اسطنبول٣: رحلة البسفور

في التخطيط للسفر هناك من يفضل وضع خطة مجدولة ومرتبة جداً بكامل تفاصيلها، وهناك من يفضل وضع النقاط الرئيسية ومن ثم يضيف ويحذف، يقدم أماكن على أخرى بحسب ما يكتشفه ويجد أنه الأفضل حال وصوله المكان الذي يذهب إليه. هناك من يسافر لأجل الاستجمام والاسترخاء، وآخرين لأجل صنع مغامرات جديدة، وثلة لاكتشاف حياة أقوام آخرين. وأحسب نفسي أني من الصنف الأخير ممزوجة بالأصناف التي قبلها. فأنا أسافر للبحث عن المكنون والمستور.

DSC_0518

في أحد الأيام ونحن نسير متمهلين في ساحة السلطان أحمد أوقفنا رجل ما يتحدث العربية بطريقة مفهومة جداً يحاول ترغيبنا برحلة في البسفور عبر قارب بحري، فتح لنا خارطته و أخذ يشرح لنا النقاط التي سنمر بها وقد كانت كلها مناطق تاريخية ومباني عريقة إلا أنه خلال شرحه ذكر لنا أننا سنمر بمحاذاة قصر “نور ومهند” المسلسل التركي الأول الذي عرض على قناة أم بي سي ثم اكتسب شهرة مهولة في الخليج العربي ويقول البعض أنه السبب الأول في توجه الخليجين للسياحة في اسطنبول وأرجاءها.. المهم أني لمجرد سماعي لاسم نور ومهند لم يسعني إلا أن ضحكت، فلا ألومه لتنويهه على قصر مهند ونور أكثر من مرة، فهيأتنا ولهجتنا تدل أننا من الخليج وبعض الخليجيين لا يطؤون أرض اسطنبول إلا لأجل هذا القصر. لكنه طبعاً لن يعرف مطلقاً مدى شعوري أنا تحديداً بالإهانة من تلك النظرة وذلك التصور المرسوم في ذهنه فنور ومهند لا يعنيان لي مطلقاً ليس لأني لا أعطي قدراً للحب، بل لأن الحب في تصوري الخاص أعمق بكثير من تلك الصورة السطحية.. في الحقيقة أن هذا الرجل حاول مرارا أن يكسبنا كزبائن لكننا لم نفعل، ذلك لأن سعر التذكرة المدون في الإعلان بلغ حوالي ٢٠ يورو، ومن المستحيل دفع هذا المبلغ من قبلنا، فماكان منه إلا أن وعدنا بسعر تذكرة أرخص حيث أصبحت بعد محاولات ٢٥ ليرة تركية، ومن حسن حظنا أن الوقت آن ذاك لم يكن مناسباً لركوب القارب، وبعدها بأيام اكتشفنا أن التذكرة لا تزيد قيمتها عن ١٠ ليرات تركية !!

DSC_0524

وياللمصادفة ففي اليوم الذي قررنا فيه ركوب البسفور، حلت بعض الغيمات التي حجبت عنا الشمس، كانت ودودة معنا جداً، أظن أن جو اسطنبول مثلها يفاجئك كل لحظة فلا تكاد تتأقلم على شمسها وحرارتها حتى تأتي بعض الغيمات لتقف فوق رأسك ، وترسل معها نسمات باردة وكأنها تريد أن تقول لك مهما اتعبتك الشمس فأنا هنا بين وقت وآخرلأعتني بك وأهيء لك جواً يليق بالمكان الذي أنت فيه لنترك فيك الذكرى الأجمل، حقاً فقد فعل الجو ذلك بنا حيث أنه كان بديعاً جداً.. كانت جولة البسفورفي تلك الأجواء مذهلة للغاية.. لم يكن قارباً ولم تكن سفينة ضخمة، كانت سفينة صغيرة لا تحمل على متنها أكثر من حوالي ٤٠ راكباً. أخذنا مواقعنا في الدور الأعلى منها لنشاهد كل شيء عن كثب وحتى تكون الرؤية أكثر جمالاً. خلال الجولة كان ازدحام السفينة مزعجا بعض الشيء إلا أن ذلك الإزدحام لم يمنعني من مراقبة واستشعار جمال اسطنبول والتفكير في كل تلك المساجد والقصور والقلاع، وسرد تاريخ بعض السلاطين والعظماء الذين مروا خلال ذلك البحر في ذهني، أولئك الذين عمروا تلك الأرض، محمد الفاتح، مراد الثاني، سليمان القانوني، وكمال أتاتورك، ولا أنسى المهندس المعماري سنان باشا!! فاسطنبول تتجدد باستمرار لكنها تبقي على حلتها القديمة شامخة. ترد بها وعبر تاريخها وحضارتها في وجه كل أحد يحاول أن يهزأ منها،غير آبهة.

DSC_0538

ذلك التاريخ العريق الذي استحضرته ذاكرتي وأنا أشاهد قصر دولمابهجة الذي سكنه آخر السلاطين العثمانيين، وغيره من المساجد، تكامل مع صوت الآذان الذي أجبر صاحب القارب على وقف الموسيقى التي كانت تحاول أخذي للواقع كلما سرحت بذهني عنه. كان من الصعب جداً علي أن أراكب تلك الموسيقى مع ذلك التاريخ، فذاك الصخب لا يتناسب أبداً مع وجه الفاتح الذي يطفوا أمام عيني وأنا أشاهد أحد القلاع التي أظنها له. أنا لا أنتقد الموسيقى بشكل عام، لكني أنتقد تلك الموسيقى تحديداً التي ابتعدت كثيراً عن العراقة والتاريخ والأصالة فلم تلعب فيها آلات كالقانون والبزق مثلاً فلو كانت كذلك فلن يزعجني حينها صوتها ووجودها على العكس فلربما تقدمت إلى صاحب القارب بشكر خاص على صنعه مزاجي التاريخي بامتياز. ومع ذلك فأكثر وأجمل مالفتني هو أنه بمجرد أن بدأت تلك المآذن رفع صوتها صمتت كل الأصوات الأخرى وانتهت مؤقتاً. أدهشني ذلك الفعل حقاً خاصة وأنه تكرر في أكثر من موقع وأكثر من مرة. صوت الحق أعلى، صوت الحق أبقى.

DSC_0436

لا أعرف لو كان أحد ضمن كل أولئك السياح الذين صاحبونا في تلك الرحلة قد استرجعوا التاريخ مثلي، وشعروا بالخجل الموجع مثلي.. لكني فعلت.