المنفى: آخر جذور أندلسية

* نشر في صحيفة مكة

المنفى لا يشبه الهجرة، فالهجرة قد تكون نابعة عن إرادة الشخص للبحث عن سبل حياة أخرى أكثر مما هي متاحة له حيث يقيم، لينتقل بكامل وعيه وإرادته وحسب إمكاناته لبلد آخر، فقد قال إدوارد سعيد في كتابه تأملات حول الحياة في المنفى، إن المنفى هو «هوّة قسرية لا تنجسر بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلّب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع
وأيا كانت إنجازات المنفيّ، فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد»
قد لا يقتصر النفي على أشخاص معينين بل قد يتسع ليشمل أقواما ينفون بسبب اضطهادات سياسية، فيطردون من بلدانهم تاركين خلفهم إرثهم وحضارتهم، ليقيموا في بلدان أخرى اضطراريا، محاولين بذلك خلق حياة جديدة، مهما كبلهم اليأس والخوف والحنين
في 1609م اقتلعت آخر جذور أندلسية مسلمة من إسبانيا – الموريسكية- لتطرد ويكتب عليها النفي بعد أن أعلن مرسوم ملكي في 1502 م يخير فيه المسلمون بين اعتناق الديانة المسيحية أو النفي ومغادرة إسبانيا
مما اضطر كثيرا من المواطنين المسلمين للتظاهر بالمسيحية تجنبا للتعذيب والاضطهاد من قبل الحكومة والبقاء في وطنهم
فالموريسكيون هم المسلمون الذين أخفوا دينهم في صدورهم وأقاموا شعائرهم في منازلهم سرا، وكتبوا القرآن الكريم باللغة العربية مشروحا باللغة الخميادية وهي اللغة التي اتخذها الموريسكيون بعد أن مُنعوا من استعمال لغتهم العربية فعرفت «ألخميادو» على أنها لغة رومانية قشتالية تكتب بحروف عربية
وللموريسكيين إرث أدبي إلى جانب الحضارة العمرانية الموجودة حتى الآن في نواحي الأندلس، ففي جامعة بورتوريكو يوجد أكبر مختبر للأدب الألخيميادو، أنشأته العالمة «لوثي لوباث بارلت» التي نشرت نحو 20 كتابا تتحدث عن الأدب الموريسكي ومجموعة لا تقل عن 22 باحثا نشروا الكثير من المخطوطات والأدبيات التي تحدثت عن معاناة الموريسكيين
يقول د
عبدالجليل التميمي عن فترة التهجير القسري والحرق والتعذيب الذي لحق بالمسلمين «هي أول تطهير عرقي في الزمن الحديث لا يوازيه فظاعة إلا التطهير اليهودي»
هناك مئات الوثائق التي تحدثت عن معاناة الموريسكيين وعن محاكم التفتيش، وجدت بعد فترة لينكشف الكثير عن الموريسكيين، ومن بينها ما نُقل عن الدكتور عبدالجليل، أنه جاء في أحد الوثائق بأن خمسة أساقفة موريسكيين من كبار أساقفة غرناطة، قد أحرقوا أحياء بسبب افتضاح أمرهم، باعتبارهم مسلمين سرّا ومسيحيين في الظاهر! فقد كانوا غالبا محل شك من قبل محاكم التفتيش، مهما بدا لهم أنهم قد حولوا ديانتهم
إلى جانب معاناتهم التي فرضتها الحكومة الإسبانية من تعذيب وقهر، وهو ما نقلته بعض الوثائق التي كتبها العثمانيون في شأن المسألة الموريسكية، أي عن المعاناة والإحباط اللذين لحقا بالمورسكيين، وهو فشل الدولة العثمانية من تفعيل موقف قوي تجاه إسبانيا، فعلى الرغم من أنها الدولة الأقوى إلاّ أن الإمدادات التي حاولت إرسالها لإثارة ثورة داخلية في غرناطة وتجهيز أسطول بحري لم تكن ناجحة، فما إن وصل الأسطول مشارف إسبانيا حتى تراجع القائد خوفا من التهديدات التي وصلته من ملك إسبانيا، وانسحابه لم يزد أولئك الثوار إلا قهرا، فأخمدت الثورة داخل غرناطة وانتهت بطريقة بشعة
فخرجت أفواج من الموريسكيين، تاركين بلادهم مكسورين، يحملون في صدورهم حب الوطن، وبين ثنايا عقولهم فكرا وأدبا، وعرفوا أنهم أصحاب صنعة وحرفة، فاستقرارهم في تونس تحديدا كان له حضور بالغ الأهمية من نواح اقتصادية واجتماعية ومعمارية، أما عن الفئات الأخرى فمنهم من ارتحل إلى الأناضول ليتشبث بأستار الدولة العثمانية، ومنهم من لم يبتعد كثيرا، فانتقل إلى دول أوروبية مجاورة كإيطاليا
يقول إدوارد سعيد عن المنفى «المنفى لا يمكن أبدا أن يكون حالة رضى عن النفس، واطمئنان، واستقرار
المنفى هو الحياة خارج النظام المألوف
المنفي بَدَوي، غير متمركز»