الحاجة وليدة الاختراع!

*نشر في صحيفة مكة 

بعد الإعلان عن الآي فون الجديد لربما أول رد فعل ظهر من الجمهور بشكل عام هو التعبير عن مدى احتياجاهم الفعلي لبعض أو كل التجديدات والخصائص المضافة له، ولا أعلم نسبة الطلب التي تمت خلال ليلة واحدة، إلا أن الكثيرين بعد المؤتمر مباشرة أعلنوا بشكل صريح عن مدى رغبتهم وحاجتهم لاقتنائه.

لكن لو نتأمل قليلاً فإننا سنستنتج بطريقة أو بأخرى أن الحقيقة مغايرة! لربما تكون تلك الحقيقة هي أننا نعيش حياتنا على الزيف وربما الوهم، وأقول ذلك لأن الغالبية ببساطة قبل الإعلان عن الآي فون لم تكن تأبه لتلك المستجدات ولم تكن تفتقدها أبداً لكن لمجرد الإعلان عنها توهموا تلك الحاجة.
وهنا يجب أن نقف قليلاً على عبارة «الحاجة أم الاختراع» فمؤخراً لم تعد الحاجة سبباً للاختراع بل الاختراع بحد ذاته يولد الحاجة! ومن هذا المنطلق لا يسعني إلا أن أتذكر أفكار عبدالوهاب المسيري وطرحه بخصوص الاستهلاك ورفع مستوى الحاجة الفردية للإنسان ليكون مستهلكاً بدرجة أولى، فيقول: إن الاستهلاك يعني التخلي عن مجموعة ضخمة من القيم الإنسانية المهمة، وهنا يقصد بالضرورة الاستهلاك حين يصبح هو المركز وهو القاعدة، أي حين يتحول العالم ليتمحور حول الأشياء المادية التي لا تتجاوز الحواس، وقد ذكر في هذا مثالاً لفكرة الوجبات السريعة كيف أنها مثال في إلغاء فكرة الجلوس مع العائلة في مائدة واحدة في ساعة واحدة لتناول وجبة الغداء التي تم إعدادها في المنزل، ويقصد هنا أن أحد أسباب عدم التقاء العائلة ما هو إلا نتيجة لمركزية الاستهلاك، أي إلغاء قيم إنسانية مهمة مقابل هذا الحل ذي الطابع المادي، لكن د. المسيري في المقابل لا يطالب بإلغاء تلك الوجبات ولا تحريمها لضرورتها.
ونلحظ هنا أن مجتمعاتنا أصبحت استهلاكية حتى أنها ما عادت تسأل نفسها عن المعنى من اقتناء المنتج الذي تستهلكه ولا أهميته الحقيقية.
ونستطيع هنا أيضاً إسقاط أطروحة المسيري مرة أخرى وهي التي يذكر فيها بإسهاب تحويل الإنسان إلى شيء عبر الثقافة المادية البحتة التي غزت العالم، وذلك خلال إزاحة الإنسان من المركزية لتحل محله السلعة، أي تصبح أكثر أهمية منه، حيث كان يذكر في أحد مقالاته بأن هذا الغزو لا يقتصر على الشرق، فهذا وهم، بل نلحظ أنها نتيجة طبيعية لمد الحضارة المادية، وذلك يعني إلغاء خصوصية المجتمعات جميعها حتى الأوروبية منها عبر فرض طابع واحد وتقاليد متشابهة.
ونستطيع ضرب مثال بسيط هنا وهو الموضة، فكيف أصبحنا لا نلبس فحسب بطريقة متشابهة بل ذلك يمتد ليشمل اللون بحسب فصول السنة، وشكل الحذاء وطول الكعب، ومن المناسب أن أذكر هنا أني قرأت ذات مرة في أحد الموضوعات المهتمة بالأزياء أن الحذاء الذي يبلغ طول كعبه كذا سنتمترا فيستحسن ارتداؤه في السوق والأعلى منه لليوميات، والأعلى للمناسبات وهكذا.
فها هو موضوع الاستهلاك يجرنا لنكون مستعبدين ويضيق من حرياتنا الحقيقية، فمن الذي يفرض على الحر ما يرتديه، وكيف يرتديه وكيف تصبح الأمور الشكلية أهم من ذوق المرء الخاص وراحته؟!
أخيرا وبعد هذا الطرح، فإن ما يجب علينا الوعي به حقاً هو أن العبودية لها أوجه عدة ومعان عدة، إلا أن أحد أوجهها يظهر بشكل مغر، حتى أن المرء ينخرط فيه دون وعيه التام لأبعاده، بينما أوجه الاستعباد الأخرى تحصل بشكل قهري.
نحن بحاجة حقاً لأن نفكر كثيراً ونتساءل دائماً قبل اقتناء وقبل اتباع أي شيء، أي في الفكرة وأبعادها، وفي السلعة وأهميتها، هل هذا ما أحبه حقاً، لماذا أقتنيه؟ أو لماذا أريده؟ وهكذا.
لأننا لا ندرك أن وهم حاجتنا لتلك السلع، وشعور السعادة الذي يصحبها شعور زائف يمنع المرء من استشعار ذلك الشقاء الجمعي الذي نعيشه، وكما قيل هو يمكن المرء من رؤية الرفاه في الشقاء، أي يضلل علينا الحقيقة، حقيقة حريتنا.