الأشجار ومعنى الإنتماء والحياة (مترجمة)

* نشر في ساقية

هرمان هيسه (1877-1962) هو كاتب وشاعر وروائي سويسري، حاز على جائزة نوبل للآداب عام 1946.

في ترجمة حصرية لمقالة المدونة الشهيرة (ماريا بوبوفا)، حملت عنوان “هرمان هيسه وماذا تعلمنا الأشجار في معنى الإنتماء والحياة“، تقول (ماريا):

أستيقظت هذا الصباح لأكتشف أن أحد الشجيرات قد نبتت في وسط المدينة التي أسكنها، اخترقت الصعوبات لتمتد وتكبر وتتفرع وسط طوب المدينة وخرساناتها، صارت أشبه بحديقة، وكل مقومات نموها هي تربة صغيرة لا تصلح لتكون أساساً لهذا العيش. اندهشت لهذا الحدث الاستثنائي وقلت: يالهذه المعجزة، هي رسالة فحواها تقول أننا لا يجب أن ننتظر أذناً من الحياة لنعيشها.

هذا الحدث غير المعهود ذكرني بنص للعظيم هرمان هيسه كنت قد قرأته في كتابه : (الأشجار: تأملات وقصائد).

يقول هيسه: “بالنسبة لي، الأشجار عادة ماتكون المبشر أو الواعظ صاحب النظرة المخترقة للمألوف والنظرة البعيدة.

أقدس الأشجار حين تعيش وسط القبائل وفي الغابات والبساتين، وأقدسها أكثر حين تقف وحدها صامدة، وتعيش بمفردها، تشبه في ذلك الإنسان الوحيد. ليس في طبعها أن تكون كناسك خسر ذاته ونفسه وبقي وحيداً بضعف، بل تقف وحيدة كأولئك العظماء، والجنود الأقوياء، أمثال نيتشه و بيتهوفن.

في عالمها تحدث حفيفاً وخشخشة في أعلى مستويات أغصانها ارتفاعاً، كما أن في جذورها تلقى راحتها حيث عمقها اللانهائي. هي لا تخسر نفسها حيث تكون فتلك الأغصان والجذور تصارع وتناضل في حياتها لأجل شيء واحد فقط وهو أن تعيش ضمن قوانينها الخاصة، وأن تبني ذاتها على شكلها الذي تريد، لتكون مثالا لنفسها.

لاشيء أكثر قداسة ولا شيء أكثر مثالية من شجرة جميلة قوية. في اللحظة التي تقطع فيها تلك الشجرة فإن جرحها يتكشف عارياً لأشعة الشمس، حيث يقرأ تاريخها المرسوم في جذعها كحلقات مستديرة بضوء نوراني، جروحها، نضالها، معاناتها، وأسقامها، وسعادتها وكل حقائقها محفورة على هذا الجذع بكل السنوات الضيقة والفاخرة، وبصمودها أمام الهجمات والعواصف والكوارث.

إن المزارعين الشباب يعرفون جيداً أن أجود أنواع الخشب الذي تكون حلقاته ضيقة والذي ينمو ويكبر في أعالي الجبال حيث أنه كلما  وجدت تلك الأشجار وحيدة في مناطق نائية وخطيرة فإنها تكون أقوى وأكثر مثالية.

إن الأشجار معابد للذين يجيدون الحديث معها، ويجيدون الإصغاء إليها، هي تعلمهم الحقيقة. فالأشجار لاتدعي أنها ابنة الدين أو التعاليم، هي تعظ وتبشر خلال قانون الحياة القديمة دون أن تعترض للتفاصيل.

قالت شجرة: في داخلي يختبئ جوهر الحياة، البريق، الفكرة، أنا حياة ممتدة للحياة الأبدية. إن كثرة المحاولة والمخاطر الفريدة والمختلفة أخذتني للأبدية كأم. هي فريدة من نوعها كأنها أوردة ممتدة في داخلي، هي فريدة لحد أن تكون موجودة في ندبات أصغر الأوراق في أغصاني، هذا ما شكل الأبدية في تفاصيلي الخاصة الصغيرة.

قالت شجرة: أثق بقوتي، لا أعرف أي شيء عن أبائي، لا أعرف أي شيء عن ألف طفل أنجبته للربيع، أعيش بأسراري حتى النهاية، أثق بأن الخالق في داخلي. أثق بأن عملي مقدس، ولهذا أثق بأني أعيش.

في تلك الأوقات التي نصاب فيها بالمحن، حين نكون عاجزين للدرجة التي نشعر فيها أننا لن نصمد في وجه الحياة أكثر يجب أن نقف أمام شجرة، لأنها دائماً تحاول أن تقول لنا شيئا مثل : حاول البقاء، اصمد أكثر، بل أنظر إلي واصغي جيداً، الحياة ليست بتلك السهولة ولكنها أيضاً ليست بالصعوبة التي نظن، ماتمر به مجرد أفكار متطفلة، فالوطن ربما ليس حيث أنت وربما لن يكون في مكان آخر، لأن الوطن يجب أن يكون في داخلك وإلا لن يكون أبداً.

في الليل وحين أسمع الصوت الهارب من أوراق الشجر الناتجة عن حركة الرياح أصاب بشعور في قلبي كبكاء المشتاق. إذا استمع أحد ما لذلك الصمت فترة طويلة فإنه سيكشف عن معناه، هو ليس سبيلاً للهرب من المعاناة عالرغم من أنه يبدو كذلك، هو حنين إلى الوطن الأم، للحياة القديمة حيث أنه ليس دليلاً على استعارات جديدة للحياة. هو الطريق المؤدي للوطن، هو الخطوة لولادة جديدة، وربما خطوة للموت، وكل أرض وإن كانت أشبه بقبر فإنها في النهاية ستكون الأم التي تلدنا من جديد.

الأشجار لا تصدر صوتاً في المساءات التي نقف فيها قبالتها محملين بأفكارنا الطفلة كأن صمتها إنصات: للأشجار أفكار ممتدة بعمق جذورها وبطول أغصانها، لهذا فإن لديها نفس طويل لسبب أن حياتها تتعدى طول حياتنا، فالأشجار أكثر حكمة منا ونحن لا نستجيب لحكمتها لأننا نصم أذاننا عنها. لكن من يأخذ فرصة الإستماع إلى الأشجار فإن الإيجاز والتسرع الطفولي للأفكار سيحقق بهجة لاتشبه شيء آخر.

الذي يستمع للأشجار بتفكر وفهم لن يتمنى أن يصبح شجرة، بل سيبلغ مرحلة التقبل لنفسه كما هو، لأن نفسه هي الوطن وهي السعادة.