رسالة افتراضية

*نشر في صحيفة مكة

فتحت هذه الصفحة لأكتب وقررت أن أكتب رسالة لكل شخص اهتم لحديثي هذا أو لم يهتم، أعرف جيداً أني سأظهر فيها كوصيّ، وكمستبد يحاول السيطرة ببسط أفكاره على الآخرين، لكن أليست الرسائل افتراض صداقة بين اثنين؟ وإلا مالذي يدع الكاتب أن يستدعي اللغة الثقيلة أحياناً ليكتب رسالة؟ إذن فلتعتبرني صديقاً لا يريد منك شيئاً أبداً سوى أن يحكي لك ويشاركك بأسلوب بسيط عن فكرة تراوده.
فكرة كلما حاول أن يعيش خلالها أرهقته عجلة الزمن.
قبل عدة أيام كنت أقرأ رواية «البطء» لميلان كونديرا، تحدث كونديرا في تلك الرواية عن فلسفته قائلاً: هناك علاقة خفية بين البطء والذاكرة، وبين السرعة والنسيان.
ثم حاول بعدها إسقاط تلك الفلسفة عن طريق سرد قصتين في زمنين مختلفين، الحقيقة ليس يضيرني شيئاً الآن يا صديقي من تلك الرواية بأكملها سوى هذه الجملة «علاقة خفية بين البطء والذاكرة».
فكيف تفسر البطء على أنه الذاكرة من وجهة نظرك؟ سأقول لك ما يجول في ذهني..هل جربت مرة أخذ نفس طويل دون اكتراث للوقت! ثم أعدت أخذ هذا النفس مرة أخرى؟ هل جربت مرة أن تشرب كوب قهوتك الصغير جداً على جرعات وأنت مسترخ تماماً تسمع موسيقى تمتد لنصف ساعة على الأقل دون اكتراث للوقت؟ أستطيع تخمين ما تقوله عني الآن في نفسك بأني أجيد تضييع الأوقات الثمينة بلا حساب! فلا بأس دعك من الجملتين السابقتين، وتعال اقترب مني وجاوبني بصدق، كم مرة خطرت فكرة وقد تكون عبقرية جداً في ذهنك وتركتها تنضج في رأسك على مهل دون أن تعرقل نموها؟ وتدرسها بجدية قبل أن تعلن عنها بكل ثقة؟! والدراسة هنا في نظري تأخذ معنى «البطء».
أظن أنك الآن بدأت استيعاب ما أرمي إليه وفهمت فكرتي.
سأكون أكثر صدقاً معك، أظن أني الآن أجد مبرراً لأقول لك دعنا نعيش الحياة برتم بطيء ونتعلم كيف نترك الأشياء الجميلة تنمو وتكبر بإيقاع هادئ وبسيط داخلنا قبل كل شيء.
انظر إلى الأشجار كم تأخذ من الوقت لتنمو؟ تفعل ذلك ربما لتبقى باقي عمرها متألقة وجميلة، انظر إلى المواليد، وإلى الصيصان، حتى الغيوم لا تمطر فجأة هي تتشكل وتتشكل ومن ثم تبدأ بالهطول.
لربما السرعة وفكرة «الزمن القياسي» أوهمنا أن البطء هو المشكلة والسرعة هي الحل.
مع أن موروثنا يقول «في العجلة الندامة وفي التأني السلامة».
فكرة البطء تخص دواخلنا أكثر من أي شيء آخر.
ليس لأجل الذاكرة فقط بل من أجل اكتشافنا.
إننا نأبه للظهور ونعطيه الأهمية الكبرى لهذا نظن بأن السرعة هي الحل، ونجعله رغبتنا الأقوى فيضللنا عن إرادتنا في تمكين ذواتنا فيما نحبه دون أن نشعر.
ألا ترى معي ذلك يا صديقي؟ ألا يحدث ذلك معك؟ أنا لا أطالب أحداً بالوقوف بل على العكس،أنا أطالب نفسي أولاً قبل كل أحد بأن نأخذ وقتنا لننمو كالشجر.
فلربما البطء الذي أقصده بعبارة أخرى هو الوضع الأكثر واقعية من فكرة السرعة التي تبدو في بادئ الأمر أنها الأكثر جدوى.
وبهذه المناسبة سأحكي لك قصة قرأتها ذات مرة في إحدى المقالات، تقول القصة بأن مجموعة من طلاب الثانوية في أمريكا قد طلبوا من أحد الكتاب المشهورين في رسالة إقناع برغبتهم في استضافته للمدرسة، وتلك الرسالة التي كتبها الطلاب هي في الحقيقة واجب لقياس مدى قدرتهم على إقناعه، فما كان منه إلا أن قام بالرد عليهم برسالة قال لهم فيها ينصحهم ويعطيهم قاعدة مهمة للحياة: مارسوا أي فن أو هواية تحبونها، ليس مهم جداً أن تكونوا جيدين فيها بداية، الأهم ألا تفعلوا ذلك محاولة للشهرة ولا رغبة في الظهور ولا سعياً للمال، وإنما افعلوا ذلك لأجل ذواتكم، لأجل أن تنمو أرواحكم بشكل أكثر ما يكون طبيعيا وصحيا.
واستمروا على فعل ذلك ولا تتوقفوا أبداً.
وأنا أقول لك يا صديقي دعنا ننفذ وصيته هذه، فلربما تعلمت أرواحنا الاتساع بهذه الطريقة ولربما تعلمت الحب.