حين أردت أن أكمل الكتابة عن هذه المدينة الجميلة بعد موضوعي الأول “مجرد استكشاف” تنبهت لحاجتي لرفع مستوى لغتي أكثر، فاسطنبول هي المدينة التي لا يجب الحديث عنها بلغة بسيطة بل معقدة تشبهها، هي المدينة الصاخبة الرزينة في آن واحد، هي تلك التي تغريك بشرقيتها ثم تعود لتقول لك انتبه فأنا لم أكن بليدة للحد الذي جعلت شرقيتي تحاصرني وتردني لأرذل الزمن، بل أنا بين الغرب والشرق، بالبناء والتغيير. استثارت اسطنبول الكثير في داخلي، منها لغتي وعاطفتي بشكل كبير بطريقة تكاد ماتكون عنيفة و أظنها إلى الحد الذي جعلني متيقظة طوال الوقت، لأعيد شروح تاريخية، وحضارية وانسانية في داخلي.
في هذا اليوم كنا قد قررنا زيارة آيا صوفيا، فكنت قد بحثت قبل سفري لاسطنبول عن طريقة اشتري بها تذاكر المتاحف دون أن أضطر للوقوف في مسار طويل قبيل الشباك لأجل تذكرة، وخلال بحثي وجدت أن أسهل الطرق هي شراء الميوزيم باس، الميوزيم باس عبارة عن بطاقة تستطيع بها الدخول لأكثر من متحف –منها آيا صوفيا والتوب كابي– تعمل لمدة ٣ أيام من استخدامها.. أعجبتني الفكرة جداً وقررت شراءها من اسطنبول حال وصولنا، وبحسب ماجمعته من معلومات عنها فإنها متوفرة في بعض الفنادق، لكن لم يكن الفندق الذي نزلناه ضمن تلك القائمة، سألنا كثيراً عنها ولم نستطع تحديد مكان شراءها بالضبط. وحال وصولنا لساحتها اكتشفنا أن شراء البطاقة أسهل مما نظن، فشراؤها كان عن طريق ماكنة والجيد أن هناك مايقارب ٤ أجهزة أشبه ماتكون بأجهزة الصرف الآلي لتشتري منها البطاقة، وفعلاً لم نحتاج للوقوف طويلاً من أجل تذكرة.
عند الدخول لآيا صوفيا وبعد تمرير التذكرة يحدث مباشرة إجراء روتيني وهو التفتيش الشخصي، أي مرورك في جهاز مع وضع الحقيبة في جهاز آخر. تقدمت مباشرة بعد ذلك التفتيش إلى كشك لاستئجار الجهاز الصغير الذي يزودك بالمعلومات التاريخية اللازمة باللغة التي تريدها، يعمل عن طريق وضع رقم الأماكن المعنونة بها زوايا المتحف و الأجزاء التي تريد أن تعرف ماذا ترمز أو كيف بنيت أو من بناها. فوراً بعد كتابتك الرقم، يجيبك الجهاز مباشرة ويعطيك نبذة مبسطة عن الجزء أو المكان أو الرسمة بأسلوب أقرب مايكون إلى السرد التاريخي القصصي. لا أعتقد أن باستطاعتي دخول أي متحف دون استئجار ذلك الجهاز وكأني بذلك أؤكد على رغبتي بالتواصل مع السابقين، ذلك الوصل الذي لن يحدث. فأكتفي بتمرير المعلومات لمن حولي مع تدوين مايثير إعجابي وتساؤلاتي لأستزيد لاحقاً.
دخلنا الأعجوبة الحضارية “آيا صوفيا” أخيراً، وياللدهشة !! كأني كنت أشاهد معنى التعايش بشكل جلي، فتلك القبة الكبيرة التي تعتبر جزء من الكنيسة قد تعانقت مع المآذن التي مثلت الإسلام بكل ألفة، تساءلت نفسي: ترى متى حدث كل هذا التسامح بين الأديان آخر مرة؟ لا أكاد أكون واثقة من كل ما أعرف عن التسامح، إلا أني شعرت فيه داخل آيا صوفيا، بقي المشهد عالقاً في ذهني إلى أن خطفتني الكتابات ومن بينها الله، و الرسول صلى الله عليه وسلم وتتوسطهما الصور والرسومات التي مثلت الكنسية بشكل واضح، رسومات جميلة للغاية في دقتها وألوانها. وحين أدرت وجهي فإذا بأسماء الصحابة الموجودة حول القبة تعانق مدامع العين، تلك التي كتبت بخط عربي باذخ الأناقة.. كانت الصورة بكاملها عظيمة لا يستطيع وصفها رائ مهما امتلك من بديع اللغة وجواهر الحديث، فالذي يحدث هو حضور الروح وصلاتها التي تختلف درجة سكونها وانفعالها من شخص لآخر نحو الجمال.. حين وقفت في وسط المتحف تخيلت بأني أقف موقف محمد الفاتح والفرق أنه وقف هناك موقف حق وموقف تسامح، أما أنا فطأطأت رأسي خجلاً منه، لكوني أظن أن الإنسان منحاز دائماً فراودتني نفسي بسؤال: إلى أي شيء أنت منحازة هذه اللحظة! لكن سرعان ماحملت قدماي حتى لا تعرقل أفكاري مشاعرالسكينة داخلي لأكمل جولتي في الجزء العلوي الذي كان لايقل جمالاً عن الجزء السفلي بل التأمل في كل شيء خلال الصعود.. الممر، النوافذ، التفاصيل، كل شيء زاد من إعجابي بهذا البناء الذي امتزج بشكل عجيب بين حضارتين، دون أن تخدش حضارة أختها، تأملت الأعمال الفنية المصنوعة من الفسيفساء ومن ثم خرجت، خرجت وأنا متشبعة تماماً، متشبعة جمال وأفكار.
انهيت رحلتي في آيا صوفيا العظيمة وليتها لا تنتهي.. فقد أثارت إنسانيتي حتى أني شعرت بسلام يحط في قلبي وأمل بأن التسامح والتعايش ليسوا أحلاماً أو أوهاماً بل مواقف قد تحدث يوماً كما فعلها أقوام آخرين.
بعد آيا صوفيا ازدادت شهيتي لزيارة المتاحف واحداً تلو الآخر، فلم انتظر لليوم التالي حتى أزور القصر العالي” توب كابي“، أخذتنا أقدامنا حيث القصر، كنت أسير متأملة في الأسوار والحدائق إلى أن دخلنا المتحف ويبدو أننا دخلنا من بوابة كانت الأقرب لجزء “الحريم”. بشكل عام لا تضيرني كثيراً تلك التفاصيل التي تتحدث عن تاريخ حياة السلاطين الخاصة وزوجاتهم، لكن ما أثار دهشتي التفاصيل على الجدران، والنقوش، والآيات التي زينت بها الممرات المؤدية للقصر الداخلي كانت أعجوبة في الجمال. قصر ضخم لا تعرف بدايته من نهايته. تسير في الأروقة إلى أن تتوه، متاهة الجمال تأخذ بعضك وتترك بعضك في أروقة أخرى. هذا ماكان عليه قصر التوب كابي. إلى أن اتجهنا قاصدين الجهة التي احتفظ العثمانيون فيها بأجزاء مادية وقطع تعود للرسول ولصحابته، كالسيوف وغيرها. لا أكاد أصدق الإزدحام الشديد الذي كان على تلك البوابة، سمعت أحد الأتراك يخاطب من بجانبه ويقول “ملات ملات” ثم يرفع من نبرته “سبحان الله” وأخيراً يتمتم بصوت خفيض “صلى الله على محمد” من نبرته تسمع دهشته المختلطة بروح امتلأت خشوعاً، تلك الدهشة الي كبرت فيه بفكرة أنه برغم اختلافنا و تعدد توجهاتنا، ومذاهبنا، إلا أننا جميعنا اتفقنا على تلك الزيارة ووقفنا لأجلها طويلاً. ثم بمجرد أن دخلنا حتى شعرنا بقدسية المكان، ليس لأجل مافيه من قطع، بل ربما حديث ذلك التركي خلال انتظارنا وعدد الأصوات المصلية على الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن في الداخل هي ما أثارت ذلك السكون. أدهشتني الأجزاء والقطع الموجودة إلا أن السؤال الذي ظل عالقاً في ذهني هو، هل كل ذلك حقيقي؟ وكيف استطاع العثمانيون جمعه والاحتفاظ به منذ ذلك الزمن البعيد!!