النص الرابع من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..
كانت تسير محاذاة البحر بعفوية، دون تحديد وجهتها، إلى أن وصلت قبيل الغروب لمساحة خاوية تماماً من البشر. كل القوارب الصغيرة تصطف هناك، عارية من الأشرعة.. رمت بجسدها على كرسي قد تلبس سطحه البرد، فارتجفت حال ماتلامس جسدها بذلك السطح المتجمد.. التزمت الصمت والهدوء، ففضاء المكان لم يكن يتسع لأصوات البشر، كلماتهم، لغتهم، حماقاتهم، شتائمهم وسبابهم. شعرت نفسها في تلك اللحظة بأنها تقف من خلف الباب وتنظر من الفتحتة الصغيرة كطفل فضولي يحاول معرفة مايجري خلف الجدار.. إنها تحاول فك رموز الصوت الآتي من احتكاك الجماد بالطبيعة!
في حركة الأمواج تربيتة للقوارب العارية، هكذا كانت تسير الأفكار داخل عقلها، فكلما زادت الحركة كلما استفاضت القوارب في اعترافاتها، كانت تستمع بصمت و تصر في نفسها بأن أزيز القوارب هو حديث مهم منها للبحر. تلك القوارب تحاول في كل مرة أن تفشي للبحر كل الأسرار البشرية، وماعلق فيها من آثام تخصهم، كذلك أحاديثهم السافرة المتروكة وراءهم. كان حديث البحر أحياناً يزيد من ضجيج القوارب، ذلك حين يكونان أكثر وفاقاً ربما، أو أكثر تعارضاً. ففي النهاية يجب أن لا ننسى بأن القوارب كآلآت مصنعة ليست إلا نتاج عقلية ذلك البشري، ولابد أن تكون ممتنةً أحياناً لذلك الخلق..
أما عن التفسير الوحيد لهبوط النوارس من السماء لتقف على وجه البحر ثم بسرعة خاطفة تعود لبطن السماء، هي أنها تريد القول بأنها ممتنة لأجنحة مكنتها من الهرب. الهرب من معتقل الإنسان الذي يعشق السيطرة على العالم والآخرين.. إن هذا الكائن البشري لا يقترف الآثام تجاه من يشبهه فحسب، بل شره يطول من لا يشبهه أيضاً.. ربما النقيض والضد هم الأكثر عرضة من أن يكونوا تحت الإغتيال وأقرب للكراهية.
تنهدت تلك الفتاة الجالسة على كرسيها،وهزت رأسها بقوة محاولة تشتيت أفكارها المزعجة، لأنها عرفت بعمق أكثر أنها مصابة بداء الواقع، فعقلها لم يسعفها لتأمل الكون بصورة متسعة، تأملت الحياة من منظورها الواقعي لتسقطه على عالم آخر لا علاقة مباشرة له فيه.. اقتربت وصعدت على أحد القوارب.. لم يشاهدها أحد.. أخذت فيه جولة سريعة وفي أثناء ماكانت تنزل من القارب، سمعت صوتاً يأتي من الخارج، كان صوتاً حميمياً أقعدها مدة أطول.. كان لحناً دافئاً يخرج عن أوتار البزق.. أسندت ظهرها وتركت نفسها تغيب عن الواقع لساعتين متواصلة بل أكثر.. كانت خلال تلك الساعات تغسل دواخلها سبعاً ليزول البأس راجية أن يكون جمال ذلك الصوت تمهيداً لسعادة أبدية.
قليل من الخيال لايضر