نشر في صحيفة مكة
يختلف تأثير الأحداث الحياتية على الأشخاص بحجمها وعمقها، وغالباً ما يراد لتلك الأحداث النسيان لنستطيع بعد ذلك استعادة ذواتنا لنتمكن من المضي قدما.
أول ما يتمناه المرء خلال الأحداث المؤلمة هو نسيانها، وفي الحقيقة أن فكرة النسيان بحد ذاتها فكرة جيدة، لكن النسيان هو ليس فعلا ولا مجرد إرادة كما نظن، فالنسيان يتطلب منك أن تنسى أنك تريد أن تنسى.
بمعنى آخر، حين يمر المرء بتجربة فَقْدٍ مثلاً فهو لا يريد أن ينسى المفقود بحد ذاته لكن جل ما يريده هو ألا يتوجع لأجل هذا الفقد وألا يتوجع حين تصيبه الذكرى، والحقيقة أن هذا الأمر ليس سهلاً لأنه لا يوجد بأي حال من الأحوال أي ممحاة تمحو الألم أو تلغي الحقيقة التي حدثت وهذا قد يكون محبطاً، لكن لنبن لذواتنا قاعدة جديدة تسهل علينا وتجعلنا بدل أن نستمر مستغرقين في محاولات نسيان فاشلة أن نحتسبها نقطة لصالحنا، وهي أن بعض الخسائر في حقيقتها ليست خسائر محضة بل هي أمور نكسب خلالها ماهو عظيم لنستمر، لكنه مختلف كل الاختلاف عن توقعاتنا. أليست هذه الفكرة أكثر جدوى؟
لأكون أكثر وضوحاً، أحياناً نحن نختار بعد تفكير وإمعان في المضي واتخاذ قرارات مصيرية تكون معاكسة تماماً لإرادة الله ونحن نفعل ذلك عن جهل، أي دون أن نعلم أننا نمشي في طريق عكسي، كأمور فصلت وانقضت نتائجها وهذا قد لا يكون سيئاً على المطلق لأن الإنسان دائما ما يظن أنه يختار الأصلح لنفسه، لكن ما يجب أن نتذكره هو أن الاختيار هنا ليس إلا احتمالا قابلا للخطأ والإخفاق. وأنه مهما بلغت حكمتنا وبلغ ذكاؤنا فهو أقل محدودية من أن يخرق القدر. فالقبول هنا هو أقوى الإيمان وليس أضعفه، إلا أننا نخلط أحياناً بين ضعفنا وقوتنا، فلطالما كانت القوة في المحاولة وليست في التسليم، بينما مع الوقت يتجلى لنا عكس ذلك وهو أن غالباً في الأحداث والمصائب الكبيرة لا تجدي المحاولة، وأنه لا جدوى سوى بالقبول والتسليم.
إذا فمحاولة النسيان تتطلب منا أن نقبل بالأمر أولاً لكن القبول لا يأتي دفعة واحدة على الأرجح بل يمر بمرحلة انكسار قبلها ومشاعر متداخلة تحمل الكثير من اللوم بلو أو لماذا، فمثلاً: لو يعيدني الزمن لتلك اللحظة لفعلت كذا بدلا من كذا!! إن اعتبر الشخص مرحلة كهذه من الضعف هي المرحلة الأولى من القبول بشرط ألا يركز على أمر النسيان، فإنه يبلى بلاء حسناً.
لكن.. كيف نجعل التسليم قوة لنا لا ضعفا ونخالف الفكرة اللصيقة به؟ بصورة سريعة، علينا أن نبذل مجهوداً على مستويات ثلاثة وهي (العقل، الجسد، الروح)، فالعقل بعدم إجهاده فيما حصل وكيف حصل، أي بعدم الاستغراق في التفكير. أما الجسد فلا حل له سوى استثمار طاقاته، أي بذل جهد أكبر خلال الأعمال اليومية أو ممارسة الرياضة. والروح فنغذيها بالإيمان، بمعنى أن نؤمن بأن ما حدث هو أمر الله المقدر لنا، إضافة إلى ذلك تغذية الروح بالجمال، وذلك عبر الفنون سواء بصرية أو سمعية أو غيرها. فالعمل على هذه المستويات الثلاثة والتركيز عليها بما يشتت عنا قلق الذكرى وآلامها، لربما سيكون سبيلاً للنسيان، لكنه يقيناً سيخفف عنا وطأة الألم.
لا أظن أن النسيان بحد ذاته مطلب، فكل أمر يحدث في حياتنا هو جزء منا، وإلغاؤه يعني إلغاء شيء منا، ولا أظن أيضاً أن النسيان قرار صائب بل ربما هو قرار انفعالي، فلنفكر قليلاً فيما لو أن استجابة النسيان حدثت، كيف سيكون شكل الحياة ونحن نعيش بذكرى ناقصة؟ نحن كل ما نريده هو أن يزول الألم، والألم سيزول عاجلاً أم آجلاً، وبزواله ستغدو كل الأحداث ذكرى وتجربة أضفت لحياتنا الشيء الكثير مهما كانت قاسية ومؤلمة. إذاً لا تجعلوا النسيان الحل الأول، بل الأخير.