الفن يأبى الخضوع

*نشر في صحيفة مكة

مع كل ما يحدث من أحداث في العالم..حرب ودمار وقتل، دماء وأشلاء، إلا أن الفن عصي على الموت، يأخذ مواقعه بدقة متناهية، نستطيع أن نلحظ ذلك بجلاء في مواقف بعض الشعوب خلال عرض مواقفها تجاه الحصار والحرب على غزة، فكم من المظاهرات التي قامت حول العالم واستخدمت فيها الطرق الإبداعية الفنية في عرض مواقفها، آخرها كان موقف المتظاهرين الذين جلسوا داخل صناديق صغيرة جدا في لندن. كانت الفكرة من صغر حجم الصناديق أنها تعكس معنى الحصار المفروض على غزة منذ سنين، هذا إلى جانب كلمة غزة التي كانت مصنوعة بطريقة أشبه ما تكون أبوابا حديدية كالسجون والمعتقلات.
يشرح علي عزت بيجوفيتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب الفن بأنه عالم الصدق الجواني. كما يشير الكثير من الفلاسفة إلى أن الإبداع هو جوهر الفن وهو التمييز بين الخلق والتقليد. وحتى إنهم حين أرادوا إقران الإبداع بشيء فإنهم قرونه بالفن وليس بالعلم، وذلك لأن وظيفة الإبداع الفني هي الارتقاء بالعقل البشري ونقله من طور إلى طور فقط عبر التصور والبديهة.
إن الإبداع الفني أصبح هو المتصدر والمتحدث الرسمي عن الأفكار الجوهرية للأفراد، بل حتى الجماعات، هو الذي لا يحاول أن يتبع أي إيديولوجية محددة، لهذا تحارب بعض المجتمعات الديكتاتورية الفن والإبداع بكل إشكاله، لأنه بشكل أو بآخر يأبى الخضوع. قد لا يكون الإبداع الفني خلقا جديدا كليا، بل هو إعادة التأكيد على الأفكار، على مبادئ إنسانية مر على تأكيدها الكثير من العظماء. نستطيع أن نقارب هذه الفكرة بالمظاهرة التي أشرت إليها في بداية مقالي -جلوس المتظاهرين في صناديق ضيقة – أشار العمل إلى فكرة جوهرية إنسانية يكررها الإنسان في كثير من الأعمال الفنية سواء كانت أدبية أو تشكيلية. هي نفسها التي كتب عنها علي عزت بيجوفيتش حين ذكر أن كمال الفن هو أنه يناسب أي عصر، ممثلا بذلك فكرة الكاتب المسرحي العظيم لو أنه كتب مسرحية فصلت بينه وبين كاتب عظيم آخر قرونا فإن الأخير يستطيع إكمال العمل الأول. وقد قارن هذه الفكرة بالعلم حين سأل: هل نظرية «أرسطو» تستطيع اليوم أن تقف أمام نظرية «نيوتن» في الجاذبية؟ يقصد بذلك أن النظريات العلمية قد ينسخ بعضها بعضا بعكس ما يحدث في الفن. وهذا ما جعله يقول إن العلماء ينتمون لعصورهم فقط، أما الشعراء – ويقصد بذلك الفنانين بشكل عام- فينتمون لكل العصور.
ولأن الفن ضرورة روحية كما ذكر كلايف بل فإننا نرى أنه في كثير من الأحيان وإن تضمن العمل الفني موقفا تجاه الحياة فهو يطالب بأن تبقى الروح والعاطفة بعيدة كل البعد عن الوجود المادي، وذلك حتى يتسنى للانفعال الجمالي المحض أن يقوم بعمله تجاه الفن في داخلنا، أي لتفنيد العمل الفني الجيد من غيره بفعل ذلك الانتشاء الذي أشار له كلايف حين قال إن الفنان تكفيه النشوة فلا يجب عليه أن يكترث بالبعد الزمني. إن الفن في شكله العصري الحديث قد تطرق له البعض على أنه لا يتجاوز الصناعة الفنية، أي إن الفن لم تعد فيه روح الفنان الخاصة، بل تميل هذه الفكرة أكثر لتصف الفن بأنه سلعة في ظل المادية أكثر من أن يكون فنا، لكن البعض الآخر طبعا ينفي ذلك لكنه يصر على أن يكون الفن هو انعكاس لأفكار الواقع وتصويرها. أما فلسفة كلايف بل وعلي عزت بيجوفيتش فتتفق على أن الفن رؤية جوانية وانفعال، وهو الذي أسماه كلايف بل «الانفعال الجمالي» الذي تشترك فيه جميع الأعمال الفنية، أي في جوهرها مهما اختلفت في شكلها السطحي. كما أكد كل من علي عزت وكلايف أن الفن يعتمد على خبرة الفنان الخاصة، ومعاناته، وبهذا ينفيان تقريبا تداخل العلم والمعرفة في جوهر الفن.