أكتب كثيرا، لكن لاشيء مما أكتبه يشعرني بالرضا، كثيرا ما قررت داخل نفسي بأنه علي التخلي عن الكتابة .. وفي كل مرة أقرر ذلك، أكون على دراية كافية بأني أكذب، وبأن ما أمر به ما هو إلا اكتئاب بصفة أو بآخرى .. ربيت داخلي -مكرهة- عدو صغير، يحاربني فيما أحب .. لايراني لائقة بما أقوم به .. يسخّف كل ما أظنه جميلا ويشع حياة وبهجة.. مايفعله بي، يشبه ماتفعله حشرة جائعة على ورقة شجر خضراء جميلة، يقطم أطرافها ثم ينتقل إلى داخلها ويزداد نهشا لها .. عدوي الصغير، ينسل إلى أعماقي ويبدأ بالتخريب، فلا أجد مجالا للتراجع عن الشعور بأن جماليات ما أفعله ماهو إلا دمار .. كحقيقة أعرفها تماما، وأجهل مصدر يقيني بها؛ لن أكون كاتبة مشهورة في يوم ما، لن أكون تلك الكاتبة التي لها جمهور عريض يترقب ماتكتب، حقيقة لاتزعجني الفكرة، ما يزعجني هو كراهيتي لنشر ما أكتبه، لأن “النشر” يعطي انطباع لا إرادي بأن على تلك الكلمات أن تجد من يقرأها، لكن في الحقيقة نحن لانعرف إن كان هناك من يقرأ ..
لماذا نكتب؟ هذا السؤال حاد للغاية بالنسبة لكاتب .. هل تعتقدون أن من يكتب يحاول أن يجد سببا أو مبررا لفعله؟ لا أظن.. حتى أني أعتقد بأن الأجوبة على سؤال كهذا في أغلب الأحيان ليست سوى “محاولة” لإيجاد ما يقنع السائل لا الكاتب نفسه .. كنت أظن شخصيا بأني من خلال الكتابة سأصبح قادرة على التواصل مع نفسي، والتعبير عن الآخرين، وأنسج خيوطا كخيوط العنكبوت يتعرف الآخرون علي من خلالها، لكن ما انكشفت عليه من تعقيدات داخلية، يجعل حتى هذه الفكرة محض هراء، فنحن نكتب مانشعر به بل ماتنطوي عليه الدراما، أو الإدعاء، والخيال وليس نحن كلية.. نحن نحن لكننا لسنا نحن في الوقت نفسه، لا أعرف كيف أشرح الفكرة تحديدا، لكن أعرفها جيدا، فأنا أشبه ما أكتبه ولا أشبهه في نفس الوقت .. الكتابة صراع مستمر، لتعرف مغارات نفسك وروحك، وأن تحدد من أنت فأنه ليس عليك أن تكتب فقط، لأن الكتابة صوتك الداخلي، بينما من الممكن جدا أن لايخرج بصوت مرتفع في يومياتك العملية .. هناك أنت المحبوس في الكتابة ويظن بأنه ينوجد من خلالها، وآخر الذي يصارع ليكون موجودا في حياته وحياة الآخرين حقا .. قد تصيرك كتابتك لتكون موجودا في حيواتهم، لكن وجودك الفعلي لايكون بنفس الجودة التي تكون عليها وأنت كاتب .. الكاتب هو النسخة الأصعب في التشكل والظهور .. والحكم عليه أسهل، أسهل من الحكم على موسيقي أو فنان .. حيث كما يظنه العقل الجمعي -وقد يكون صحيح لحد ما- أن الكاتب يكتب حقائقه، ونفسه، وأفكاره .. ربما، وربما تكون الحقيقة مختلفة عن النفس، ومختلفة عن الأفكار .. الكاتب يصيغ الحياة للآخرين، ويمنحهم حيوات متعددة، بينما هو لايعرف إن كان عاش في تلك الحيوات أو من خلالها، حساس و يقظ لكثير من التفاصيل، يموت ويعيش كثيرا ليستطيع أن يصل إلى النقطة الأعمق عند القارئ .. الكتابة ليست مجرد إلهام يأتيه، هي حصيلة كبيرة من الخبرات والقراءات والخيال .. وأظن – العزلة- فالعزلة بمعناها الحقيقي تستطيع خلق الاختلاف .. الاختلاف الذي يجعلك رغم الجميع فريد لحد ما .. وهذا بحسب ماقرأت في مكان لا أتذكره هو ذكاء اجتماعي يخص فئة (الانطوائيين). لكن الإنسان وليس الكاتب تحديدا لديه نزعة كبيرة لأن يكون معروفا، أن يكون موجودا، أن يبعث من موته في صورة الخلود .. وعند هذه النقطة قد أميل إلى أن عبث الآخرين عند موتنا قد يجعلهم يعيدوننا للحياة من جديد في حال كان ميراثنا (كلمات) أو فن تركناه مجهولا مع قيمته .. وهنا تحديدا أتذكر فيفيان ماير التي ذُهلت كثيرا بسيرتها ومجموعة (الصور) التي كادت أن تبتلعها الأرض أو الحاويات .. وكذلك يمر ببالي هنري دارجر، راجعوا سيرته .. أو لعلي أحدثكم عنه في مرة قادمة .. حيث ستعرفون أن هناك من يجد نفسه وفنه ويصنع مجده في العزلة حيث يبدو للآخرين (عاديا).
وبعد كل هذه الثرثرة، ماذا أريد أن أقول باختصار؟ حقيقة أحب أني لا أهتم كثيرا بأن يقرأني عدد كبير من الناس .. فأنا لا أطمح بأي شكل أن أكون معروفة .. يكفيني أن أصل للمقدرة المطلوبة لأن أعرّف من أحبهم عن نفسي، وقلبي، فبذلك أكون موجودة، وخالدة.
مُتابع لك يا فاطمة مٍن زَمن بعيد. أحببت القول أن لك قَلم جَميل ومُشاكس، أُشاركك نفس الخوف في الضغط على زر “نَشر”. مؤمن أن جمهور الكاتب قد يكون شخص واحد أو إثنين وقد يكون جمهور نفسه! هناك كمية مشاعر كبيره جداً عندما نعود في قراءة ما كتبناه قبل سنوات، فهي تُعطي للكاتب شعور بالإمتنان لشخصه في تلك المرحلة. إنقطعت كثيراً عن التدوين لكن بالأمس القريب نشرت أول تدوينة ولدي في المسودات ٤ تدوينات جاهزة للنشر، توثيق هذه اللحظات لأنفسنا تخلق شعور بالفخر لخلود هذه التجربة قبل أن يدمرها النسيان! اتمنى أن نراك بإستمرار دائماً يا فاطمة
شكرا أحمد .. ممتنة.