لربما مادفعني للكتابة اليوم هو ذاته القلق الذي يدفعني لأكتب لأقرأ ولأثور أحياناً. القلق تجاه الحياة والعالم. يحدث ذلك في كل مرحلة أصل فيها لمفترق طريق أو هكذا كنت أظن إلى أن اكتشفت أن بعض الطرق نعود ونجد أن لها مفترقاً آخر لاحقاً في منعطف الزمن. أقلق كثيراً حين تمر علي أسماء روايات أو كتب لها وزنها الأدبي والفكري وأنا لم أقرأها حتى الآن، ليس القلق الذي يصيبني هو من النوع العادي بل ذلك الذي يجعلك تعود لوعاء عقلك لتلقي نظرة عليه وإذ بك تشاهد منظرًا مرعبًا جداً، مساحات خالية ليست تلك التي تضفي للوحات الفنية جمالاً على جمالها.. بل المساحات التي تؤكد كلما أمعنت النظر فيها بأن لا شيء يسكنها سوى صوت صفير الريح وصدى الفراغ المخيف. قلق يجعلني أتساءل أين كنت أعيش وفي أي الكهوف حتى أني لم ألتفت مرة للحياة داخل كتاب عظيم لفيلسوف مثل روسو أو مفكر كمالك بن نبي، أو داخل رواية بهذا العمق الذي أجده في روايات هيسه مثلا، تلك التي تتحدث عن ضياع الإنسان الطبيعي في الحياة باحثاً عن تجربته الخاصة وإيمانه الحقيقي. أما حين يمر اسم ديستوفسكي وتشيخوف وكافكا وتوليستوي ومانغويل و ماركيز وهيسه وغيرهم من عظماء هذا الفن أشعر بخجل ما يحوطني ويؤلمني كذلك. ربما لأني أظن بأن الوقت المناسب للقراءة كان يجب أن يكون قبل عمري الحالي ب١٠ سنوات على الأقل. كان يجب أن أكون أكثر نهماً للقراءة في ذلك الوقت. لكن لم يحدث ذلك مطلقاً حتى بلغت لتلك اللحظة التي شعرت فيها بزيف العالم فوجدت أن الأدب حتى حين يكذب يكون أكثر صدقاً من العالم الذي نعيش فيه، العالم الذي يحاول دفعنا دائما إلى الهاوية لكن برضانا الكامل، العالم الذي يحولنا أشباحاً ومسوخاً دون أن يعطينا حقنا في الإعتراض. استوقفتني قبل سنوات قليلة من الآن كل الكتب حتى البسيطة منها. أما الأخرى كروايات هيسه مثلاً وكانت تجربتي الأولى و الأعمق فقد انتشلتني لتدخلني دوامة لا أعرف لو خرجت منها أم مازلت أتبعها أو أدور داخلها، فرغم كل شيء فأنا دائما ما أجد في الحركة حياة أفضل من الركود الذي يشبه الموت. هل أقول بأني كنت ميتة في وقت ما؟ ربما.. ربما يحدث أن نعيش كما تعيش الزومبيز. وربما لا نعرف معنى أننا على قيد الحياة إلا حين نجرب الحياة قيد الموت أولاً. قد يغلب علينا ظننا بأن الرواية لاتعطينا مايكفي من المعلومات أو الإجابات وهذا صحيح لحد ما إلا أنها حتماً تتغلغل داخل نفوسنا وعقولنا وتحاول الربط بين الخفايا وذلك لتجعلنا نرى أو نستشعر الرابط اللامرئي بين الذهن والشعور.. هي تجعلنا نعيد شكل الحياة في أذهاننا وتصوراتنا.. فنرى وجهة جديدة أو على الأقل وجهاً جديداً يقبع داخلنا.. تعري إحساسنا أمامنا فنجد من يشاركنا الشعور الإنسان على الأغلب ذاك الذي لايفهم ولا نقدر على تفسيره أحيانا بصورة جلية في ضجيج عالم يمحي الإنسان بالكامل، مشاعر كالتي تتشكل في مسطحات قلوبنا إلا أننا نعجز عن وصفها والتعبير عنها كما يليق بالأحاسيس العظيمة.. فالرواية لها قدرة السحر لتفعل ذلك، فعل التعرية والتسلل للعمق. هي دائماً ما تكون خارج حدود الزمن لكنها لاتخرج عن إطار الحقيقة. الجدير بالذكر هو أني بودي لو أرسل آلاف الرسائل الآن لكل شاب وطفل من هذا الجيل، وأتوسل إليه بحب أن يتعلم من أخطاءنا أكثر وأن لاينخدع بالسراب الذي يظن أنه يروي في حصن الدراسة، ثانوية كانت أم جامعية، بل سأحاول أن أعصب عينيه جيداً لأجعله يدرك أن لخياله معنى فأحثه على التخيل، وأحفزه على أن يخرق الجدار كما فعل الخضر بالسفينة ليصل لما خلفه بروح ثاقبة، سأمده بالحبال ليتسلق كلمات الآخرين وعلومهم لينهل أو ليغرق أو يغرف لايهم الطريقة المهم أن يتخذ فعلاً ما ليصير غواصاً أوصائداً محترفاً مدركاً أن البحث والقراءة هي الطريق الذي يجدر لكل مرء السير فيه.
أما عني أنا فلم أعد أقوى إلا على التهام الكتاب تلو الآخر عبر جدولة معينة قد نخذل فيها بعضنا أحياناً وذلك تبعاً لمزاجي وتقلبات الظروف إلا أني قدر الإمكان أتثبت لأحصل على قوتٍ يوميّ يتقوى به عقلي وتتكئ عليه روحي في مجابهة الحياة.