رحلتي إلى اسطنبول كُتب لها ذلك دون تخطيط مبكر، كان القرار لها وليد لحظة وربما يستحسن مني أن أصف تلك اللحظة بالجليلة، حجزنا التذاكر ومن ثم الفندق وباقي التفاصيل تركناها لحين وصولنا، فالمدن التي تشبه اسطنبول لا تحتاج لنختلق لها حياة تناسبها، هي تزرع فينا الحياة، هذا ما آمنت به. كل ما احتجت له حقيبة تتسع لملابسي الملونة وكاميرا ودفتر وكتاب و الصحبة طبعاً وذلك يعني عائلتي الصديقة.
كانت الرحلة في أول أيام عيد الفطر ١٤٣٥، ولا أظن أني هنا بصدد الحديث عن تراتيب العيد، كان وصولنا لاسطنبول حوالي الساعة الواحدة ظهراً وهذا يعني أننا لم نحتفل على طريقة أهلنا في جدة بتاتاً. بعد الوصول وتخطي إجراءات الدخول والعفش، كان يجب أن نجد تاكسي ليقلنا من المطار إلى الفندق، وخلال طريقنا كالعادة تباهت اسطنبول أمامنا ببحرها الممتد على طول الطريق، بحرها الذي يخطف قلوب العابرين بها لمنظر القوارب والسفن التي تسير فيه وهي بذلك تكوّن صورة اسطنبول الأولى في أذهانهم، تماماً كما فعلت بي. في هذا اليوم كانت اسطنبول في إجازة، وامتدت تلك الإجازة لعدة أيام، كانت كلها تحتفل بالعيد لكن على طريقتها، فلم أشاهد محفلاً خاصاً، لكن كل مالفتني هو الإزدحام الشديد في كل اسطنبول دون أن استثني منها شارعاً أو زقاقاً واحداً، هذا وإن عكس علي بشيء فقد عكس مظاهر الحياة في اسطنبول حتى شعرت بها تهديني حياتها.
كنا قد قررنا سلفاً أننا لن نسمح للنوم أن يأخذ بقية يومنا بعد وصولنا للفندق بالرغم من أن أعيننا لم تذق طعم النوم منذ اليوم الذي قبله. لكن لا يجب النوم على مسافر في ساعات وصوله الأولى بل كل مايجب فعله هو الاكتشاف محاولاً بذلك تبادل الآلفة بين شوارع المدينة كزائر وبين روحه. فكان يوماً استكشافياً بامتياز، قررنا اكتشاف اسطنبول بالمشي على أقدامنا، كان المشي أحد الطرق الأسهل لاستشعار الحياة التي تعيشها اسطنبول، فكم هوجميل أن تمشي في شوارع ممتلئة بغيرك من المشاة، يختلفون في طريقة لباسهم ويجتمعون على أن يكونوا ذو ألوان، شعور الحياة لا يكتمل إلا حين تجد الأشخاص حولك ملونين، فكأن اسطنبول بذلك صارت حدائق ذات بهجة. خرجنا من الفندق الذي يقع في المدينة القديمة وتحديداً في منطقة (لالالي) قاصدين المسجد الأزرق، لم نحمل أي خارطة معنا لتدلنا، كان سؤالاً واحداً وجهناه لأحد العاملين في الفندق: أين تقع ساحة السلطان أحمد؟ فكان الجواب هو: المشي كيلو واحد تقريبا من هذه الإشارة بشكل طولي. منطقة لالالي تجارية حيث كان الفندق الذي نزلنا فيه محاصراً بأسواق الجملة من كل مكان وتحديداً الماركات التركية، ربما هي منطقة جيدة ينزل فيها عشاق التسوق والشوبينق. لكن ليس في العيد طبعاً فقد كانت المحلات التجارية مغلقة في تلك المنطقة طيلة الثلاث ليالي التي سكناها هناك. خلال طريقنا لساحة السلطان أحمد شهدنا المقاهي والمطاعم والبائعين الذين يجلسون على الأرصفة ولا أنسى بائعي الدندرمة – البوظة التركية- فبائعوها وحدهم قصة لا تنفصل عن الحياة. فخفة اليد والعرض البهلواني الذي يفعله أصحابها يرغموك على استشعار لذة الدندرمة قبل تذوقها فعلياً. هم يصنعون لك البوظة في قالب الضحك والسعادة.
مشينا طويلاً و لحظة مرورنا بمحطة الترام التي تقع قبيل ساحة السلطان أحمد وبعد منطقة لالالي، توقفت. توقفت للحظات أتأمل الترام. فمساراته قد تحيرك، وتجعلك تتساءل كيف استطاعوا ذلك؟ اسطنبول شوارعها ضيقة وقديمة وخاصة منطقة كمنطقة السلطان أحمد هذا إلى جانب مرتفعاتها التي بدت في بادئ الأمر معضلة بالنسبة لي وأنا أفكر في طريق الترام و القطار، لكن رغما عن كل تضاريس اسطنبول الصعبة استخدم الأتراك الحل الأمثل والأنسب لتخفيف الازدحام المروري بإنشاء سلسلة الترام، ولم يكن تراما عاديا بل هو من النوع الجيد والحديث، كان هو الحل الذي أغنى الكثير من الناس عن اقتناء سيارات خاصة.
أخيراً وصلنا لساحة السلطان أحمد حيث اجتمع جمال المسجد الأزرق بمآذنه الست وآيا صوفيا بقبتها الضخمة المهيبة، كان مجرد النظر نحوهما عن بعد له شعور قدسي خاص. تلك الساحة المكتظة بالناس تجعل اللقاء والصلاة والحب والجمال أشياء تترآئ أمام عينيك وتتداخل فيك. وقتها تمشي وابتسامة تعلوك وخشوع يلف روحك فأنت تقف على مشارف الجمال. في تلك الساحة تسكن الحياة الدينية والدنيوية مجتمعة، حيث تسمع أصوات بائعي الخبز التركي “السميت” متداخل مع صوت الآذان، وبائعي الفواكة كالبطيخ يتجولون بعرباتهم يستحثونك لتشتري منهم. وما أن تصل أمام عظمة المآذن بجمالها وأصواتها حتى تتشرب روحك الجمال وتتنفسه وتسري القشعريرة داخلك، فاسطنبول دون مساجدها وعمارتها القديمة هي لاشيء. تأخذك الرهبة في لحظات كتلك وتخالجك الكثير من المشاعر التي لا تستطيع تفنيدها في وقتها.. لكن كل تلك المشاعر تحديداً هي صحيحة بالضرورة فكما قيل الفن ابن الدين. ربما تلك المشاعر هي رد فعلنا تجاه الجمال، أي ماقال عنه كلايف بأنه الانفعال الجمالي، الذي لا يوجد له تفسير غير أنه النشوة، والشعور العميق الذي يجمع كل الأعمال الفنية، فمهما اختلفت في بنيتها السطحية هي تتحد في جوهرها.
ينتهي يومنا الأول هنا بغروب شمس اسطنبول أي حوالي الساعة ٨ والنصف، انطلاقا من تلك اللحظات لأيام أخرى أكثر جمالاً.