النص الخامس من سلسلة طوابع؛ أقصوصات بسيطة من الواقع أعيد كتابتها ..
كانت تمشي في أزقة تلك المدينة، توقفت عند محل صغير يقع في زاوية الشارع، لا اسم واضح عليه. في واجهة المحل فتاة تشبه دمية صندوق الموسيقى إلا أن لها ملامح مألوفة، ورجل محني رأسه ممسكاً بعود عتيق، اقتربت من الزجاج، اسندت يديها وكاد أن يخترق وجهها تلك الواجهة لقربها منها، أمعنت النظر وأطالت حتى قررت الدخول. بوابته أصغر حجماً منها بقليل، انحنت ووضعت رجلها فأصابتها قشعريرة لا تعرف سببًا واضحاً لها، أغفلت مشاعرها على الفور ودخلت..
لم يكن هناك أحد، كان المحل ضيقاً لدرجة أن لا أحد باستطاعته الوقوف داخله أكثر من أربعة أشخاص مما يعني ثمانية أقدام بالتمام. كان فارغا إلا من رفوف تراكم فيها عدد كبير من اسطوانات موسيقية ضخمة، رُتبت بعشوائية، ارتكزت أربع أرجل إضافية لطاولة صغيرة بجانب الجدار ليصير إجمالي الأقدام الممكن تواجدها في تلك المساحة اثنا عشر قدماً..
كان المنتصف مرتفعا قليلاً، مُشكّلاً دائرة صنعت من الفسيفساء وألتصقت على الأرض. كأنها منصة للرقص، وإن كانت كذلك فهذا يعني أن هذا المكان لايتسع في الحقيقة إلا ل4 أقدام راقصة. كان الجدار معتقاً، والرفوف خشبية ومزخرفة، توجد في الزاوية مخطوطات اكتست أوراقها لوناً بنياً.. على تلك الطاولة المركونة في الزاوية مشغل اسطوانات عمره لا يقل عن التسعين. لم تستطع أن تتعرف على شكله بدايةً.كان مذهبا رأسه، ومنفرجاً، يشبه الفم في طريقة غنائه موالاً لا ينتهى مداه.. أو كوجه دائري بعنق صغير يحاول أن يكون حكّاءً.
كان يخرج من ذلك البوق -لو حاولنا انصافه وصفاً- لحناً لم تسمعه هي من قبل.. وكلما اقتربت منه كانت تسمع غناء خافتاً يتخلل تلك الموسيقى، بلغتها الأم.. تلك التي نسيت أنها عرفتها يوماً، كانت تحاول أن تفهم تلك اللغة بصعوبة؛ لم تعرف.
رفعت ابرة القراءة عن الاسطوانة لأن ذاكرتها دخلت في عاصفة من الأفكار بعد التلامس الذي حصل بين الماضي والآن.. أخذت تقلب عينيها في المكان بإمعان، لأن حميميته استدعت ذلك، هل المكان موجود في ذاكرتها المنسية؟ أخذت تتأمل في الأرفف طويلاً إلى أن وقعت عينيها على أسطوانة من الواضح أنها موضوعة بطريقة أكثر عناية من غيرها؛ في صندوق خشبي محكم إغلاقه. أخذت الصندوق دون حذر، وفتحته.. وضعت الاسطوانة بسرعة وكأن الوقت يساومها على تلك اللحظات إن لم تستغلها بشكل سريع ستنتهي إلى اللاشيء. غنت على وقع تلك الموسيقى غير المعروفة وبدأت الرقص في تلك المساحة المكللة بالألوان والمزخرفة بدقة وجمال يفوق الوصف.. حكم شعورها عن تلك اللحظات بالأبدية..
رفعت أحد قدميها ووقفت على أطراف اصابعها و أثنت قدمها الثانية ثم رفعت يدها نحو البعيد ودارت حول ذاتها.. ناصبة رأسها إلى الأمام متتبعة اللحن.. مبتدئة تلك الرقصة بدندة مع التغني بشعر تفجر معناه في لحظتها، لم تكن تعرف هل كان محفوظاً مسبقاً في الذاكرة أم أنها اخترعته حينها.. لم تكن تعي أنها كانت تصنع في تلك اللحظات أغنية أبدية، وأبديتها في كون أن ذلك الغناء يسجل على الاسطوانة دون أن تعرف.. فكم من أحد سيعبر هذا المكان لاحقاً وسيسمعها؟ كانت الاسطوانة الضخمة قد سجلت صوتها.. همساتها، شعرها وأغنياتها.. كانت تتدرج النوتات تباعا بتناغم فريد بين شعرها والسلالم الموسيقية.. صولو الكمان يتداخل مع القانون ويقاطعهم الناي أحيانا لتتشكل المعزوفة الكاملة.. أما البيانو فلم يكن موجوداً في تلك اللوحة.
كانت تتراقص كدمية أحيانا.. ترتجل حركاتها بعينين مغمضتين.. مستعيرة تلك الخفة من ذاكرتها القديمة.. تلك المتطبعة بالعادات التي اكتسبتها في رحلتها الطويلة بعيداً عن مسقط رأسها.. فتحت عينيها.. رأت صورتها منعكسة على مرآة لم تلحظها منذ البدء.. كانت صدمتها قوية حين رأت ملامحها في سن تجاوز الخمسين وقد امتلكت تلك الروح الشابة التي من شبابها كانت قادرة أن تصوغ الأبدية في كل لحظة.. كانت قد شكت في أنها تسكن ذلك المكان أبداً ولم تغادره منذ شبابها.. لكنها مخطئة.