*نشر في صحيفة مكة
إن البشر كما يقول علي عزت بيجوفيتش «إما أخيار أو أشرار ولكنهم ليسوا أبرياء» ثم يؤكد على أن مسألة حرية الاختيار في كونه شريراً أو خيّراً هو المعنى في أن يكون إنساناً. ومن هذا المنطلق نستطيع القول إن فعل محاسبة النفس هو فعل إنساني اختياري، كما هو فعل تقييمي لإظهار الإنسان الذي بداخلنا ما إذا كان من الأخيار أو الأشرار.
فلنفترض إذاً أن الأصل في أغلب مشكلات الإنسان هي أنها نابعة من ذاته -حيث أراه أمرا منطقيا- لذا فإن أول ما نقوم به على سبيل المثال حين يحدث أي خطأ أو خلاف بيننا وأي شخص هو رد الاتهام بطريقة تظهرنا بريئين بينما الطرف الآخر هو المذنب أو الشرير حتى وإن لم يكن كذلك، فإن ردة الفعل هذه أو ما نسميه دفاعا عن الذات هو ليس خطأً في حد ذاته بل الخطأ يكمن في الطريقة، ولأن الإنسان في أصله حذر فإنه يحاول غالبًا أن يكون حاضراً بأي رد يدعم موقفه بغض النظر عما إذا كان صحيحاً ومناسبًا، ونلاحظ أن أسهل الدفاعات التي يدافع المرء بها عن نفسه هي إنكار هذا الخطأ، وقد لا يكتفي بذلك بل ينتقل لمرحلة التبرير ثم تصديق ذلك التبرير ويصل به الأمر إلى نفي الخطأ تماما عن إدراكه، فيرتاح ضميره أو يموت. لكن تلك العملية في الحقيقة غالباً ما تكون هروباً من الذات التي أخطأت في فعلها مع الآخر، فتدافع وتبرر بكل جسارة وبطريقة مقنعة لحد ما وليس هدفها إقناع الآخرين بقدر أن تقتنع هي، حد أن لا يعود هناك ذنب يجعلها تفكر في احتمال أنها هي المخطئة.
بطريقة أخرى.. نحن ببساطة نتسلح ثم نهاجم الآخرين بقدر دهائنا دون أن نشعر أو بقدر النقص بداخلنا، ذلك النقص الذي هو نتيجة لقسوة الحياة ربما. لكن المشكلة أنه كلما اتسعت تلك الفجوة بين الشخص وذاته بإهمال مراقبتها ومحاسبتها اتسعت فجوة هذا النقص وتلك الغربة حتى لا يعود المرء يميز حقاً إن كان هو من يرتكب تلك الحماقات مع الآخرين أم هم. لا أحد يستطيع ردم أو تقليص النواقص فينا سوى ذواتنا، وكلٌ حسب طريقته وعمق صدقه مع نفسه.
فيحكى أن تولستوي كان صارمًا وحازمًا مع ذاته جداً، كان له نهجه الخاص في تعامله مع نفسه، انتهج ما اسماه ب «الحراسة الخاصة على الحياة الشخصية» حيث أنه كان يجمع شتات قلبه ويغسلها تطهيرًا وتوبة، كان يحاول محاسبة نفسه باستمرار كإنسان، ويراقب نفسه رقابة شديدة. فقد وصف رجاء النقاش في كتابه -تأملات في الإنسان- طريقة تولستوي قائلاً: «كان تولستوي يضرب نفسه بسوط لا يرحم، ويراقب نفسه بدقة وقسوة وكأنه قد انقسم إلى شخصيتين، إحداهما تعادي الأخرى فتقول لها عيوبها بلا خوف ولا مجاملة» ولأن الهدف الرئيس من هذه العملية هو التصحيح والتقويم فدعونا نطلق عليها مسمى عملية تصحيح الذات وليس الضرب أو الجلد وإن كان مجازاً. ومن هنا نستطيع أن نستشف الصدق في معاملة تولستوي لنفسه، فهو لم يكن جباناً ولا خوانًا لذاته أو مدارياً لضعفه أبداً، بل يقبل ضعفه بشجاعه ويثق بأن ما يفعله لن يترك إلا عمق المعنى الذي سيجعله آجلاً أم عاجلاً أكثر جمالاً مهما سبب ذلك له من ألم.
وخلال سيرته نلاحظ كيف كان تولستوي يهتم في تعاملاته مع الآخرين ومثال ذلك أن منزله كان محطة أو مأوى لمن يحتاج، كذلك جعل من أرضه الزراعية وقفًا للفلاحين، كان رجلاً يحاول من خلال مراقبة نفسه وتحريضها واختيار البدائل أن يكون خيّرًا وذلك يوافق تماماً فكرة علي عزت بيجوفيتش في قوله «إن اختيار الإنسان الوحيد هو أن يكون إنسانا أو غير إنسان».