*نشر في صحيفة مكة
لغة الكوميديا أو الفن الساخر لغة تترجم نفسها، لا تحتاج لمعجم لتقارب في معانيها، هي اللغة التي تشرح الوجع بشكل خفي، وتحلل أعمق المواضيع بصورة رمزية، لكن ما نجده متداولا اليوم بوصفه كوميديا هو ليس سوى فن ساذج يريد تغيير معنى الكوميديا الحقيقي، هو التعدي على الآخر بصورة مستفزة وغير مقبولة، ونستطيع أن نرمز لهذا النوع من السخرية بأنه «الاستهزاء»، وليس هذا من الفن في شيء سوى أنه لون من ألوان الضحك..يقول الدكتور غازي القصيبي «اعلموا أيها القراء الكرام أن السخرية ثلاثة أنواع: السخرية من الذات وهي سخرية المتواضع، وسخرية من الأقوياء وهي سخرية الشجعان، والسخرية من الضعفاء وهي سخرية الأنذال».
نستطيع ملاحظة نمو هذا النوع من الفن –الفن الساخر- الواعي في المجتمعات التي تمتلىء فيها أفواه أفرادها ماء فلا هي تبتلعه ولا هي قادرة على لفظه. يذكر أن فنان الكاريكاتير السوري علي فرزات حين عرض لوحة له تفسر بشكل أو بآخر شكلا من أشكال السياسة العراقية في معرض باريس في الثمانينات، طالب السفير العراقي بنزعها، واحتجاجا على ذلك وقّع عدد من الفرنسيين خلف تلك اللوحة دفاعا عن الفنان ودفاعا عن الفن «الساخر».
إن الفن الساخر يشبه في طريقته الكشاف الذي يستخدم في المناجم ليلقي ضوأه لاستخراج ما هو خفي، وهذا ما تحدثه السخرية فهي تلقي الضوء على عيوب المجتمعات، عن بؤس الواقع والحياة وما فيها من مشكلات أخلاقية، في اللحظة التي قد تكون ظاهرة ومتفشية ولكنها مستورة بستار ما، فيأتي الفن الساخر للحديث عنها بجرأة وجدية بين قوسي الهزل، حتى نجد أنه لا يستدعي فينا الضحك بقدر الرغبة في البكاء.
بحسب ما قيل عن هذا الفن، فإنه أحد سبل المقاومة، مقاومة اضمحلال القضايا وذوبانها، ومقاومة الأوجاع، حيث لا يعدو الحديث الساخر خاليا من أفكار جوهرية، بل حين تظل تلك النكات متداولة بشكل مستمر فهي تظل تغذي الفكرة بعدة شروحات وتحليلات متناولة بطريقة التهكم الواعي. فالفن الساخر هو الوحيد الذي يحلل القضية بصمت ولا يوجه للنخبة بل يمرر على أكبر شريحة من المجتمع، حتى تصبح بعض القضايا بكثير من تحليلاتها واضحة بأقل الكلمات للجميع، بل قد تختصر في رسم صامت.
لو نتتبع التاريخ سنجد أن الفن الساخر فن حاضر بشكل أو بآخر إلا أنه بدأ في الانحسار. وهذا الانحسار لا يعني انعدامه، فنستطيع أن نلحظ كم النكات والسخرية التي تفشت في الثورة المصرية في 25 يناير، لكن هذا الفن يحتاج لموهبة خاصة فهو ليس مجرد سرد، ولكنه تعرية للقبح، فهو يضع قبح المجتمعات والسياسات في قالب أقرب ما يمكن وصفه بأنه قالب الوداعة.
وأخيرا نقول ما قاله أحمد خالد توفيق «تكون السخرية على الأفكار، انظر مثلا كيف تُعلمنا السينما أن نسخر من الأحوال أو من يتأتئ في الكلام». ومن هذا المنبر نستطيع القول: إن كنا نريد أن نستعيد هذا الفن فلنعده في قالبه الصحيح وليس لمجرد الضحك.