سأحدثكم هنا عن وثائقي جميل وعميق جداً شاهدته اليوم على الجزيرة الوثائقية.. الوثائقي الذي أثار في نفسي للمرة الأولى رغبة أن أرفع الآذان بصوتي في أحدى المآذن على مقام الصبا.
اسم الوثائقي: مقام الآذان
يحدثنا هذا الوثائقي عن طريقة العثمانين وتركيا الحديثة في تعاملها مع الأذان والمؤذنين كعنصر مهم يجب أن يعتنى به و كميراث عزيز كان قد ورّثه الرسول الكريم للبشريه. ولهذا كانت الدولة العثمانية قد أبتدعت طريقة منظمة لاختيار المؤذنين الذين ينادون نداء الله في المساجد. وكان لهذا التنظيم المبتكر آلية خاصة تعكس بطريقة أو بأخرى وجه من أوجه حضارتها. وحين تضآءلت شمس العثمانية وانحسرت وسطع عهد آتاتورك في الثلاثينيات أمر بتغييرات كثيرة كما نعرف و كان منها تغيير لغة الآذان. فبعد أن كان يصدح الآذان في مآذن تركيا العظيمة كلها بالعربية أصبح بعد أوامر آتاتورك يرفع باللغة التركية، ولم يكتفي بالأمر فقط بل قام بفرض عقوبات على من يخالف هذا القرار، وهذه ربما إحدى مظاهر القومية التي تمتع بها أتاتورك. واستمر هذا الوضع حتى١٩٥٠. على الرغم من أن هناك عرف تركي يقول: أن من يؤذن بغير لغة القرآن “العربية” فهو آثم، إلا أنه لا شيء تغير حتى مع وجود مقاومة كبيرة من مؤذني مساجد تركيا. تلك المقاومة استمرت إلى أن انتُخب “عدنان مندريس” كأول رئيس منتخب في عام ١٩٥٠. بعدها عاد الأذان إلى اللغة العربية ليصدح من جديد في سماء تركيا حتى أنه قيل: من شدة فرحة مؤذني اسطنبول صعد كل مؤذن إلى شرفة من شرفات المآذن وصار يؤذن، فلكم أن تتخيلوا مثلاً كم مؤذناً قد صعد في كل شرفة من شرفات مآذن جامع السلطان أحمد وبدأ الآذان؟! قد يتجاوزعددهم ١٦ مؤذناً.. وياللمبالغة!
كما نعرف فإن الدولة العثمانية اهتمت بالمساجد اهتماماً كبيراً كواجهة للحضارة الإسلامية، ونرى أن هذا الاهتمام امتد باسمها حتى اليوم بشكل أو بآخر. فتركيا الحديثة مهتمة بشكل خاص بجمال صوت الأذان، و من المهم أن نعرف أن الأذان في تركيا اليوم لا يرفع بشكل اعتباطي أو بصوت عادي بل أنه لا يرفع إلا بصوت جميل مدرب على أحد المقامات. ولهذا السبب يوجد مدرسة هي المسؤولة عن تنظيم الأئمة والخطباء والمؤذنين تدعى مدرسة “الأئمة والخطباء”. فعلى كل من يريد أن يصبح مؤذناً كان لزاماً عليه أن يلتحق بهذه المدرسة ويتعلم القرآن ويحفظه كاملاً، إضافة إلى ذلك يجب عليه تعلم التجويد ومخارج الحروف وليس هذا فحسب بل يتم اختياره بعد إخضاعه لفحص الصوت، حيث يجب أن يكون في طابعه الجهر والوضوح والصفاء، وبذلك يكون متناسباً مع إعتقادهم بأن الأذان لا يجب رفعه إلا بصوت جميل وطريقة جميلة وآداء كامل ومثالي. ولهذا فإنه يجب على كل مؤذن من مؤذني تركيا أن يتأهل في مدرسة موسيقية، يتعلم فيها المقامات الموسيقية على آلة الكمان والقانون والناي. ثم يتم تطبيق كل تلك المقامات على الآذان، ومالم يكن بالاتقان والجمال الذي يتناسب مع النداء إلى الله، فإنه يبقى تلميذاً حتى يتقن. فنداء الأذان بالنسبة لهم له قدسيته التي لا تسمح بأن يخرج ركيكاً أو ضعيفاً لأن الجمال لا يكون إلا قوياً ومبهراً وبذلك يكون الأذان أي “نداء الله” برداً و سلاماً على الأنفس بتنوع اعتقاداتها ومذاهبها.
فيقول أحد المؤذنين : عندما أرفع الأذان أفكر في كلماته، ويتدفق الأذان كالماء فينفتح كل شيء أمامي حتى أن الكلمات تلامس وجدان الناس. ويقول آخر كناية عن أهمية الالتحاق بمعهد الموسيقى وتعلم المقامات وتحسين الآداء الصوتي والوجداني عبر الموسيقى: يجب أن تنطلق هذه الرسالة بصوت جميل ومقام جميل وموسيقى جميلة.
تعلم المقامات ليس أمراً عابراً بل ملحاً في تركيا، يتعلم كل مؤذن المقام والهدف الرئيس من هذا المقام وأي الأوقات هي الأنسب ليشق طريقه إلى الآذان والوجدان فهم معتقدين تماماً أن الأذان لا يجذب من يذهبون إلى المساجد فقط بل يجذب حتى الذين لا يهتمون بالمسجد و الصلاة، أي أنه الصوت الذي يستعيد به كل إنسان روحه ويهديها كرسياً تتكأ عليه.
فقد خُصص في تركيا لكل أذآن مقام يتناسب معه فيقال: أن المقام الذي ينطلق منه أذآن الفجر يكون على مقام الصبا، والأذآن الذي يقام في منتصف النهار أي في الظهر يكون على مقام العشاق واختير العشاق تحديداً للنهار تأصيلاً للجمال ودافعاً للعمل. أما أذآن العصر فيقوم على مقام الرست وحزمه. ولقصر الوقت بين المغرب والعشاء فإن أذآن المغرب يكون خفيفاً سريعاً متناسباً مع هذا القصر ولذلك اختير له مقام السيكاه. ولأن من طبيعة الأتراك سابقاً أنهم يغنون للأطفال الأغاني قبل النوم على نغمة الحجاز فإن أذآن العشاء يقام في تركيا على مقام الحجاز تناسباً مع عرفهم الجميل.
قد يرجع هذا الاهتمام باقتران الأذآن بالموسيقى لإهتمامهم العميق بالموسيقى الدينية بالعموم والصوفية بالخصوص، ويبدو أنهم يعتبرون الأذآن جزء لا يتجزأ من الموسيقى في معناها العلمي الذي يحتاج كل مؤذن لإتقانها وذلك بالخضوع للتعلم والتدريب ومن ثم الممارسة.
يؤسفني أخيراً أن أقول بأن أحرفي لا تستطيع أن تتحول إلى أصوات لتسمعكم تلك المقامات كما يتغنى بها أولئك المؤذنون، بل إن الأذآن على المقامات التي ذكرتها يجب أن تسمع خلال روح متمعنة وهذا ما سيحصل بمتابعتكم الوثائقي الجميل “مقام الأذآن”. اترككم الآن.