ما سبب هذا الترتيب للآلآت الموسيقية في الأوركسترا؟

يبدو السؤال وكأنه سيتضمن إجابة مبنية على معادلة رياضية، غير أن الإجابة متعلقة بقائد الأوركسترا “ستوكوفسكي”.

بدايةً، كانت الأوركسترا بشكل عام محصورة على فئة معينة من الجمهور، تُلعب في قصور الطبقة البرجوازية، لم يكن يتعدى حينها عدد عازفي الاوركتسرا كاملًا، الاثنى عشر عازفًا. توسعت فيما بعد وأصبحت تُعزف على جمهور عريض في مسارح كبيرة وضخمة، يصل أعداداهم مائة وأكثر، وصار وقتها لازمًا أن يكون لهؤلاء العازفين قائدًا يرشدهم، يلهمهم، وينظم العزف بشكل أو بآخر كما يفعل المخرج تمامًا في المسرح ، فظهر عندها دور “قائد الأوركسترا” الذي لم يكن موجودًا من قبل. بل صار كل قائد بالضرورة له لمسته الخاصة في التوجيه لإظهار العمل الموسيقي كاملًا وعظيمًا.

لكن، ما سبب هذا الترتيب للآلآت الموسيقية في الأوركسترا؟

قبل 100 عام تقريبًا لم يكن شكل الاوركسترا كما هي بشكلها الكلاسيكي الحالي، كانت تقام على طريقة التفاعل، أو التخاطب. لم يكن عازفو الكمان يجلسون متجاورين كحالهم الآن.
في الأساس، ينقسم عازفو الكمان إلى قسمين، قسم يجلس في الجهة اليمنى من القائد، وقسم في الجهة اليسرى، ولا يعزفون لحنًا واحدًا دفعة واحدة، بل كان يجلس النصف الذي يعزف الكمان أولًا – First Violin- مقابلاً لمن يعزف ثانيًا -Second Violin- ،و يشكل هذا الترتيب حوارًا بين الكمنجات، وهي الطريقة التي كان يوزع على أساسها موزارت مقطوعاته، كالسيمفونية 14 “Jupiter”:

و في بداية القرن ال20 ظهر قائدًا للأوركسترا يدعى توكوفسكي، غير مجرى اللعبة، والطريقة والأسلوب،وتراتيبية عازفي “عائلة الكمان”،فقد قسم عائلة الكمان الأربعة بأنواعها (كمان – فيولا – تشيلو- الكونترباص)، في مواقع تختلف عما كانت على سابقتها ..

جَمَع عازفو الكمان – ذو حجم 60 سم- الذين يعزفون أولًا، أو ثانيًا، في جهة واحدة، أي على الطرف الأيسر من القائد، أما عازفو الفيولا – بحجم 90 سم- يتوسطون المسرح أي متقابلين مع قائد الأوركسترا نفسه، ويجلس في الطرف المقابل لعازفي الكمان أي في الجهة اليمنى من قائد الأروكسترا عازفو التشيلو و الكونترباص.

وقد اخترع ستوكوفسكي هذا الترتيب كما رآه مناسبًا  بعد التجريب لأكثر من طريقة، لرأيه أن هذه الطريقة تحديدًا، هي التي تعطي الصوت تناغمًا وانسجامًا أكثر، بل وتوزيعًا جيدًا، حتى صار أسلوبًا عالميًا وشكلًا إلزاميًا يلتزم به كل من يكتب الموسيقى لأي أوركسترا ممكن أن تعزف.

ألم يفكر أي قائد أوركسترا أن يغير هذا الترتيب بعد ستوكوفسكي؟ أم صار هذا التريتب هو المعادلة الرياضية الصوتية الأجدى في المساحات الكبيرة والضخمة؟
ربما، إلاّ أن هذه التراتيبية لم تعطي تكاملًا للصوت فقط، بل للمنظر الجمالي في حركة عازفي الكمان،وهذا سبب وجيه لأن يكونوا في المقدمة. كما وأن هناك فائدة للعازفين أنفسهم حيث قال ستوكوفسكي : أن عازفو الكمان حين يعزفون من جهة واحدة، فهم يسمعون بعضهم البعض بشكل أفضل، وأكثر وضوحًا، وهذا الأمر الأهم.

 

الرواية مؤقتة أم خالدة

* نشر في صحيفة مكة

نستطيع أن نلحظ أن بعض الروايات تتصدر المراكز الأولى منذ فترة طويلة، وتمر على أجيال مختلفة يحملون لها ذات الشغف، أمثال روايات ديستوفسكي وتوليستوي.

لكن هناك بعض الروايات يخبو اسمها واسم كاتبها سريعا، أو لا تكاد تذكر بعد فترة من الزمن إلا فيما ندر، وكأن الروايات تنقسم لقسمين رواية موقتة ورواية خالدة، ما السر الحقيقي وراء ذلك؟ ولماذا تكتسب كل منها هذا الوصف؟
إن بعض الأعمال الروائية التي يهتم صاحبها للفكرة فقط وللحدث الذي تدور حوله الرواية هي بشكل أو بآخر تكتسب صفة الوقتية خلال تلك الحدود الزمنية والمجتمعية والتاريخية التي لا تكاد تخرج عن إطارها، بمعنى أكثر اتساعا، فإنها لا تتجاوز تلك الحالات والأحداث المحددة، قد تتطرق إلى جوهر المعاني الإنسانية الكلية التي نشترك فيها لكن تمركزها يظل داخل إطار زمني محدود، وحدث تاريخي مصاغ.
في الجانب الآخر أو المقابل لذلك، هناك روايات تتسع في مفهومها وأحداثها، أي تشعر بأن تفاصيلها خارج الزمن وخارج الحدود، وفي ذات الوقت هي تمر داخل أنسجتنا الروحية وتحتوينا، مهما بدا فيها أسلوب الكاتب بسيطا وسلسا، هي تجعل الإنسان وغايته وأبعاد نفسيته مركز أحداثها، وتتطرق إلى أحلامه وأمنياته وأوجاعه، كل ذلك يجعلها تكتسب صفة الخلود، فنلحظ بشكل أو بآخر أنها تكتب لنا جميعا ولا أحد مستثنى منها لأنها ببساطة تكتب للإنسان بشكل رئيسي.
إذن، فروايات كتلك في أسلوبها وموضوعها هي تتبنى عنا الوجع وتخفف وطأة الصمت، وأكثر ما تفعله أنها تحاول مرارا أن تضعنا في الطريق حين نظن أن كل الطرقات باتت مقفلة ولا مجال للمضي أكثر، تحاول أن تكون رفيقة ذلك الطريق فتعمق إنسانيتنا ورؤيتنا، وتدفعنا بقوة وجرأة للدخول في دوامة الحياة بشجاعة أكبر.
إن الرواية التي تتلخص في هذا المفهوم وهو الإنسان، تنتقل من الزمن إلى حدود أبعد منه حيث الخلود، أي تصبح نصا خالدا، فمعاناة الإنسان وضياعه تتكرر، والصيغة الروائية هي الجزء الذي يكفل لنا حق استعادة أحلامنا من جديد خلال استيعاب الكاتب لذلك القلق الذي يصيبنا جراء الحياة.
وسأضرب مثالا على ذلك، فمثلا نحن جميعنا نظن أننا قرأنا كل روايات ديستوفسكي الروائي العظيم الذي تحدث عن الإنسان، بينما نحن في الحقيقة لم نقرأ إلا الجزء الذي تحدث فيه عن خبايا الإنسان وأحواله النفسية كالإخوة كارامازوف والجريمة والعقاب، أما منزل الموتى مثلا فهي ليست بشهرة الأخريات مع أنها ملتزمة بالجمال الفني المعتاد لفيودور ديسوفسكي، هل أحد تساءل عن السبب؟ سأجيبكم بسبب بسيط، وهو أن الأخيرة «منزل الموتى» تتحدث عن التعذيب في سيبيريا، أي أنها تتحدث بتفاصيلها عن وقت وفكرة محددة تماما، بينما الأخريات تمحورن بطريقة بديعة حول النفس البشرية بإجمالها، ونستطيع أن نقيس ذلك على روايات وكتابات عديدة.
إذاً فخلود الكلمة يكون بخلود الإنسان، بمعنى أن الحرف الذي يكتبه الروائي والذي يتبنى الإنسان وحده، هو الذي يتجاوز الأفكار وحدود المجتمع
والزمن أيضا.

الحاجة وليدة الاختراع!

*نشر في صحيفة مكة 

بعد الإعلان عن الآي فون الجديد لربما أول رد فعل ظهر من الجمهور بشكل عام هو التعبير عن مدى احتياجاهم الفعلي لبعض أو كل التجديدات والخصائص المضافة له، ولا أعلم نسبة الطلب التي تمت خلال ليلة واحدة، إلا أن الكثيرين بعد المؤتمر مباشرة أعلنوا بشكل صريح عن مدى رغبتهم وحاجتهم لاقتنائه.

لكن لو نتأمل قليلاً فإننا سنستنتج بطريقة أو بأخرى أن الحقيقة مغايرة! لربما تكون تلك الحقيقة هي أننا نعيش حياتنا على الزيف وربما الوهم، وأقول ذلك لأن الغالبية ببساطة قبل الإعلان عن الآي فون لم تكن تأبه لتلك المستجدات ولم تكن تفتقدها أبداً لكن لمجرد الإعلان عنها توهموا تلك الحاجة.
وهنا يجب أن نقف قليلاً على عبارة «الحاجة أم الاختراع» فمؤخراً لم تعد الحاجة سبباً للاختراع بل الاختراع بحد ذاته يولد الحاجة! ومن هذا المنطلق لا يسعني إلا أن أتذكر أفكار عبدالوهاب المسيري وطرحه بخصوص الاستهلاك ورفع مستوى الحاجة الفردية للإنسان ليكون مستهلكاً بدرجة أولى، فيقول: إن الاستهلاك يعني التخلي عن مجموعة ضخمة من القيم الإنسانية المهمة، وهنا يقصد بالضرورة الاستهلاك حين يصبح هو المركز وهو القاعدة، أي حين يتحول العالم ليتمحور حول الأشياء المادية التي لا تتجاوز الحواس، وقد ذكر في هذا مثالاً لفكرة الوجبات السريعة كيف أنها مثال في إلغاء فكرة الجلوس مع العائلة في مائدة واحدة في ساعة واحدة لتناول وجبة الغداء التي تم إعدادها في المنزل، ويقصد هنا أن أحد أسباب عدم التقاء العائلة ما هو إلا نتيجة لمركزية الاستهلاك، أي إلغاء قيم إنسانية مهمة مقابل هذا الحل ذي الطابع المادي، لكن د. المسيري في المقابل لا يطالب بإلغاء تلك الوجبات ولا تحريمها لضرورتها.
ونلحظ هنا أن مجتمعاتنا أصبحت استهلاكية حتى أنها ما عادت تسأل نفسها عن المعنى من اقتناء المنتج الذي تستهلكه ولا أهميته الحقيقية.
ونستطيع هنا أيضاً إسقاط أطروحة المسيري مرة أخرى وهي التي يذكر فيها بإسهاب تحويل الإنسان إلى شيء عبر الثقافة المادية البحتة التي غزت العالم، وذلك خلال إزاحة الإنسان من المركزية لتحل محله السلعة، أي تصبح أكثر أهمية منه، حيث كان يذكر في أحد مقالاته بأن هذا الغزو لا يقتصر على الشرق، فهذا وهم، بل نلحظ أنها نتيجة طبيعية لمد الحضارة المادية، وذلك يعني إلغاء خصوصية المجتمعات جميعها حتى الأوروبية منها عبر فرض طابع واحد وتقاليد متشابهة.
ونستطيع ضرب مثال بسيط هنا وهو الموضة، فكيف أصبحنا لا نلبس فحسب بطريقة متشابهة بل ذلك يمتد ليشمل اللون بحسب فصول السنة، وشكل الحذاء وطول الكعب، ومن المناسب أن أذكر هنا أني قرأت ذات مرة في أحد الموضوعات المهتمة بالأزياء أن الحذاء الذي يبلغ طول كعبه كذا سنتمترا فيستحسن ارتداؤه في السوق والأعلى منه لليوميات، والأعلى للمناسبات وهكذا.
فها هو موضوع الاستهلاك يجرنا لنكون مستعبدين ويضيق من حرياتنا الحقيقية، فمن الذي يفرض على الحر ما يرتديه، وكيف يرتديه وكيف تصبح الأمور الشكلية أهم من ذوق المرء الخاص وراحته؟!
أخيرا وبعد هذا الطرح، فإن ما يجب علينا الوعي به حقاً هو أن العبودية لها أوجه عدة ومعان عدة، إلا أن أحد أوجهها يظهر بشكل مغر، حتى أن المرء ينخرط فيه دون وعيه التام لأبعاده، بينما أوجه الاستعباد الأخرى تحصل بشكل قهري.
نحن بحاجة حقاً لأن نفكر كثيراً ونتساءل دائماً قبل اقتناء وقبل اتباع أي شيء، أي في الفكرة وأبعادها، وفي السلعة وأهميتها، هل هذا ما أحبه حقاً، لماذا أقتنيه؟ أو لماذا أريده؟ وهكذا.
لأننا لا ندرك أن وهم حاجتنا لتلك السلع، وشعور السعادة الذي يصحبها شعور زائف يمنع المرء من استشعار ذلك الشقاء الجمعي الذي نعيشه، وكما قيل هو يمكن المرء من رؤية الرفاه في الشقاء، أي يضلل علينا الحقيقة، حقيقة حريتنا.

رسالة افتراضية

*نشر في صحيفة مكة

فتحت هذه الصفحة لأكتب وقررت أن أكتب رسالة لكل شخص اهتم لحديثي هذا أو لم يهتم، أعرف جيداً أني سأظهر فيها كوصيّ، وكمستبد يحاول السيطرة ببسط أفكاره على الآخرين، لكن أليست الرسائل افتراض صداقة بين اثنين؟ وإلا مالذي يدع الكاتب أن يستدعي اللغة الثقيلة أحياناً ليكتب رسالة؟ إذن فلتعتبرني صديقاً لا يريد منك شيئاً أبداً سوى أن يحكي لك ويشاركك بأسلوب بسيط عن فكرة تراوده.
فكرة كلما حاول أن يعيش خلالها أرهقته عجلة الزمن.
قبل عدة أيام كنت أقرأ رواية «البطء» لميلان كونديرا، تحدث كونديرا في تلك الرواية عن فلسفته قائلاً: هناك علاقة خفية بين البطء والذاكرة، وبين السرعة والنسيان.
ثم حاول بعدها إسقاط تلك الفلسفة عن طريق سرد قصتين في زمنين مختلفين، الحقيقة ليس يضيرني شيئاً الآن يا صديقي من تلك الرواية بأكملها سوى هذه الجملة «علاقة خفية بين البطء والذاكرة».
فكيف تفسر البطء على أنه الذاكرة من وجهة نظرك؟ سأقول لك ما يجول في ذهني..هل جربت مرة أخذ نفس طويل دون اكتراث للوقت! ثم أعدت أخذ هذا النفس مرة أخرى؟ هل جربت مرة أن تشرب كوب قهوتك الصغير جداً على جرعات وأنت مسترخ تماماً تسمع موسيقى تمتد لنصف ساعة على الأقل دون اكتراث للوقت؟ أستطيع تخمين ما تقوله عني الآن في نفسك بأني أجيد تضييع الأوقات الثمينة بلا حساب! فلا بأس دعك من الجملتين السابقتين، وتعال اقترب مني وجاوبني بصدق، كم مرة خطرت فكرة وقد تكون عبقرية جداً في ذهنك وتركتها تنضج في رأسك على مهل دون أن تعرقل نموها؟ وتدرسها بجدية قبل أن تعلن عنها بكل ثقة؟! والدراسة هنا في نظري تأخذ معنى «البطء».
أظن أنك الآن بدأت استيعاب ما أرمي إليه وفهمت فكرتي.
سأكون أكثر صدقاً معك، أظن أني الآن أجد مبرراً لأقول لك دعنا نعيش الحياة برتم بطيء ونتعلم كيف نترك الأشياء الجميلة تنمو وتكبر بإيقاع هادئ وبسيط داخلنا قبل كل شيء.
انظر إلى الأشجار كم تأخذ من الوقت لتنمو؟ تفعل ذلك ربما لتبقى باقي عمرها متألقة وجميلة، انظر إلى المواليد، وإلى الصيصان، حتى الغيوم لا تمطر فجأة هي تتشكل وتتشكل ومن ثم تبدأ بالهطول.
لربما السرعة وفكرة «الزمن القياسي» أوهمنا أن البطء هو المشكلة والسرعة هي الحل.
مع أن موروثنا يقول «في العجلة الندامة وفي التأني السلامة».
فكرة البطء تخص دواخلنا أكثر من أي شيء آخر.
ليس لأجل الذاكرة فقط بل من أجل اكتشافنا.
إننا نأبه للظهور ونعطيه الأهمية الكبرى لهذا نظن بأن السرعة هي الحل، ونجعله رغبتنا الأقوى فيضللنا عن إرادتنا في تمكين ذواتنا فيما نحبه دون أن نشعر.
ألا ترى معي ذلك يا صديقي؟ ألا يحدث ذلك معك؟ أنا لا أطالب أحداً بالوقوف بل على العكس،أنا أطالب نفسي أولاً قبل كل أحد بأن نأخذ وقتنا لننمو كالشجر.
فلربما البطء الذي أقصده بعبارة أخرى هو الوضع الأكثر واقعية من فكرة السرعة التي تبدو في بادئ الأمر أنها الأكثر جدوى.
وبهذه المناسبة سأحكي لك قصة قرأتها ذات مرة في إحدى المقالات، تقول القصة بأن مجموعة من طلاب الثانوية في أمريكا قد طلبوا من أحد الكتاب المشهورين في رسالة إقناع برغبتهم في استضافته للمدرسة، وتلك الرسالة التي كتبها الطلاب هي في الحقيقة واجب لقياس مدى قدرتهم على إقناعه، فما كان منه إلا أن قام بالرد عليهم برسالة قال لهم فيها ينصحهم ويعطيهم قاعدة مهمة للحياة: مارسوا أي فن أو هواية تحبونها، ليس مهم جداً أن تكونوا جيدين فيها بداية، الأهم ألا تفعلوا ذلك محاولة للشهرة ولا رغبة في الظهور ولا سعياً للمال، وإنما افعلوا ذلك لأجل ذواتكم، لأجل أن تنمو أرواحكم بشكل أكثر ما يكون طبيعيا وصحيا.
واستمروا على فعل ذلك ولا تتوقفوا أبداً.
وأنا أقول لك يا صديقي دعنا ننفذ وصيته هذه، فلربما تعلمت أرواحنا الاتساع بهذه الطريقة ولربما تعلمت الحب.

الكوميديا السوداء

*نشر في صحيفة مكة

لغة الكوميديا أو الفن الساخر لغة تترجم نفسها، لا تحتاج لمعجم لتقارب في معانيها، هي اللغة التي تشرح الوجع بشكل خفي، وتحلل أعمق المواضيع بصورة رمزية، لكن ما نجده متداولا اليوم بوصفه كوميديا هو ليس سوى فن ساذج يريد تغيير معنى الكوميديا الحقيقي، هو التعدي على الآخر بصورة مستفزة وغير مقبولة، ونستطيع أن نرمز لهذا النوع من السخرية بأنه «الاستهزاء»، وليس هذا من الفن في شيء سوى أنه لون من ألوان الضحك..يقول الدكتور غازي القصيبي «اعلموا أيها القراء الكرام أن السخرية ثلاثة أنواع: السخرية من الذات وهي سخرية المتواضع، وسخرية من الأقوياء وهي سخرية الشجعان، والسخرية من الضعفاء وهي سخرية الأنذال».
نستطيع ملاحظة نمو هذا النوع من الفن –الفن الساخر- الواعي في المجتمعات التي تمتلىء فيها أفواه أفرادها ماء فلا هي تبتلعه ولا هي قادرة على لفظه. يذكر أن فنان الكاريكاتير السوري علي فرزات حين عرض لوحة له تفسر بشكل أو بآخر شكلا من أشكال السياسة العراقية في معرض باريس في الثمانينات، طالب السفير العراقي بنزعها، واحتجاجا على ذلك وقّع عدد من الفرنسيين خلف تلك اللوحة دفاعا عن الفنان ودفاعا عن الفن «الساخر».
إن الفن الساخر يشبه في طريقته الكشاف الذي يستخدم في المناجم ليلقي ضوأه لاستخراج ما هو خفي، وهذا ما تحدثه السخرية فهي تلقي الضوء على عيوب المجتمعات، عن بؤس الواقع والحياة وما فيها من مشكلات أخلاقية، في اللحظة التي قد تكون ظاهرة ومتفشية ولكنها مستورة بستار ما، فيأتي الفن الساخر للحديث عنها بجرأة وجدية بين قوسي الهزل، حتى نجد أنه لا يستدعي فينا الضحك بقدر الرغبة في البكاء.
بحسب ما قيل عن هذا الفن، فإنه أحد سبل المقاومة، مقاومة اضمحلال القضايا وذوبانها، ومقاومة الأوجاع، حيث لا يعدو الحديث الساخر خاليا من أفكار جوهرية، بل حين تظل تلك النكات متداولة بشكل مستمر فهي تظل تغذي الفكرة بعدة شروحات وتحليلات متناولة بطريقة التهكم الواعي. فالفن الساخر هو الوحيد الذي يحلل القضية بصمت ولا يوجه للنخبة بل يمرر على أكبر شريحة من المجتمع، حتى تصبح بعض القضايا بكثير من تحليلاتها واضحة بأقل الكلمات للجميع، بل قد تختصر في رسم صامت.
لو نتتبع التاريخ سنجد أن الفن الساخر فن حاضر بشكل أو بآخر إلا أنه بدأ في الانحسار. وهذا الانحسار لا يعني انعدامه، فنستطيع أن نلحظ كم النكات والسخرية التي تفشت في الثورة المصرية في 25 يناير، لكن هذا الفن يحتاج لموهبة خاصة فهو ليس مجرد سرد، ولكنه تعرية للقبح، فهو يضع قبح المجتمعات والسياسات في قالب أقرب ما يمكن وصفه بأنه قالب الوداعة.
وأخيرا نقول ما قاله أحمد خالد توفيق «تكون السخرية على الأفكار، انظر مثلا كيف تُعلمنا السينما أن نسخر من الأحوال أو من يتأتئ في الكلام». ومن هذا المنبر نستطيع القول: إن كنا نريد أن نستعيد هذا الفن فلنعده في قالبه الصحيح وليس لمجرد الضحك.

الموهبة عصية لكنها تأتي بالممارسة

*نشر في صحيفة مكة

الكل يعرف تقريباً استناداً إلى ما يقوله مطورو الذات بأن أي فعل يريد المرء تحويله إلى عادة يلزمه الاستمرار عليه مدة 30 يوماً فيتحول من فعل نادر الحدوث إلى عادة يومية. لكن فكرة «العادة» هنا بالنسبة للمقال مجرد المدخل للخوض في الحديث عن الموهبة التي يفتقر كثير من الناس متعة حضورها فيهم، وهذا ليس لأنهم غير موهوبين بل ربما لأنهم لا يحسنون استخدام موهبتهم بالطريقة الصحيحة أو ربما فقط لخوفهم من الإخفاق والفشل. ما علاقة العادة إذن بالموهبة؟
كنت قبل فترة قد واجهت تساؤلا حول السر الذي يجعل الموهوبين متمكنين من موهبتهم سواء كان ذلك في الرسم أو الكتابة أو غيرها، فوجدت أن الأمر يطلق عليه السهل الممتنع حيث إن تمكين الموهبة يتطلب أمراً مهماً جداً وهو «الالتزام»، وهنا يأتي حس المسؤولية الفردية فيما يخص هذا الالتزام، فالموهبة تكون عصية أحياناً لكنها تأتي بالممارسة، حيث إني قرأت ذات مرة بأن الكاتب عبدالرحمن منيف كان يخصص لنفسه يومياً ساعة أو أكثر من ساعات الصباح الأولى ليكتب، لكن لك أن تتخيل أن عبدالرحمن منيف كان قد مارسها ليس لعام واحد بل لأعوام وأعوام حتى أصبح كاتباً.
فالطريقة العملية لتفعيل الموهبة إذن هي ممارستها بشكل يومي. ومن حديثنا البسيط عن الكاتب عبدالرحمن منيف واقتران الموهبة بالممارسة والالتزام نستطيع استلهام فكرة ما تمكن الفرد من موهبته، كأن يقوم كل شخص يجد في نفسه موهبة ما بمشروع فردي بسيط وهو أن يحدد عدد أيام معين سواء كان 100 يوم أو 365 يوماً لممارسة موهبته أياً كانت – كتابة، رسم، تصوير وغيرها- خلال تلك الفترة دون الاستسلام لأي عذر. ونستطيع القول بأن ثمار هذا العمل وهذا المشروع لن تتحقق دون معاهدة النفس على «الالتزام»، ويجب أن يكون هذا الالتزام مفعلاً دائما وحاضراً مهما كان صوت مزاجه ومهما كان ضيق وقته، ومهما شعر بالملل وأراد التوقف عنه، وإن اختلط الشعور بمعنى الجدوى حيث يحدث دائماً أن صوتاً داخلياً يحرضنا على التوقف ويسائلنا في جدوى ما نفعل فليس من الجيد الخضوع له بل إن قهر النفس في هذه اللحظة سيكون مطلوباً لاستمرار الهدف الذي تحدد مسبقاً، إذن دعونا نتفق أن هذا المشروع ربما لن يكون أكبر من عمر السنة الواحدة وقد لا يحدث التطوير المرجو على المستوى العام للشخص الموهوب بطريقة واضحة، حيث إن سنة واحدة بالتأكيد لن تصنع منه عباس محمود العقاد ولا فان جوخ، لكن بلا شك سيتخرج الموهوب من ذلك المشروع منجزا ومكتسبا ثقة أكبر في ذاته، وفي النهاية سيكون قد حقق مشروعاً واحداً على الأقل انعكس عليه بعدة جوانب إيجابية كتطوير موهبته وغرس قيمة مهمة تتطلبها الحياة في جميع مناحيها ك»الالتزام».
صحيح أن هذا المشروع لن يكسبه مالاً أو شهرة وتركه أيضاً لن يكون بمثابة خسارة وظيفة مهمة يعتمد عليها لكنه حتماً سيكون فخوراً بما حقق خلال السنة لأنها حتماً ستكون سنة غير عادية وقد يتغير بعدها صاحب المشروع إلى الأبد. وسيشعر لحظتها أنه اكتسب الكثير الذي لم يحسب له حساب، كشرف المحاولة أمام نفسه، وطعم الإنجاز الذي أصبح حاضراً فيه، بالإضافة لمشروع جديد يضفي لمشواره العظيم ويرفعه درجة أو النصف، إضافة إلى أن هذا المشروع البسيط جداً والذي قد يراه غيره غير مهم إطلاقاً، سيكون جزءا لا يتجزأ من مشوار حياته الطويل الذي كان قد خطط للوصول إليه في خارطة ذهنه وربما على ورقة حياته المكتوبة التي آن لها أن تكون تطبيقاً عملياً مثمراً.

الرواية لغة يتفرد الشخص في خوضها

نشر في صحيفة مكة

يقول علي عزت بيجوفيتش «الشعر هو معرفة الإنسان، والعلم هو معرفة الطبيعة». إن الفنون معرفة لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال، مهما حاولت عقولنا الاستخفاف بأهميتها فإن شيئا ما داخلنا يتوق إليها باستمرار. هذا الشعور ليس سخيفاً أبداً، بل هي خاصية متعلقة بالإنسان في خلق الحياة خلال روحه، وهذا لا يتم إلا عبر الفن وأحد أشكاله.
أتذكر مقولة قالها أحد المثقفين وهي أن «الرواية لا تبني عقلية المثقف، بل هي شيء جانبي ليست له قيمة علمية، لا تضيعوا أوقاتكم في قراءتها». نستطيع الاتفاق معه في حين تعاملنا مع الرواية كأي كتاب آخر، أي إذا أردنا قيمة علمية معينة أو الخروج منها بحصيلة معلوماتية رهيبة، وأظنه أخطأ حين نصح بتجنبها، ونحن نخطئ كثيراً في حق أنفسنا قبل الخطأ في حق الرواية إن استمعنا لنصيحته دون أن نرى الجانب الآخر في الرواية، فالرواية ليست إلا عملاً فنياً. والفن يستوجب علينا أن نعطيه حيزاً لا يستهان في أوقاتنا لأنه الجمال الذي نتعب دونه، بالإضافة إلى أن بعض الباحثين وجدوا أن أدب الرواية تحديداً له تأثير على المهارات الاجتماعية كالتعاطف والقبول الاجتماعي والذكاء العاطفي وغيرها من القيم الإنسانية وبنائها. كما أن بعض الدراسات أشارت إلى أن الروايات تعزز من عمل «نظرية العقل»، وذلك يعني أنها تقوي قدرة الإنسان، حيث يستطيع تخيل وفهم الحالات الذهنية للآخرين، وربما نستطيع أن نلحظ أن قراء الروايات تحديداً هم الأكثر تعاطفاً وفهماً لإنسانية الآخرين، وذلك لكونهم يرتبطون عاطفياً بأحداث الروايات. وأنا أركز هنا على أن الروايات حتى وإن كانت لا تحتوي على كم معرفي كبير لكنها لا تتجرد كلياً من كونها سجلا تاريخيا أو وثيقة كما يسميها البعض حين يعيد الروائي كتابة أحداث معينة وتاريخ محدد بطريقته النقدية، وأحياناً قد تحمل الرواية معنى موسوعة، لأنها تتسع فعلياً لعلوم إنسانية مختلفة خلال صياغة الكاتب لها بطريقة فنية تعبيرية مختلفة.
الرواية يستحيل علينا أن نعتبرها هامشا، بل هي تجربة يتفرد الشخص في خوضها، فلنتصور أن أحداً يقف أمام لوحة تشكيلية نستطيع ملاحظة أن مدة الوقوف أمام اللوحة تختلف من شخص لآخر، وهذا ليس فقط لأجل الخلفية التي يعرفها عن اللوحة فقط ولا بسبب المعلومات المكتوبة بجانب اللوحة، بل هذا يدخل فيه تجربة الإنسان الفردية حيث إنها قد تثير فيه عواطف تختلف منه لشخص آخر، تماماً فهذا ما تفعله الرواية، فهي لا تستخدم عقلك بقدر أنها تقبض على عواطفك وتحاول أن تربطها بذكرياتك ومشاعرك وتجاربك وتصل لأبعد من ذلك، حيث إنها قد تترك فيك عمقاً وأثراً لا يزول أثره سريعاً، فهي تستفيض فيك وتحتل الروح، وهذه من أعظم القيم. اعتبروا الرواية كأنها الطين الذي مزجته مشاعر الكاتب بماء روحه فأخرجها متسعة ليستطيع القارئ خلالها وبين فواصلها أن يندس بمشاعره وأفكاره ويقيس تجاربه فيها حتى إننا غالباً كقراء لا ننتهي من قراءة رواية ما دون أن نترك أجزاء منا مدسوسة فيها، وما إن نعود إليها بعد زمن حتى نلتقي بشيء منا كنا قد نسيناه أو طويناه مع الأيام في صفحاتها. وهذا ينطبق على الفنون بشكل عام. العلاقة بيننا وبين الفن علاقة تبادلية، تقرؤنا ونقرؤها ونتبادل أطراف الحديث معا، الفن في النهاية هو السؤال والجواب، الحقيقة والخيال. والرواية بصورة خاصة تستطيع أن تصنع فوهة معينة في عقولنا ثم تتسرب لتغربل طريقة تفكيرنا فينعكس ذلك في رؤيتنا العامة للحياة، فبعض الفنون تحكي دون تعبير لكن الرواية والقصة والسينما هي التعبير عن فصول معينة مرت أو لم تمر بعد في حياتنا حتى لو أنا لا نريد أن تكون كذلك.
إذاً فالفن لا يقل أهمية عن العلم، لأنه يفسر الحياة الجوانية والعلاقة الإنسانية، والتعقيدات النفسية. بل هو يستطيع ببراعة إظهار الجمال، وتصوير الغموض في مستوى جمالي حتى وإن صعب على العقل تفسيره لحظتها. يقول هويزر في تعريفه للعمل الفني «إن العمل الفني شكل ومضمون، اعتراف ووهم، لعب ورسالة، هو قريب من الطبيعة وبعيد عنها، هادف ولا هدف له، تاريخي ولا تاريخي، شخصي وفوق شخصي في الوقت نفسه».

بين المعلومة المجردة والسلوك الذي تطلبه.. مسافة فاصلة

نشر في صحيفة مكة

نلاحظ مؤخراً أن هناك تدفقا كبيرا للمعرفة ولسيولة المعلومات عبر الشبكات الاجتماعية بحيث أصبحت عقولنا تدخر تلك المعرفة بطريقة سريعة وبشكل واضح، فنجد أن الغالبية منا أصبح يأخذ تلك المعلومات بمحمل الجد ويعطي لها في حياته ومن منبره وفي تغريداته صوتاً ويتبناها كرأي وفكرة.
لكن الجدير بالذكر هو أننا على الرغم من وفرة المعلومات فإننا نجد أن هناك فجوة هائلة بين القول والفعل، فنلاحظ أن أحدهم يتحدث في أمر وما إن ينتهي من حديثه حتى يقوم بما يخالفه، كما أنه في نفس الثانية يقوم بالنقيض تماماً. وقتها يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل البسيط، كيف يقوم الناس بعكس ما يؤمنون؟
دعونا نتفق بداية أن هذا يحدث وبطريقة متكررة وبشكل كبير جداً، أي أن الغالبية العظمى من المجتمع يخزن المعلومات والمعرفة في وعاء عقله أكثر من أن يطبق ما يعرفه أو ما يدعي أنه جزء من يقينياته. في الحقيقة أن المسألة لا تكمن في المعرفة فقط ولا حتى مجرد ادعاء الإيمان بها يساعد في نقلها من كونها فكرة لسلوك، فيجب على الشخص أن يفعّل هذه المعرفة في ذاته، حيث إن الفكرة أو المعلومة يستحيل لها أن تتفعل بطريقة تلقائية في الشخص دون أن يفعل حيالها أي شيء، فالمعرفة وحدها لا تستطيع إدخالها في دائرة الوعي بشكل مباشر، ونستطيع لمس هذا الأمر كثيراً فيمن حولنا، لكن السؤال الأهم: هل جميعنا يلحظ تلك الفجوة في نفسه؟ هل يتحسسها داخله؟ هل يعي حجمها واتساعها فيه أم أنه يتجرد منها ويراها في غيره دونه؟ غالباً قد يحدث هذا الانفصال أو كما قلت سابقاً تتسع تلك الفجوة بين المعلومة المجردة والسلوك الذي تطلبه المعلومة. وكل ما يحصل نتيجة لذلك هو أن الشخص غالباً يتبنى المعلومة أو الفكرة بحيث يميل فقط للاستدلال والإشارة لها وحتى الدفاع عنها مع غالب الظن أنها أصبحت جزءا منه، وفي الحقيقة أن كل ما يصير إليه هذا الشخص هو أنه يصبح كثير الانتقاد وكثير الشكوى من أفعال الآخرين، دون إحداث تغيير فعلي في ذاته وفي سلوكياته من خلال معرفته المعلومة. نلاحظ أن معظم الأشخاص في هذه الحالة يكونون قد أحدثوا حاجزا وهميا بين الأمرين -المعلومة والسلوك- حيث إن الشخص لا يدرك حقيقة أن كل ما يمتلكه في تلك اللحظة؛ ونقصد لحظة سرد المعلومة التي في عقله بأنها لم تتجاوز وعاء العقل، أي أنها لم تنتقل إلى جسده وسلوكياته بعد. فجسده ما زال يمارس السلوك التلقائي القديم المترسب فيه. ولإصلاح هذه المشكلة يجب على المرء استحضار تركيزه ووعيه إلى حيث يصبح قادراً على تطبيق تلك المعرفة ونقلها من الموقت إلى الدائم، ومن الفكرة إلى السلوك. ولا يعتبر هذا الأمر أمراً يسيراً أو أن إحداثه يكمن لمجرد هذا الاستجلاب وهذا التركيز. بل تشير بعض الدراسات إلى أن بعض السلوكيات لسنا نملك فيها إرادتنا الحرية، لكن تظل المحاولة والتركيز عليها واستحضارها من الأمور التي تساعد على التخفيف من حدة ما لا نملك إرادة فيه وتمكننا من تغيير ما نملك الإرادة فيه. فيقول برتراند راسل «إنه من الممكن زرع الفكرة الواعية في اللاواعي إذا تم ذلك بقدر مناسب من القوة والشدة». ويقصد هنا بأن اللاواعي غالباً ما تكمن فيه الأفكار العاطفية جداً وهذا يدلنا على أن باستطاعتنا دفن أفكارنا عمداً فنجعل اللاواعي يقوم بعمل مفيد أي بالاستغراق في تمكين الفكرة فيه إلى أن تنتقل إلى السلوك التلقائي. فقد قال راسل أيضاً: إن أفضل خطة هو أن أفكر في الموضوع بتركيز شديد لساعات، وعند نهاية هذه الفترة أعطي الأوامر، مجازاً، بأن يتقدم العمل في اللاشعور، وبعد عدة شهور أعود واعياً إلى نفس الموضوع وأجد أن العمل قد تم إنجازه فعلاً.

تنبيه: يجب على الأطفال مشاهدة فروزن Frozen

*نشر في صحيفة مكة

اخر حكاية أنتجتها ديزني هي حكاية «فروزن» التي لم تكن على طابع ديزني المعتاد، ولا على شاكلة أفلامها السابقة، لا أقصد من ناحية الإخراج البصري والفني، أي ليس من ناحية جمالية الجرافيكس والرسومات المذهلة أو الموسيقى، وهذا مما لا شك فيه شيء أصيل في إنتاجات ديزني منذ أن وُلِدَتْ، بل أتحدث هنا على مستوى آخر، مستوى تربوي أكثر وعيا بحكم أنها من أهم الشركات العالمية لصناعة الأفلام وصياغة الحكاية، فعلى ما يبدو أن شركة ديزني أخيراً أدركت أن قصص الحب لا تتمركز ولا تتمحور فقط على الحب الذي ينشأ بين الجنسين، أو دعونا نقول أنها أدركت بأنها يجب أن تغرس مفهوما جديداً لدى الأطفال عن الحب، ولو من باب التعزيز.

سأتحدث عن فيلم «فروزن» وأعرج على ناحيتين تربويتين مهمتين، وخلالها سيظهر جواب لسؤالكم الذي نتج عن عنوان المقال: لماذا يجب على الأطفال مشاهدة فيلم «فروزن»؟
خلال مشاهدة فيلم فروزن سنلاحظ بعداً مهماً تمحورت فيه القصة وهي أنها صورت بداية حياة فتاة خلقت بموهبة عظيمة إلا أنها أقحمت في طفولتها على قمعها حتى تحولت إلى هاجس مخيف يؤذيها ويؤذي كل من يقترب منها، ومن هذه النقطة نستطيع إسقاطها على الواقع ونقول بأن العديد العديد في واقعنا يعيش معاناة هذه الفتاة، فكم من أطفال يمتلكون مواهب لكنهم يخشون إظهارها أو يتم تجاهلها حتى تندثر مع الوقت فلا يعود لها بريق، إنها قصة تحكي واقع الموهوبين على الأرجح وخصوصاً أولئك الذين لديهم مواهب مختلفة كلياً وغالباً لا يستطيع إدراكها بعض المربيين فيقتلوها داخل الأطفال مبكراً، لكن موهبة أميرتنا في الفيلم لم تقمع فقط بل جعلتها تخشى المواجهة، وأودتها لتقيم وحيدة في قصر ثلجي، وهذا يشبه كثيراً الأطفال الموهوبين الذين يعيشون متوحدين ومتقوقعين مع ذواتهم في حيرة وقلق إلى جانب أنهم محرومين من استخدام مواهبهم لسبب بسيط هو عدم إدراك المربين سواء والدين أو معلمين لهذه المواهب وتفعيلها. لكن الأميرة في النهاية استطاعت التغلب على الخوف واستثمار موهبتها بمساعدتها لنفسها بدافع الحب وهنا إشارة بسيطة قد يدركها الأطفال عاجلاً أم آجلاً بأنهم في وقت ما سيكونوا هم المسؤولين عن مواهبهم واكتشافها وتفعيلها.
إضافة إلى فكرة أخرى مهمة، ومحورية تستطيع أن توسع إدراك الطفل لمفهوم الحب، بل وإدراك قيمة الحب تجاه الآخرين الذين يعيشون على مقربة، نسكن معهم ويسكنون معنا، دون أن يفكر بعضنا من يقول لهم كلمة حب واحدة، ففيلم «فروزن» لا يحكي قصة تشبه سنووايت وقبلة الحياة من فارس وسيم أحياها من بعد غيبوبة،
ولا سندريلا وفارسها الذي جاب المدينة باحثاً عنها ليجدها ومن ثم ينقذها من عذابات زوجة والدها، ولا تشبه أي من قصص الفيري تيلز، قصة فروزن حكاية جميلة جداً، تحكي علاقة حب أكثر اتساعاً وأكثر صلابة، ذلك الحب الذي لا يصدأ ولا ينهار أمام كل الخلافات. الأميرة في هذه القصة تختلف عن سنووايت وسندريلا حيث لم تشف من لعنتها بفعل ساحرة، الأميرة التي لم تنته على يد رجل ولم تبتدأ بقبلة منه، بل هي ببساطة شفيت بواسطة حب أخوي صادق، كان حضناً أخوياً كما صوره الفيلم. وهذا تحديداً ما يجعلني أقول إن ديزني انتقلت نقلة نوعية في فيلمها الأخير، حيث أنها أخيراً اتخذت منحنى آخر، وحطمت أسطورة قبلة الحب الحقيقي واستبدلتها بفكرة أكثر نضجاً، هي أن الحب الحقيقي لا يرتبط دائماً برجل، مع مراعاة الغريزة الطبيعية للأنثى، حيث إنه لم يكن مستتراً بل واضحاً خلال الأحداث. الفيلم صور معنى الحب في أسمى حالته وأروعها على الأرجح، كان حباً ناعما براقاً بين أختين.
تشكر ديزني لتبديدها خرافات الفيري تيلز المعتادة، نرفع لها ولهذا العمل العظيم قبعة الاحترام، نستطيع القول بأن فيلم «فروزن» حاول علاج أمرين مهمين، الأول: على الموهبة، هو وإن حُرم الطفل في طفولته من يقوده لتفعيل موهبته، فإنه سيدركها مع الوقت ويحررها من مخاوفها ويطلق لها العنان، إلى جانب رسالة للمربيين، لا تقمعوا مواهب أطفالكم بل انعشوها. والثاني: على القلب، حين وسعت مفهوم الحب والعلاقة الحقيقة فيه واستبدلتها بقاعدة حب جديدة يغفل عنها الناشئة غالباً وهي أن الحب الحقيقي غالباً ينشأ في العلاقات بين الأصدقاء والأخوة ومع الوالدين وليس محصوراً في اتجاه واحد؛ تجاه فارس الأحلام، كما أنه لا يلغي ولا يطغى أي من أشكال الحب على الآخر.

المواجهة الصعبة.. لا أحد يستطيع تقليص النواقص فينا سوى ذواتنا

*نشر في صحيفة مكة

إن البشر كما يقول علي عزت بيجوفيتش «إما أخيار أو أشرار ولكنهم ليسوا أبرياء» ثم يؤكد على أن مسألة حرية الاختيار في كونه شريراً أو خيّراً هو المعنى في أن يكون إنساناً. ومن هذا المنطلق نستطيع القول إن فعل محاسبة النفس هو فعل إنساني اختياري، كما هو فعل تقييمي لإظهار الإنسان الذي بداخلنا ما إذا كان من الأخيار أو الأشرار.
فلنفترض إذاً أن الأصل في أغلب مشكلات الإنسان هي أنها نابعة من ذاته -حيث أراه أمرا منطقيا- لذا فإن أول ما نقوم به على سبيل المثال حين يحدث أي خطأ أو خلاف بيننا وأي شخص هو رد الاتهام بطريقة تظهرنا بريئين بينما الطرف الآخر هو المذنب أو الشرير حتى وإن لم يكن كذلك، فإن ردة الفعل هذه أو ما نسميه دفاعا عن الذات هو ليس خطأً في حد ذاته بل الخطأ يكمن في الطريقة، ولأن الإنسان في أصله حذر فإنه يحاول غالبًا أن يكون حاضراً بأي رد يدعم موقفه بغض النظر عما إذا كان صحيحاً ومناسبًا، ونلاحظ أن أسهل الدفاعات التي يدافع المرء بها عن نفسه هي إنكار هذا الخطأ، وقد لا يكتفي بذلك بل ينتقل لمرحلة التبرير ثم تصديق ذلك التبرير ويصل به الأمر إلى نفي الخطأ تماما عن إدراكه، فيرتاح ضميره أو يموت. لكن تلك العملية في الحقيقة غالباً ما تكون هروباً من الذات التي أخطأت في فعلها مع الآخر، فتدافع وتبرر بكل جسارة وبطريقة مقنعة لحد ما وليس هدفها إقناع الآخرين بقدر أن تقتنع هي، حد أن لا يعود هناك ذنب يجعلها تفكر في احتمال أنها هي المخطئة.
بطريقة أخرى.. نحن ببساطة نتسلح ثم نهاجم الآخرين بقدر دهائنا دون أن نشعر أو بقدر النقص بداخلنا، ذلك النقص الذي هو نتيجة لقسوة الحياة ربما. لكن المشكلة أنه كلما اتسعت تلك الفجوة بين الشخص وذاته بإهمال مراقبتها ومحاسبتها اتسعت فجوة هذا النقص وتلك الغربة حتى لا يعود المرء يميز حقاً إن كان هو من يرتكب تلك الحماقات مع الآخرين أم هم. لا أحد يستطيع ردم أو تقليص النواقص فينا سوى ذواتنا، وكلٌ حسب طريقته وعمق صدقه مع نفسه.
فيحكى أن تولستوي كان صارمًا وحازمًا مع ذاته جداً، كان له نهجه الخاص في تعامله مع نفسه، انتهج ما اسماه ب «الحراسة الخاصة على الحياة الشخصية» حيث أنه كان يجمع شتات قلبه ويغسلها تطهيرًا وتوبة، كان يحاول محاسبة نفسه باستمرار كإنسان، ويراقب نفسه رقابة شديدة. فقد وصف رجاء النقاش في كتابه -تأملات في الإنسان- طريقة تولستوي قائلاً: «كان تولستوي يضرب نفسه بسوط لا يرحم، ويراقب نفسه بدقة وقسوة وكأنه قد انقسم إلى شخصيتين، إحداهما تعادي الأخرى فتقول لها عيوبها بلا خوف ولا مجاملة» ولأن الهدف الرئيس من هذه العملية هو التصحيح والتقويم فدعونا نطلق عليها مسمى عملية تصحيح الذات وليس الضرب أو الجلد وإن كان مجازاً. ومن هنا نستطيع أن نستشف الصدق في معاملة تولستوي لنفسه، فهو لم يكن جباناً ولا خوانًا لذاته أو مدارياً لضعفه أبداً، بل يقبل ضعفه بشجاعه ويثق بأن ما يفعله لن يترك إلا عمق المعنى الذي سيجعله آجلاً أم عاجلاً أكثر جمالاً مهما سبب ذلك له من ألم.
وخلال سيرته نلاحظ كيف كان تولستوي يهتم في تعاملاته مع الآخرين ومثال ذلك أن منزله كان محطة أو مأوى لمن يحتاج، كذلك جعل من أرضه الزراعية وقفًا للفلاحين، كان رجلاً يحاول من خلال مراقبة نفسه وتحريضها واختيار البدائل أن يكون خيّرًا وذلك يوافق تماماً فكرة علي عزت بيجوفيتش في قوله «إن اختيار الإنسان الوحيد هو أن يكون إنسانا أو غير إنسان».