إلى أن وصلت على مشارف ذلك الباب فوجدت ظرفاً رماه لي أحد ما من تحت الباب، في البداية لم أستوعب مالذي يحدث وكيف ذاك! إلآ أني فتحت ذلك الظرف الصغير على عجل وكأني كنت أنتظره، أو لأني كنت أنتظر أي شيء منه، وحين تأملت مابداخله فإذا بها  صورة لطفلة وفي خلفها دعاء، تأملت ملامح تلك الطفلة وأنا أقف أمام مرآتي كانت تشبهني كثيراً إلاّ أني كنت أقبح منها بكثير، كانت تبتسم بملئ قلبها، أما الواقفة أمام المرآءة بدت على قسمات وجهها تفاصيل اليأس .. قرأت الدعاء الذي بخلف الصورة خلال المرآءة فكان “اللهم اجعلها من السعداء في الدنيا والآخرة” ابتسمت وضحكت وسقيت قلبي بماء عيني .. كنت أعلم أن الله سيرسل لي ذات يوم طفلة جميلة تخربش علي قلبي وترسم قوس مطر ملون فتشرق الحياة فيه ربيعاً ! “أحياناً وفجأة تصادف جملة في كتاب، أو تسمع كلمة من عابر أو صديق، تشعر وكأنها تحكيك، تلك هي هدايا السماء والإشارات الربانية :)” تذكرت عبارتي هذه التي كتبتها ذات يوم فتأكدت بأن الله لا ينسى …