حكايا من قلب أوروبا

* نشر في صحيفة مكة

أتذكر هذه المعلومة جيداً حين حكاها لي العم السويسري «هايني» ونحن في طريقنا للتوغل داخل القرية السويسرية الصغيرة «أبانزل» قال: أبانزل تأخرت جداً في منح حق المرأة في التصويت، وتعتبر في التاريخ الأوربي هي الأخيرة. الحقيقة أن المعلومة هذه أخذتني للبحث عن تفاصيل هذا الحدث التاريخي، ربما لأني كنت أعتقد أن تسلسل الأحداث التاريخية في أوروبا وقع متسارعاً خاصة وأن الكثير من المعاهدات وقعت بعد الحرب العالمية الثانية، وتم تفعيل الكثير من المنظمات فلم أدرك أن سويسرا وهي التي تقع في قلب أوروبا تكون الأخيرة، وتكون هي الأكثر تمسكاً بقيود العادات من غيرها، لكنها كانت هذه الحقيقة، فالمرأة في قرية أبانزل لم تأخذ حقها في التصويت إلا خلال عام ١٩٩٠ وذلك بعد فرنسا بما يقارب ٤٦ سنة.

قامت المرأة السويسرية بمحاولات عدة مطالبة بحقها وذلك بإنشاء حملات للمطالبة ببعض حقوقها حتى إن شعار أحد الحملات كان عبارة عن نقطة سوداء في منتصف قارة أوروبا وذلك دلالة على عدم النضج السياسي للمرأة في قلب القارة -أي في سويسرا- مقارنة بالدول المحيطة بها كألمانيا وفرنسا. وفي ١٩٥٩ تم عمل استفتاء عام في سويسرا عن حق المرأة في التصويت وتم فرز النتائج حيث صوت ٦٧٪ بلا و ٣١٪ بنعم.
ربما كان هذا التصويت مخيباً لبعض النساء في ذلك الوقت، فأول من بادرت بمحاولة جادة كانت الحقوقية «كاترينا» وذلك عبر وضع صندوق اقتراع منفصل عن صندوق الاقتراع الذي وضع للرجال، تشجيعاً للمرأة السويسرية في ممارسة حقها إلا أن أصواتهن لم تؤخذ بالاعتبار لأن القانون لم يعطهن في ذلك الوقت هذا الحق بعد.
أما عن قرية أبانزل تحديداً فقد تم رفض ٩٥٪ من أهلها حق تصويت المرأة على مستوى المناطق رفضاً تاماً وقاطعاً. لكن هذه الفكرة لم تدم طويلاً في باقي المناطق -الكانتونات- فقد أُجري بعدها تصويت وكانت نتائجه عكسية، كان صوت غالبية الشعب السويسري الذي في الحقيقة لم يزد عن ٦٦٪ (بنعم)،و هذا يعني أنهم أخيراً قد تقبلوا فكرة حق المرأة في التصويت. ومن خلال ذلك نستطيع القول إن المرأة السويسرية أخذت حقها في التصويت رسمياً في ١٩٧١.
لكن ماذا عن أبانزل التي ذكرنا بأن ٩٥٪ منها قد عارضت هذه الفكرة؟ حتى بعدما تم تفعيل هذا القانون رسمياً كان غالبية رجال هذه القرية لا يزالون يرفضونه وكانوا يعتقدون أن باستطاعتهم إلغاءه مع الوقت وتم قسراً منع نساء أبانزل من مزاولة هذا الحق لفترة ليست بالقصيرة. و بسبب طول المدة في عدم منح نساء أبانزل حقهن في التصويت خلال الاستفتاءات على مدار سنين طويلة بالنسبة لما جاورها، قامت نساء أبانزل بالمطالبة بهذا الحق والدفاع عنه بأنفسهن ثم تم منحنهن إياه من قبل الحكومة، وبناء على ذلك تم تعديل الدستور وذلك بتفسير العبارة القانونية «كل مواطن» إلى «نساء ورجال» أي أنه تم منح الحق للنساء والرجال بطريقة متساوية في التصويت. وهذا يشرح و يفسر ما قاله مالك بن نبي: «إن الحقوق ليست هدية تعطى ولا غنيمة تغتصب، وإنما هي نتيجة حتمية للقيام بالواجب، فهما متلازمان، والشعب لا ينشئ دستور حقوقه إلا إذا عدل وضعه الاجتماعي المرتبط بسلوكه النفسي حيث أنه لا يحق لشعب مطالبته بحقوقه، ما لم يقم هو بواجباته.