اسطنبول٤: دراويش | Daravish

DSC_0742

وصلنا أخيراً لليوم الذي حضرت فيه مشهداً تصوفياً كاملاً حدث بجله أمام عيني، وهو عرض “آلدراويش”. قبل وعيي بالموسيقى التركية والتصاقها بي لم أكن لأحفل كثيراً بالتصوف والدروشة، إلا أن سحرالموسيقى التركية كان يفتك بي فتكاً، فأكاد أجزم أن كل الموسيقيين الأتراك الذين أستمع إليهم موسيقاهم تصوفية وإن نفوا ذلك. فيكفيني أن أدخل معها في حالة من الصدق والاعتراف يكاد لا يمرعلي في وقت آخر. هي قادرة على نزع الكثير من الأوجاع المتسربة في أعماقي وذلك بتصفيتها مما يشوبها حتى تظهر على السطح فأعرف أن هذه الأوجاع هي الحواجز التي تمنع عني المطر، وأحياناً الحب والحياة.

DSC_0749

 

بيّتُ نيةً عميقةً بأني هذه المرة لو ذهبت لاسطنبول لن أتنازل عن حضور عرض للدراويش بأي شكل، وحدث ذلك بعد أن اتفقنا أنا وأخي وأختي على الحضور وخاصة بعد أن تأكدنا من أن مكان العرض لايبعد كثيراً عن الفندق الذي نزلنا فيه. كان العرض يبدأ في الساعة ٧ تقريباً، لهذا بعد أن أنهينا جولتنا في السوق، مررنا للجلوس على شرفة المقهى المفضل “حافظ مصطفى” لشرب القهوة. والذي يقع في منطقة امينونو مقابل محطة الترام، والمطل على جزء من البحر. يكمن جمال تلك الشرفات بأن لازجاج لها، فهي عارية إلا من هواء البحر الذي يقبل عليك ويلطف أجواءك حتى يكتمل جمال اللوحة بكوب القهوة أو الشاي مع الكنافة، التي لا تستطيع مقاومتها، لها وجه ذهبي مكشوف و مزين ببعض الفستق ما إن تقبل عليك حتى يسيل لعابك وإن كنت في حالة شبع. هي الإغراء شئت أم أبيت. بعد أن انهينا فنجان قهوتنا حاولنا مرة أخرى أن يرافقنا أبي وأمي لحضور عرض الدراويش إلا أنهما أصراعلى العودة للفندق بحكم أن عرض كهذا لا يتوافق مع اهتماماتهما ولا مع يقينياتهما، افترقنا في تلك اللحظة ومضينا أنا وأختي وأخي صوب القاعة. وصلنا لمقر العرض، دفعنا التذاكر، وبعد دخولنا القاعة اكتشفنا أننا الوحيدين العرب، أما الأغلب فكانوا أجانب وقلة منهم أتراك. انتظرنا بضع دقائق ومن ثم دخلت الفرقة المكونة من عازف ناي ومنشد وعازف بزق و طبّال. بدأوا بالإنشاد والعزف بعدم حضور الدراويش أو الراقصين لمدة قد لا تتجاوز ١٥ دقيقة. خرجوا من المكان إلى أن دخل كبير الدراويش الذي لا أعرف كثيراً إن كان له اسم، بدأ بطقوسه العجيبة وهي فرش قطعة قماشية على الأرض وبعدها انحنى ثم خطى بعض الخطوات للوراء وتوقف، ودخل بعده ٣ آخرين، بدأ كل منهم ينحني للآخر. بعدها بدأ العازفون العزف ومن ثم ابتدأ دوران الدراويش يأخذ حيزه في فضاء تلك القاعة ووسط ذلك الجمهور الذي بدأ بالتصوير. كنت أنظر إليهم باندهاش ولاحظت أن بعض حركات اليدين تبدأ لتتجه إلى الأعلى ومن ثم إلى الأسفل، ثم يقوموا بوضعها بقرب الرأس، حركات لم تكن مفهومة بالنسبة لي. في الحقيقة أنا تعمدت عدم قراءة أي شيء عنهم والذهاب بجهلي للحضور وذلك حتى يتسنى لقواي الخفية ناحية الجمال و الإنسان لتتوه في هذا الدوران وتحاول أن ترصد الشعور البكر. كنت مع ذلك الدوران أفقد احساسي بمن حولي شيئاً فشيئاً ثم بالزمن. خشيت لوهلة أن أكون قد وقعت في فخ تنويم مغناطيسي أو شيء من هذا القبيل، فاحتار الشعور عندي إلا أن الحقيقة هي أن التجربة زادت من يقيني بأن الإنسان كائن يميل بطريقة أو بأخرى لأن يخترع مخرجاً -أقرب مايكون وصفه بأنه تعبدي- لنفسه ليموت خلاله أو يحيى، وكلٌ بحسب اعتقاده. وهؤلاء بدورانهم هذا يعتقدون أنهم متجردين وخارجين تماما من دنيا العفن. لم أكن أفهم الكثير من الطقوس التي يفعلونها ماقبل الدوران وأثنائه ومابعده. لكن هم يلبسون الأبيض دلالة على طهارة الكفن الذي نُلف فيه آخراً قبيل لقاء الله، ولأن هذا الطقس إعتقاد بأنه لقاء مع الله فاختاروا له الأبيض، أما بالنسبة لتلك القبعة الطويلة فلونها الترابي يشير إلى التراب والقبر، أي الزوال. هو طقس يحاول المتصوفة به إقناع أنفسهم أنهم قد وصلوا بذلك إلى قتل الغرور وأنهم قد اتصلوا بالأبدية التي لا تتعلق بحياتنا الواقعية الزائلة، بل تلك الخالدة. والانفصال هنا ثلاثي أي مرتبط بالعقل والروح والجسد. أي سكون كل شيء مقابل وصل مع المحبوب أي الاله.  فهم يطبقون اعتقاد مولاهم جلال الدين الرومي بأن الأرض ترقص لهذا يدورون.

DSC_0788

DSC_0774

خرجنا من هذا الحدث بروح أقرب ماتوصف بالهدوء. فطابع الموسيقى التصوفية هادئة رزينة وتحكمها قواعد التصوف والمتصوفة. وبعد خروجنا مباشرة توقفت عند “علي اسطه” بائع الدندرمة الذي أعادني طفلة في ثانية بحركة بهلوانية خفيفة أخرجت على أثرها ضحكة، كانت ضحكة سعيدة دون قرار للسعادة.